حلم العرب كثيراً في عصرنا الحديث، باستضافة حدث رياضي عالمي من العيار الثقيل للتأكيد أن بامكانهم دخول التاريخ الرياضي من أوسع أبوابه على الصعيد التنظيمي... وذلك بعد أن وصلت بضعة منتخبات في الالعاب الجماعية وعدد محدود من نجوم الألعاب الفردية إلى المنافسات العالمية. حاولوا مرات ثلاث استضافة نهائيات كأس العالم لكرة القدم في المغرب من دون ان يتحقق لهم المراد، وكانوا حكماء طبعاً عندما لم يفكروا يوماً في تنظيم دورة الالعاب الأولمبية لأن ما تحتاجه من متطلبات يفوق قدرات كل الدول العربية مجتمعة... وحدها كرة اليد حظيت بتنظيم نسخة واحدة من بطولة العالم في مصر. ولأن الاحلام العربية في غالبيتها سطحية ولذا فهي عادة لا تتحقق، "غاص" البحرينيون أكثر في حلمهم لتنظيم احدى جولات بطولة العالم لسباق سيارات فورمولا واحد التي يتابعها سنوياً نحو خمسة بلايين نسمة من خلال جولاتها ال17 التي تقام في مختلف أرجاء الدنيا... على أمل أن يتحقق هذا الحلم! ولأن "الحالمين" ارتدوا الحُلة الملائمة ووفروا كل أدوات الغطس اللازمة، نجحوا في تحويل حلمهم حقيقة، فحظيوا بموافقة الاتحاد الدولي لرياضة السيارات على تشييد حلبة رسمية على أعلى مستوى تعنى بكل وسائل الحماية والامان للسائقين والمتفرجين معاً. وهي تتضمن خمس حلبات مختلفة، ومقاعد تستوعب خمسين ألف متفرج، ومساحات خضراء تتسع ل10 آلاف آخرين جلوساً أو وقوفاً... ناهيك عن برج زجاجي دائري يرتفع 9 طبقات لكبار الضيوف والنجوم، فضلاً عن مراكز عديدة للبيع والتسويق لكل منتجات رياضة السيارات وسباقات فورمولا واحد وغيرها. وجسد هذا العمل الهندسي، الألماني الشهير جداً هيرمان تيليكه، وهو أحد رموز التجديد والتحديث في حلبات سباقات فورمولا واحد... ولعل أبرز ما أنجزه في الآونة الأخيرة هو حلبة سبانغ في ماليزيا التي تتضمن منصة رئيسة مستديرة تسمح للمتفرجين برؤية كل أجزاء الحلبة. ومع العمل الدؤوب من كل المعنيين بالأمر، وظهور ملامح هذه الحلبة إلى الوجود، وحرص البحرين على تدريب عدد من الكفاءات البشرية الوطنية للمساهمة في ادارة المشروع وادارة سباق الجائزة الكبرى من طريق ايفاد مجموعة من خيرة شبابها إلى استراليا واسبانيا للانخراط في دورات تدريبية ميدانية وعملية مع فريقي العمل القائمين على تنظيم الجائزتين الكبريين في هذين البلدين... لم يكن من المعقول ألا يلاحظ الاتحاد الدولي لرياضة السيارات كل هذه "الهمة" البحرينية من أجل تحقيق الحلم الرياضي العربي، فكثف متابعته واطلاعه المستمر على تطوير هذا المشروع الجبار الذي يعمل فيه 1800 عامل على مدار الساعة بهدف إنجازه في موعده أو ربما قبل ذلك. ولأن مسؤولي الاتحاد الدولي وجدوا أن الأعمال التي أنجزت بالفعل تسبق البرنامج بنسبة 3 في المئة، تأكدوا من جدية هذه المملكة الصغيرة مساحة والكبيرة بأحلامها وتطلعاتها عهدوا اليها بتنظيم الجولة الرابعة المقررة في 4 نيسان ابريل المقبل ضمن بطولة العالم لعام 2004... وهكذا تحقق حلم البحرينيين الممزوج بالارادة، وصار للعرب حدث عالمي "كبير" يقام في وطنهم "الكبير" الممتد من المحيط إلى الخليج. والطريف أنه حين عرض "نموذج الحلبة" على بطل العالم خمس مرات الألماني ميكايل شوماخر سائق فريق فيراري، ابدى ملاحظة مهمة... والأهم أن البحرينيين أخذوها في الاعتبار، بل ونفذوها فعلاً عند تشييد الحلبة. فقد اقترح "شومي الكبير" تعديل احد المنحنيات ما يجعله يُظهر قوة السائق وقدرته على التحمل وتأخير استخدامه للمكابح الفرامل حتى آخر لحظة، وهو الأمر الذي يساعد في مرونة عمليات التجاوز المثيرة فيضيف بذلك مزيداً من المتعة والتشويق للسائقين والجماهير معاً... واللافت أنه منذ ذلك الحين، أطلق الجميع على هذا المنحنى اسم "منحنى شوماخر". وبالمناسبة، فان البحرين كانت أول دولة خليجية اعترفت برياضة السيارات، وشكلت أول ناد فيها لهذه الرياضة في عام 1952 برئاسة أحمد كاتو. وهي رابع دولة اسلامية تنظم إحدى سباقات فورمولا واحد بعد ليبيا عام 1933 والمغرب عام 1958 وماليزيا عام 1999، مع ضرورة التذكير بأن السباق الذي أجري في ليبيا لم يكن ضمن بطولة العالم التي أُقرت عام 1950. حلبة البحرين والجولة الرابعة من بطولة العالم لسباقات فورمولا واحد، وضعتا مملكة البحرين على الخريطة الرياضية العالمية وعززتا الحضور العربي "المتحضر" في فكر المجتمع الغربي... وأكدت أنه حتى احلام العرب إذا ما آمنوا بها وغاصوا فيها بصدق ووعي وادراك وتصميم وعمل دؤوب، يمكن ان تتحقق.