تثير الدهشة بين وقت وآخر، مقالات صحافية يكتبها أصحابها بغرض واحد: استنطاق نص أدبي ما، بطريقة تعسفية، ودفعه قسراً لقول معنى محدد، ليس موجوداً بالضرورة في النص المستنطق. والحال أن أصحاب مثل هذه المقالات، ينطلقون أساساً من غاية مسبقة، هي إدانة صاحب النص. السنوات القليلة الماضية شهدت لوناً جديداً من مقالات تبخيس الآخرين، ومحاولة الغائهم. ففي حين اعتدنا في الماضي، على نهش الابداع الأدبي لشاعر أو كاتب ما وتشويهه والتقليل من قيمته، رأينا لوناً جديداً من التشويه ينصب على نقطة مغايرة، هي الموقف السياسي لصاحب النص، أو ان شئنا الدقة وطنية صاحب النص، التي صارت هي الهدف. وفي حال كهذه يبدأ كاتب المقالة بالإشادة بموهبة الشاعر أو الكاتب المستهدف كي يموّه دوافعه جيداً، ثم ينطلق بعد ذلك مباشرة الى غايته: الطعن في وطنية المستهدف، من خلال قراءة تعسفية لنصه... قراءة تقوم على تحميلها المعاني والمضامين التي ينتقيها كاتب المقالة كيف شاء، وبحسب رغبته هو، لا بحسب ما يحتمل النص أو يضمر. والنتيجة في حال كهذه مفهومة، بل مضمونة سلفاً، ولا تحتاج من كاتب المقالة بعد ذلك إلا الى إصدار أحكامه النهائية، لا على جودة النص من عدمها، بل - وهذا هو الخطير - على وطنية صاحب النص، الذي لن تشفع له بعد ذلك أية موهبة أو امكانات، بل الذي لن يعود من المفيد أن نتذكر موهبته أو امكاناته، لأنها في حال كهذه لا تشبه إلا "الذكاء الشرّير" الذي يستخدمه صاحبه في خلق الأذى للآخرين. مثل هذه المقالات يكتبها كتاب متعددو الاتجاهات والاختصاصات، لكن أكثرها مدعاة للأسف، هي تلك التي يكتبها شعراء، مارسوا كتابة الشعر لعقود طويلة، تجعل القارئ يفترض امتلاكهم ذائقة نقدية سويّة، ويفترض في الوقت ذاته معرفتهم بالفوارق الأساسية بين الخطاب السياسي المباشر - الذي لا يحتمل التأويل - وبين الخطاب الشعري المحمول على أجنحة المجاز، والمنسوج من لغة مختلفة وذات علاقة خاصة ومميزة بالخيال. هؤلاء يكتبون إذاً عن سابق قصد وسوء نيّة، حتى ولو غلّفوا كتاباتهم بما شاءوا من ذرائع الحرص على الخط الوطني، بل هم من خلال هذه الذرائع يعيدون من جديد انتاج مقولاتهم القديمة، التقليدية، والشديدة البؤس عن المعنى الواحد للوطنية والانتماء، ونعني المعنى الذي يتطابق مع مفاهيمهم هم من دون زيادة أو نقصان. في مقالة كتبها شوقي بغدادي في مجلة "فتح"، يستهجن أن يكتب محمود درويش في مجموعته الشعرية "حالة حصار" مقطعاً يتحدث عن شيوع الاستشهاد في صفوف الشعب الفلسطيني، فيما العالم المتمدن يتفرج. بغدادي يقرأ هذا المقطع كما يشاء، وهو شاء أن يجعله ينطق بموقف من محمود درويش ضد الشهادة. أما حين يتوجه درويش بخطابه الشعري الى جنود الأعداء داعياً اياهم لأن "يشربوا قهوتنا العربية"، فإن بغدادي يقيم الدنيا ولا يقعدها، لأنه يفهم هذه الدعوة كما يفهم منشوراً سياسياً مباشراً ومحدد الاتجاه. ومع أن شوقي بغدادي مارس كتابة الشعر لنصف قرن ويزيد، إلا أنه لم يستطع - وربما لم يرغب - أن يقرأ هذه الدعوة في سياق آخر تفترضه البنية الشعرية. هي على كل حال ليست المرّة الأولى التي يقدم فيها محمود درويش دعوة كهذه للإسرائيليين ويفهمها البعض - أو يتعمدون فهمها وتفسيرها - على هذا النحو الشرير. فقد سبق له أن قدم في قصيدته "الخطبة قبل الأخيرة للهندي الأحمر" دعوة مماثلة حين قال: "احفظوا قليلاً من الشعر كي توقفوا المذبحة". محمود درويش كان في تلك الدعوة يقصد وضع الغزاة خارج دائرة من يمتلكون المشاعر الإنسانية، فهؤلاء قطعاً لا يحبون الشعر ناهيك عن أنهم لا يحفظونه، بل ان درويش في تلك الدعوة كان يستعير شيئاً من وليم شكسبير في مسرحيته المعروفة "يوليوس قيصر"، ففي حين كان قيصر يدافع عن رجاله المقربين واحداً واحداً ويؤكد لزوجته كذب نبوءة العرافة عن مؤامرة لقتله لأن رجاله يخلصون له، تفاجئه زوجته بعبارتها المكثفة والعبقرية في آن: يا قيصري، إحذر كاسيوس... انه لا يحب الشعر. قال شكسبير على لسان الزوجة "لا يحب الشعر"، ولم يشأ أن يقول انه بلا عواطف، وهو من ثمّ مؤهل للتآمر وارتكاب جريمة. مشكلة قراءات تعسفية كهذه انها تتعاطى مع نص شعري حديث وحداثي، بالمفاهيم والأدوات النقدية التقليدية ذاتها التي اعتادت أن تستخدمها في التعاطي مع نصوص كلاسيكية البناء الشعري وكلاسيكية المضامين على حدٍ سواء، ففي تلك البنى التقليدية فقط، يمكن العثور على مفاهيم سياسية ووطنية جاهزة ومقننة وتشبه الأناشيد، في حين تفترض الحداثة بكل أشكالها رؤية الوقائع من جوانبها كافة، بل أيضاً في حالاتها المتحوّلة والقابلة للتحول كذلك. والمسألة لا تقف بعد ذلك عند حدود محمود درويش، بل هي تتكرر - وتظل قابلة للتكرار - مع غيره من المبدعين، وإذا شئنا الدقة كبار المبدعين، ويمكن أن نسوق في هذا المقام ما تعرّض له من قبل كل من إميل حبيبي وأدونيس، فالأول نال جائزة أدبية رسمية اسرائيلية وقبلها، ما جعله متهماً بالخيانة، من دون النظر الى وضعه الاجتماعي والسياسي الشديد الخصوصية، بصفته ينتمي الى الأقلية الفلسطينية التي ظلت صامدة على أرض وطنها في الجليل، وفرضت عليها ظروفها القسرية والخارجة عن ارادتها، أن تحمل الجنسية الاسرائيلية، وأن ترفع شعاراً نضالياً كبيراً هو المساواة، كي تتحرر من ضغط قوانين العنصرية الصهيونية. وبكلام آخر، فإن من كالوا الاتهامات لحبيبي انطلقوا من فكرة انتمائه القومي العربي وحاكموه على أساس هذا الانتماء وكما لو كان يعيش في قطر عربي وليس في حال من يعيش في اسرائيل. أما بالنسبة الى أدونيس فثمة شطط لا حدود له، إذ جرت قراءة كلمة أدونيس في مؤتمر غرناطة بصورة كاريكاتورية بل شديدة السذاجة حين راح البعض يستنطقون تلك الكلمة بما لا تحتمل من معانٍ، فخلصوا الى اعتبار صاحبها من "دعاة التطبيع"، وراحوا يكررون هذه الصفة باعتبارها حقيقة مسلَّماً بها، بل بدهية، من دون أن ينسوا في كل مقالة يكتبونها الإشارة بخبث مكشوف الى انهم لا يشككون في موهبة أدونيس الابداعية، بل فقط في وطنيته!! ومع ذلك، وما إن أعلنت وكالات الأنباء خبر رحيل اميل حبيبي عن عالمنا، حتى انهالت مقالات من شككوا في وطنيته في البكاء عليه كنت أكثر من دافع عن حبيبي في حينه ونشرت مقالتين للدفاع عنه في "الحياة"، ومع ذلك أحجمت عن رثائه في زحمة مراثي المنافقين، في حين شكّل حضور أدونيس أسبوع الاحتفاء به من الاتحاد الأوروبي مناسبة للبعض من خصومه لنفاقه وتملّقه، في صورة مبالغ فيها، بل مكشوفة، لأنهم في حالي الهجاء والمديح انطلقوا من رؤى ضيقة، ومن تصنيفات وضعوها هم، حيث اكتشف احدهم أن أدونيس عاد أخيراً الى الصف الوطني، لا لشيء سوى انه كتب قصيدة تدين الغزو للعراق، وهذا يتناقض مع تقويمه التقليدي والمسلّم به لأدونيس، فكيف يخيب أدونيس تقويمه ويكتب قصيدة وطنيّة؟! ملاحظات نكتبها في عجالة وآخرها أن أحدهم قرأ خبراً في صحيفة يومية من دون أن يقرأ تفاصيله. الخبر يقول ان محمود درويش حصل على جائزة بالاشتراك مع أكاديمي اسرائيلي، فأكد لنا وهو ينقل الخبر أن مصافحة جرت بين درويش وذلك الأكاديمي، وحين فتحنا الجريدة لنقرأ التفاصيل، تبين لنا ان درويش لم يصافح الاكاديمي، بل انه أكثر من ذلك لم يحضر حفلة تسليم الجائزة أصلاً!! ونقول هذا وفي جعبتنا الكثير من مقالات مشابهة كتبها شعراء وكتّاب مسنّون، لهم تجاربهم الطويلة في العيش والكتابة. أما المقالات الأخرى التي دبّجها "فرافير" بعض الصفحات الثقافية على أمل أن تكسبهم شهرة من خلال مهاجمة كبار المبدعين، فسنترفع عن مجرد الإشارة الى أسماء أصحابها. بقي ان نقول أن مثل هذه "التقاليد" في الفهم والكتابة ليست وليدة المزاجية الشخصية وحسب، ولكنها في أحيان كثيرة وليدة ثقافة السلطة، بكل ما تتصف به من تقويمات حدّية ونهائية لكل من يختلف معها، وهي أيضاً تعبيرات لفظية صاخبة عن عجز أصحابها عن تقديم ابداع أدبي متطور يقدر أن يواكب انجازات المبدعين الحقيقيين أو حتى فهمها.