تبدو حماسة المدير العام للوكالة الدولية للطاقة الذرية محمد البرادعي للتعامل ب"حزم" مع الملف النووي الإيراني غير مفهومة، بل غير مبررة، إلا باتساقها مع لغة الانذارات والتهديدات الأميركية، فيما تمتنع الوكالة عن توجيه انذار إلى كوريا الشمالية، أو إثارة مسألة الترسانة النووية الإسرائيلية التي لا تخضع لأي تفتيش أو رقابة. ولو بادر البرادعي إلى الكيل بمكيال واحد، لجاز له التشكيك في صحة نفي طهران امتلاكها برنامجاً نووياً سرياً، أو محاولة امتلاكه، بصرف النظر عما تتعرض له وكالة الطاقة من ضغوط غربية، أميركية لضبط إيران بالجرم المشهود. لم تمضِ ساعات على رفع مجلس الأمن العقوبات الدولية عن ليبيا، حتى باشرت إدارة الرئيس جورج بوش تهيئة المجلس لنقل سيف العقوبات إلى العنق الإيرانية، ما أن تنتهي مهلة حددتها الوكالة كي تستجيب طهران مطالبها، وتفتح كل منشآتها النووية للتفتيش. وإذ بات أكيداً أن القيادة الإيرانية وضعت في حساباتها احتمالات سيئة بينها تكرار السيناريو العراقي عبر بوابة الملف النووي، بدا أيضاً أن صقور الإدارة الأميركية حزموا أمرهم باتجاه تسريع مسلسل التصعيد مع طهران، بعدما نجحوا في كسب الصف الأوروبي لضمه إلى خيار التشدد. وإذا كان أبرز مؤشرات انتكاسة الحوار الأوروبي - الإيراني، اعتقال لندن السفير الإيراني السابق لدى الأرجنتين هادي سليمان بور، بعدما أحيت بوينس آيرس فجأة قضية تفجير مقر الرابطة اليهودية العام 1994، فالأصابع الأميركية لا تبدو بعيدة من اختيار وكالة الطاقة نهجاً "صارماً" مع طهران، وتحديد المهلة - الانذار الأخير، قبل احالة المسألة على مجلس الأمن. وبديهي أن براءة إيران من البرنامج النووي "السري" ليست أمراً مسلّماً به، ولا تثبتها الشكوى من مكاييل نقلتها الولاياتالمتحدة من مجلس الأمن والأمم المتحدة إلى الوكالة الدولية للطاقة الذرية. في المقابل لا تستطيع واشنطن سوى ادعاء اختراع "أدلة" على ما تخفيه طهران، في سياق استراتيجية مواجهة "الشغب" الإيراني في الشرق الأوسط والخليج، من ملف عملية السلام ودعم "حزب الله"، إلى اتهامات بايواء عناصر قيادية من تنظيم "القاعدة" ورفض تسليمها إلى الولاياتالمتحدة… ثم التدخل في العراق و"التحريض" على ضرب القوات الأميركية هناك. وأثبتت نتائج الحرب على العراق وتداعياتها، أن الحوار السري بين جمهورية خامنئي - خاتمي وإدارة بوش ما كان ليفشل لولا الإصرار الأميركي على انتزاع كل شيء من طهران في مقابل لا شيء. لذلك كانت خيبة الأمل الإيرانية مدخلاً لمعاودة التصعيد بين الجانبين، وتدرك حكومة خاتمي أنها مهما فعلت لن تستطيع هذه المرة تأجيل بت أزمة الملف النووي، وسط تحريض إسرائيلي لأميركا وصقورها على سياسة العصا والعقاب، واستغلال وجود عشرات الآلاف من جنودها في الأراضي العراقية. خيبة أخرى، أن طهران لا تستطيع الرهان على الذاكرة، لعل دولاً كبرى تتعاطف معها في مواجهة الحملة الأميركية - الإسرائيلية. حتى الدول الأوروبية التي عارضت الحرب على العراق كمخرج لمعالجة المخاوف من ترسانة صدام حسين، اختارت دعم ضغوط واشنطن على طهران، في الوقت الذي كبرت فضائح "اختفاء" تلك الترسانة، وعجزت قوات "التحالف" الأميركي - البريطاني عن كشفها. أما البرادعي الذي خبِر مدى التلاعب الأميركي - البريطاني في تقويم خطر ما كان يُعرف بأسلحة الدمار الشامل العراقية، واستغلال ذلك ذريعة للحرب، فأول واجباته عدم الانجرار إلى أجندة واشنطن وخططها، فهذه كفيلة بفضل "حكمة الصقور" باشعال فتيل حرب أخرى مجنونة، تتجاهل فيها إدارة بوش حقيقة أن إيران ليست العراق، وان صخب الصراعات الداخلية في الجمهورية الإسلامية، لا يعني استعداد اصلاحييها للتواطؤ مع غزو آخر. أليس من واجبات وكالة الطاقة والبرادعي أن يحددا لإيران أي وسيلة مقبولة لإثبات براءتها من التسلح النووي بدلاً من ترك المبادرة في يد واشنطن، تحاكم من تشاء وتبرئ من تشاء، بحجة تفردها ب"حماية أمن العالم"؟ أليس من واجبات البرادعي تفادي تكرار تجربة هانس بليكس الذي اكتشف بعد شهور على إطاحة صدام، أن بغداد ربما كانت صادقة في نفي امتلاكها أسلحة محظورة، عشية الحرب؟