قرأت باستمتاع كبير الحلقات الخمس من الحوار الذي أجراه الشاعر والصحافي عبده وازن مع الشاعر الكبير أدونيس في جريدة «الحياة»، ومع ذلك لم يمنعني الاستمتاع من الامتعاض في بعض الأحيان أو من التساؤل في أحيان أخرى عن جدوى بعض المواقف والآراء التي أدلى بها شاعرنا الكبير في صدد بعض الشخصيات الشعرية والأدبية، وبالخصوص ما قاله عن الشاعر الفلسطيني الكبير محمود درويش. وبالطبع لكل شاعر الحق في أن يكون له رأي في شعرية هذا أو ذاك، وموقف مما يكتبه ونظرة نقدية الى نصوص الآخرين. لكنّ ما قاله أدونيس جعلني أشعر أنه تجاوز هذا الحد، تجاوز تقديم رأي خاص به في شاعر آخر إلى نوع من المحاكمة لحساسية شعرية مختلفة عنه، شعرية لم تذهب في الاتجاه الذي ذهب إليه أدونيس، أو لم تسقط بوعي كبير في ما سقط فيه المقلدون والذين ساروا في طريق المحاكاة أكثر مما راهنوا على سبل أخرى في الكتابة الشعرية المغايرة. لم يختر محمود درويش طريق أدونيس، أي طريق مجلة «شعر» التي كانت تراهن على نوع واحد من الحداثة الشعرية العربية، أو على توجه معين في تحديث الشعر العربي، واختار رهاناً آخر، طريقاً مختلفاً، لا أحد في مقدوره اليوم أن يقول عنه إنه طريق خاطئ لأنه أعطى تجربة أخرى، أو لنقل حساسية مختلفة في فسيفساء الحداثة العربية. وبالتالي تمكن درويش مثلما تمكن آخرون من شق طرق متعددة وتعبيد سبل أخرى لهذه الشعرية لئلا تسقط الحداثة في مركزية الواحد الشعري، في سلطة الخيار الواحد، خيار القصيدة الحداثية المغلقة على نفسها، أو التي تعيش فقط داخل التجربة الشعرية ذاتها وليس خارجها فقط، أي الشعر كلوحة متنوعة فيها ما يطرب الأذن وما يفتح الرؤية على مداها الواسع، واللغة على خياراتها المتعددة والمختلفة. وإننا إذ حاولنا أن نقارن التجربة الشعرية لبعض شعراء الحداثة العربية بتجارب شعرية أخرى من فضاءات ثقافية مغايرة لنا، فيمكننا أن نجد هذا التنوع الثري والمتعدد والذي هو مكسب لها بالفعل. وكقارئ لا غير، قارئ يحب الشعر، ويدافع عنه، ويعتبره ميراثه الروحي العميق، أعتقد بأنني إذ أن لكل شاعر سواء كان أدونيس أم درويش، خصوصيته التي لا تلغي فرادة الآخر وأهميته وقيمته الشعرية. ولعلي هنا أسمح لنفسي بأن أقول بأن ما أثار امتعاضي هو انطلاق أدونيس من موقف استعلائي بعض الشيء يجعله يصدر تلك الأحكام كما لو كان يملك حقيقة الشعر نفسه، أو كما لو كان الأب الذي منه تنطلق الحقيقة وإليه تعود، ولم يسلم من أحكامه إلا القلة القليلة، فالكل محل نقد شرس ولا يرحم. اختار الشاعر عبده وازن طريقة الحوار المباشر أي التي تجعله يفوز بأكبر قدر ممكن من الآراء والإجابة على لسان الشاعر أدونيس كما كان يمكنه أن يختار طريقاً آخر للحوار فيدخل الاعتراض والنقاش وبالتالي تكون ربما مواقف أدونيس نسبية بعض الشيء، لكن هذا خيار صحافي وليس كما ظهرت اطلاقية في معظمها. مواقف تقول نظرتها للشعر كما لو أنها النظرة الوحيدة والأخيرة، تلك النظرة التي تحتاج اليوم الى طرح أسئلة عليها، ولكن من منظور آخر وبصورة تخرج الشعر من أفق واحد، وتفسير أحادي، نحو ما يعتبر فسيفساء الشعر العربي الحديث. ما قاله الشاعر الكبير أدونيس عن محمود درويش على أنه صديق كل الأنظمة، لا أدري أين أضعه هل في خانة النقد السلوكي والأخلاقي؟ وهنا نعرف جميعاً بأن كل شعرائنا متورطون في شكل أو آخر مع هذا النظام أو ذاك، أو أن ذلك هو نتاج تعقد السياق الثقافي العربي المعاصر الذي يجعل الثقافي غير معزول عن السياسي، أو متداخلاً معه في أكثر من طريق، في أكثر من صورة. وليس هنا مجال للتدليل على ذلك، ويكفي أن نقرأ ما كتبه الشاعر سعدي يوسف عن أدونيس في سياق آخر. وبالتالي يظهر لي أنها أحكام أخلاقية لا مبرر لها، قد لا يكون مصدرها الشعر والشاعرية،بل ما سماه وازن ذات يوم في إحدى مقالاته بالعداوة الأدبية. يبقى الحوار مع ذلك مهماً على مستويات عدة، ويصلح كما قال شاعر مهم آخر هي أنسي الحاج، للتأريخ الأدبي للحداثة الشعرية العربية المعاصرة.