بعد اعلان الرئيس الاميركي جورج بوش تاريخ الاول من ايار مايو الماضي، نهاية المواجهات العسكرية في العراق، سأله الصحافيون عن مصير صدام حسين، فأجاب: لا يهمّنا كثيراً ما اذا كان صدام قد مات ام لا… المهم اننا أسقطنا نظامه البغيض، وشرعنا في بناء نظام ديموقراطي جديد. لم يمرّ اكثر من عشرة ايام على هذا التصريح حتى أطلّ الرئيس العراقي عبر شريط فيديو بثته قناة فضائية عربية، ليعلن مواصلة القتال واستئناف الجهاد. وتبعه في حملة التحريض خطباء الجمعة الذين طالبوا بضرورة مقاومة الاحتلال وعدم الخضوع للهيمنة الاميركية. وعلى الفور نفّذ المصلون في النجف والناصرية والفلوجة هذه الرغبة بقتل ثلاثة جنود، الامر الذي دفع بالوزير دونالد رامسفيلد الى الاعلان عن مكافأة بقيمة 25 مليون دولار لكل من يقدم معلومات تؤدي الى الارشاد او القبض على صدام حسين. ولما ازداد عدد قتلى جنود الاحتلال اعلن رامسفيلد مرة اخرى عن جائزة بقيمة 15 مليون دولار لكل من يرشد الى مكان وجود عدي او قصي. وكان واضحاً من اهمية التركيز على صدام حسين ونجليه، ان الادارة الاميركية تريد الايحاء بأن المقاومة التي يتعرض لها جنودها محصورة بميليشيات النظام فقط. وعليه يمكن الافتراض ان القضاء على صدام وعدي وقصي هو بمثابة القضاء على رموز التحريض وعلى انصارهم ممن يشنون حملات الجهاد ضد قوات الاحتلال. والملفت ان عملية قتل عدي وقصي لم تمر من دون مساءلة وانتقاد، خصوصاً بعد صدور ادانات اخلاقية تعترض على اظهار الجثتين على شاشات التلفزة العربية والاميركية. وادعى وزير الدفاع رامسفيلد انه اضطر الى ابراز هذا المشهد الدموي لأن غالبية الشعب العراقي رفضت ان تصدّق النبأ واتهمت اميركا بالكذب مطالبة بتقديم اثباتات. وجرى التشاور مع مجلس الحكم الانتقالي في بغداد الذي اوصى بضرورة تقليد عملية اعدام عبدالكريم قاسم 9 شباط/ فبراير 1963. يومها شكّك العراقيون في خبر اعدام "الزعيم الاوحد"، الامر الذي اضطر قادة الانقلاب الى عرض جثته على شاشة التلفزيون. ولقد تولى احد الجنود مهمة عرض رأس الرئيس القتيل كبرهان حسّي على تصفيته جسدياً، فكان يشدّه بشعره ويرفعه امام الكاميرا. وتردد في حينه ان هذا المشهد أوقف زحف ألوية مؤيدة لقاسم كانت تستعد لمهاجمة بغداد وسحق حركة التمرد. لذلك توقع الحاكم المدني بول بريمر جمود عمليات المقاومة ضد قواته، على اعتبار ان قصي كان يشجع انصاره على القتال. ولكن الهدوء الامني المتوقع لم يستمر طويلاً بدليل ان يوم الاثنين الماضي شهد مقتل الجندي الاميركي رقم 50 منذ ايار مايو الماضي. وكان من الطبيعي ان تثير الهجمات المتزايدة قلق الولاياتالمتحدة وتخوف الكونغرس من تورط القوات الاميركية في مستنقع العنف. لذلك قام ثلاثة من اعضاء لجنة الشؤون الخارجية بزيارة استكشاف للعراق، عادوا على اثرها ليشككوا في سلامة الوضع ويحذّروا الشركات من مخاطر الاستثمار في بلد يصعب ضبطه او حكمه. وتبعهم هذا الاسبوع وفد آخر يضم اعضاء في الاستخبارات والدفاع ومجلس الشيوخ بهدف الحصول على صورة صادقة عن اعمال المقاومة ضد قوات التحالف. واعترف السناتور الديموقراطي جاي روكفلر ان الزيارة تمهد لجلاء الحقيقة حول اربع مسائل تقلق الشعب الاميركي: المسألة المتعلقة باختلاق معلومات مضللة لتبرير الحرب على العراق باسم اسلحة الدمار الشامل. 2 ومسألة ثانية تتعلق بانتفاء الاسباب الاستراتيجية لعملية الغزو. 3 ومسألة ثالثة تتعلق باتساع حركة العصيان والمقاومة، وكيف غابت عن تقدير المحللين في مكاتب وكالة الاستخبارات والابحاث. 4 اما المسألة الرابعة فتتعلق بانعدام الرؤية السياسية، وفقدان الخطة لمواجهة الظرف الطارئ. المعارضة الخجولة في الولاياتالمتحدة استغلت اجواء التشويش والضياع والفوضى لتتهم الادارة بسوء التصرف مدعية ان قيادة الحاكم بريمر علمت منذ شهر تقريباً بالاماكن التي لجأ اليها عدي وقصي. وهي تستند في مزاعمها الى اعترافات مرافق صدام عبد حمود محمود الذي أدلى بمعلومات خطيرة حول المواقع التي يمكن ان يلجأ اليها صدام حسين وافراد عائلته. وهكذا وضعت هذه الاماكن المجهولة تحت المراقبة المشددة الى حين موعد تنفيذ الهجوم بتوقيت يخدم شعبية الرئيس بوش المنهارة. اي الشعبية التي هبطت نسبتها من سبعين في المئة الى خمسين في المئة خلال الاسبوعين الماضيين. ثم ارتفعت فجأة بسبب مقتل عدي وقصي، شاملة بالافادة طوني بلير المطوّق باتهامات تلفيق معلومات كاذبة حول اسلحة الدمار الشامل في العراق! لإسكات اصوات المعارضة التي تتهم الرئيس الاميركي بأنه يستغل اعمال جنوده في العراق لتحسين وضعه الانتخابي، ردّ جورج بوش على المشككين بالقول ان قواته تقترب من ساعة القبض على صدام حسين. وأبلغ وزير الخارجية كولن باول وكالة "رويترز" بأن الخناق يضيق على صدام، علماً بأنه لا يستطيع التكهن بمدى اقتراب فترة اعتقاله. ويبدو ان حملة التشكيك وجدت تربة خصبة لدى المعلقين الذين تنبأوا بمقتل صدام حسين بعد افتتاح معركة الرئاسة. وفي تقديرهم ان صدام سيظل مطارداً ومراقباً الى حين يحتاج بوش الى جثته لكي يعزز موقعه الانتخابي، ويقول للشعب الاميركي انه الرئيس الوحيد الذي قضى على عدو أتعب ثلاثة رؤساء من قبله. ويتردد في واشنطن ان خلافاً عميقاً يدور بين الادارة والكونغرس حول مصير الرئيس الهارب، وطريقة التعاطي معه في حال تم العثور على مكانه. ذلك ان الرئيس بوش يدعو الى القضاء على صدام حتى لو استسلم خشية ان تتحول محاكمته الى فرصة لفضح علاقة اميركا بنظامه وتسليحه مدة تزيد على العشر سنوات. اي المدة التي استخدمته فيها الولاياتالمتحدة لمحاربة الثورة الايرانية. بينما يفضل رجال الكونغرس معاملته بما يليق وسمعة اميركا، خصوصاً ان هناك حاجة ملحّة للكشف عن ثروته المخبأة في المصارف الاوروبية والآسيوية والعربية. ويطالب فريق من الكونغرس بضرورة استخدام هذه الثروة الضخمة لاعادة اعمار العراق بدلاً من المساعدات التي ترهق خزينة الولاياتالمتحدة. تُقدّر المعارضة العراقية حجم ثروة صدام حسين بأربعين بليون دولار، على اعتبار انه استفاد من القانون الذي صدر عام 1974 بحيث كان يدخل الى حسابه الخاص ما نسبته خمسة في المئة من اموال النفط. وتعود هذه النسبة الى الارمني كالوس كولبنكيان لكونه السمسار الذي مهّد لاتفاق بترولي 19 آذار/ مارس 1914 بين بريطانياوالمانيا حول حصة كل منهما في شركة البترول التركية. وساهمت بريطانيا في الاتفاق عن طريق الشركة البريطانية الفارسية بنسبة 50 في المئة، في حين نال السمسار الارمني ثمناً لوساطته نسبة ثابتة من الاتعاب هي خمسة في المئة، لذلك أُطلق عليه اللقب المعروف: "مستر خمسة في المئة". وبما أن التزاحم على امتيازات النفط كان محصوراً بولاية الموصل، لذلك ازدادت حصة العراق بعد الحرب العالمية الأولى وخروج المانيا المهزومة من ساحة المنافسة. ولما استولى صدام حسين على الحكم أصدر الحزب الحاكم قراراً بوضع هذه النسبة تحت تصرف الرئيس. ولقد أعطى الحزب في حينه المبرر الشرعي لهذا القرار الاستثنائي مفاده أن بغداد تمثل في المنطقة قلب العروبة النابض، وان واجبها القومي يفرض عليها تمويل خلايا حزب البعث في مختلف الأقطار. وهكذا بدأت الأموال تدخل في حساب خاص تحت عنوان "الطوارئ" كان المسؤول عنه وزير التخطيط عدنان الحمداني. وفي عام 1979 اتهم صدام سورية بالتآمر لاسقاطه بواسطة أقرب المقربين منه بقيادة نسيبه عدنان الحمداني. وكان جزاؤه الإعدام مع شلة من رفاقه. وفي التسعينات ظهر اسم المهندس عبدالتواب ملا حويش كمسؤول عن الاستثمارات الخارجية. ومع أن الإدارة الأميركية أجرت تحقيقات واسعة في المصارف السويسرية، إلا أنها عجزت عن رصد الحسابات السرية التي يشاع أن صدام حسين نقلها إلى الخارج. منذ مدة أعلن ديفيد أوفهاوزر، مستشار وزارة الخزانة الأميركية، أنه تم استرداد معظم الأموال النقدية التي تبلغ بليون دولار والتي أخذها قصي صدام حسين من البنك المركزي في بغداد. وذكر أن سجلات البنك تشير إلى أن المبلغ الذي عثرت عليه القوات الأميركية في نيسان ابريل الماضي كان جزءاً من المبلغ الذي سحبه قصي. وقال إنه عثر على 191 من الصناديق تحتوي على 850 مليون دولار ومئة مليون يورو. وقال اوفهاوزر إن عمليات البحث التي تقوم بها الولاياتالمتحدة عن أرصدة صدام حسين ستستمر طويلاً. وأعلن ان هناك ثلاثين دولة منعت التصرف بنحو 35.2 بليون دولار اثر حرب 1991. وذكر أن لدى المانيا 359 مليون دولار مجمدة منذ حرب الخليج الثانية. كذلك أعلن لبنان عن وجود 495 مليون دولار وافق على إعادتها إلى البنك المركزي العراقي. أثناء التحقيق مع أحد المقربين من صدام، اعترف بأن هناك مبالغة في ثروة الرئيس المطارد، على اعتبار أن أسعار النفط لم تستقر على حال واحدة خلال ثلاثين سنة، وفي رأيه أن سعر برميل النفط قفز إلى 34 دولاراً ثم هبط إلى تسعة دولارات. صحيح أن الدخل السنوي للعراق وصل إلى 20 بليون دولار عندما كان يصدّر 3 ملايين برميل يومياً… ولكن الصحيح أيضاً ان هذا الدخل لم يستمر أكثر من خمس سنوات، والسبب أن عهد صدام شهد سلسلة حروب أثرت على انتاج النفط وعلى تسويقه وعلى أسعاره، إضافة إلى المقاطعة التي استمرت منذ سنة 1991. ولكن التقديرات المتحفظة تشير إلى وجود عشرين بليون دولار مخبأة في صناديق المصارف الأجنبية، وان صدام حسين وحده يعرف مكانها ويعرف أرقام حساباتها السرية. يقول قائد فلسطيني رافق ياسر عرفات في عمان وبيروت، ان الثروة الضخمة الموضوعة في حسابه الخاص في مصارف سويسرا، هي ضمانته للحماية من المتآمرين ضده. وربما تكون ثروة صدام حسين ضمانته أيضاً للحماية من المصير الذي لقيه نجلاه، إلا إذا اختار هو أن يكون مصيره كمصير عدي وقصي! * كاتب وصحافي لبناني.