يفترض أن يترك الدكتور محمد البرادعي عمله في رئاسة وكالة الطاقة الذرية الدولية مع نهاية الشهر الماضي، إلا أن الشهر انتهى يوم اثنين، وكان يوم عطلة في فيينا، فترك الدكتور البرادعي مكتبه عملياً يوم الجمعة السابق، أو 27/11/2009، بعد ثلاث ولايات حافلة بقضايا مهمة ومثيرة استقطبت اهتمام العالم كله. كيف نحكم على الوكالة ورئيسها في السنوات الاثنتي عشرة الماضية؟ أعطي الدكتور البرادعي أعلى علامة ممكنة على أدائه، إلا أنني في صفه ومعه. اسرائيل، وأنقل عن رأي في «جيروزالم بوست»، ترى أن عمل الدكتور البرادعي كان جدلياً، وأنه سيّس المنصب أكثر من أي سلف له، فالوكالة الدولية كلفت بموجب معاهدة منع انتشار الأسلحة النووية التأكد من أن الدول الموقعة لا تعمل سراً لإنتاج أسلحة نووية، وهو فشل تحديداً مع إيران وسورية. أقول إذا كان هذا فشلاً من الدكتور البرادعي فليته فشل فعلاً، وليست ايران وسورية وكل دولة في المنطقة تعمل لامتلاك أسلحة نووية، وليتها تمتلكها في وجه اسرائيل، دولة الخرافات التوراتية التي ما كان يجب أن تقوم أصلاً والتي تحتل فلسطين وما بقي من أراضي الفلسطينيين بقوة السلاح وتقتل وتدمّر كل يوم، فيما هي تنام على ترسانة نووية مؤكدة. إذا استمر الاحتلال فلا بد أن نصل يوماً الى أن يمتلك إرهابيون أسلحة دمار شامل وندفع جميعاً في الشرق الأوسط ثمن إرهاب اسرائيل، فهو الإرهاب الأصلي الذي أطلق كل إرهاب لاحق. غير أن هذا موضوع آخر وأريد أن أبقى اليوم مع وكالة الطاقة الذرية الدولية والدكتور البرادعي. ثمة وقاحة في الموقف الإسرائيلي لا يقدر عليها غير نازيين جدد أو فاشست من نوع الإسرائيليين في الحكم وحوله. والكلام عن إيران وقنبلتها النووية المقبلة كذب مئة في المئة، فما تملك ايران هو يورانيوم مخصب حتى خمسة في المئة (قرأت حتى 3.5 في المئة فقط) واتفاقا جنيف وفيينا اللذان تراجعت إيران عنهما نصّا على أن ترسل 75 في المئة، مما عندها الى روسيا، ثم فرنسا ليعود على شكل يورانيوم مشبع حتى 19.75 في المئة أو ما يصلح لتشغيل مفاعل مدني من نوع ذلك القائم قرب طهران الذي يجري تجارب طبية. القنبلة النووية تحتاج الى يورانيوم مشبع فوق 90 في المئة، وهي نسبة يستحيل على إيران أن تحصل عليها اليوم أو غداً... يعني لا قنبلة نووية إيرانية. ما سبق هو الحقيقة ولا حقيقة غيرها، وما تروج اسرائيل هو فجور ابتلعه بعض العرب، وبين هذا وذاك أدعو الدول العربية في الخليج تحديداً، ومصر وغيرها الى امتلاك سلاح نووي في وجه اسرائيل لا إيران. إدارة أوباما ورثت الوضع الحالي ولا أحمّلها مسؤولية، ولكن في زمن إدارة بوش وأحلام الإمبراطورية أو أوهامها وحكم دعاة الهيمنة الإسرائيلية حوسبت إيران على أفكار مستقبلية، وعاقبها مجلس الأمن ثلاث مرات، وتُركت اسرائيل الفاشستية وترسانتها النووية من دون حساب. هنأت الدكتور البرادعي على سلامة تركه الوكالة، وتبادلنا حديثاً طويلاً عن مشاريعه المستقبلية، وما كان وما سيكون، ثم سألته عن أكبر فشل للوكالة وأكبر نجاح لها خلال سنوات رئاسته. هو قال إن أكبر فشل كان منع حرب العراق فقد كانت المعلومات كافة تشير الى تدمير العراق أسلحته الكيماوية، والى عدم استئنافه برنامجه النووي العسكري، إلا أن إدارة بوش قررت الحرب لأسباب أخرى غير المعلنة. وقد أشرتُ في هذه الزاوية مرتين الى تحقيق لجنة تشالكوت عن دور بريطانيا في حرب العراق الذي أثبت في أسبوعه الأول أن توني بلير وجورج بوش اتفقا في منتصف 2002 على خوض الحرب، وأن كل المعلومات اللاحقة لم تؤثر شيئاً. الدكتور البرادعي أشار الى تزوير الرسائل عن محاولة العراق شراء يورانيوم من النيجر، وهذه الرسائل تكفي وحدها لإرسال بوش وأركان إدارته الى محكمة جرائم الحرب الدولية في لاهاي وإدانتهم بارتكاب جرائم حرب. وكانت إدارة بوش التي تدير 16 جهاز استخبارات قبلت الرسائل على أنها صحيحة، وقررت وكالة الطاقة الذرية الدولية في يوم وليلة انها مزورة، وأقول إنه يستحيل أن تعرف الوكالة ما تجهل إدارة بوش إلا أنه كان تصميماً على احتلال العراق لأسباب إسرائيلية ما أدى الى قتل مليون عراقي. أزيد من عندي أنني أعرف من زوّر الرسائل من المحافظين الجدد الليكوديين في روما، ولو كنت أملك مالاً لكلفت محققين خاصين متابعة الموضوع لكشف أدوارهم، إلا أن الذين وصلوا الى الحكم في العراق بمساعدة الأميركيين، وعلى دماء أهل بلدهم مشغولون بالحكم وآخر همهم طلب العدالة للضحايا. الدكتور البرادعي قال إن أفضل إنجاز للوكالة كان منع الحرب على إيران بإثبات أنها لا تملك القدرة على امتلاك سلاح نووي، وإنما تسعى الى امتلاك المعرفة لصنع هذا السلاح. الوكالة أثبتت أن العراق خالٍ من أسلحة الدمار الشامل من دون أن تمنع الحرب عليه، وتقاريرها الصحيحة عن إيران ما كانت لتمنع الحرب لو أن إدارة بوش وجدت القدرة لشنها، ورأيي الشخصي أن الإرهاب المجرم والمقاومة المشروعة في العراق هزما الغزو الأميركي فلم يستطع الاستمرار في سياسة «تغيير النظام» التي كانت ستستهدف إيران وسورية بعد العراق. أتوقع أن يكتب الدكتور البرادعي يوماً مذكراته، وأتوقع أن تكون إدانة لمجرمي الحرب حتى لو لم يقصد ذلك. [email protected]