حرمنا عصر التصحر الإبداعي الذي نعيشه من تذوق فن سينمائي حقيقي مصري لسنوات طويلة. الاستثناءات القليلة لم يتجاوز عددها أصابع اليدين... ولأن هذا العصر طال، بات الانتظار صعباً وشاقاً... ولكننا لم نعدم الأمل في أن "يفعلها" سينمائي شاب بخاصة بعد أن انصرفت الغالبية إلى أفلام سريعة الاستهلاك وقليلة القيمة في آن تحت لافتة الكوميديا. قليلون استطاعوا الصمود، ليس لبطولة يدّعونها، ولكن لأنهم لا يستطيعون إلا صناعة أفلام حقيقية مفعمة بصدق وجدية تتسق مع موهبتهم وثقافتهم. هاني خليفة مخرج فيلم "سهر الليالي" أحد المخرجين القلائل الذين ظهروا خلال السنوات الأخيرة ولم يتاجروا بموهبتهم أو يتحولوا إلى مهرجين أو سماسرة. بل دافع طويلاً عن مشروع فيلمه الأول منذ أن كان سيناريو كتبه صديقه الموهوب تامر حبيب، وخلال المراحل اللاحقة من اختيار الممثلين مروراً بالتصوير والمونتاج وشريط الصوت حتى أصبح الفيلم جاهزاً للعرض. مشاهد ولقطات تتوالى أمام متفرج متعطش إلى سحر الصور وعمق الأفكار والأسئلة. أدهشنا "سهر الليالي" مثلما ينبغي أن تفعل الأفلام في عقول مشاهديها. ولكن يبدو أننا نسينا ماذا يعني فيلم جيد وبخاصة بعدما تحولت أفلامنا إلى ما يشبه جلسات لتعاطي المخدرات. لقد ألقيا هاني وتامر حجراً ضخماً في بحيرة السينما الآسنة، فانفجرت مياهها في وجوهنا لنفيق ربما ونتعامل مع صناعة الأفلام بشيء من الجدية والصدق. خبطة تقليدية الخبطة الكبرى هي صناعة هذا الفيلم من داخل المنظومة السائدة في السينما - وليس من خارجها - اعتماداً على تحمس ثمانية من فناني التمثيل لسيناريو الفيلم. بعضهم يحمل لقب نجم / نجمة، والبعض الآخر في طريقهم لحمل اللقب بعد خطوات قليلة... أبطال "سهر الليالي" هم: منى زكي، أحمد حلمي، حنان ترك، فتحي عبدالوهاب، شريف منير، جيهان فاضل، خالد أبو النجا، وعلا غانم. الثمانية ارتضوا أن يساهموا في عمل فني لا يحقق لأي منهم بريق البطولة الفردية، ولكنه يحقق لهم حلم الممثل... أداء شخصية لها قوام وملامح، شخصية من لحم ودم تنفعل وتضحك وتبكي.. وليس مجرد ظل أو خيال مؤلف جاف، وبخاصة درجة التناغم التي حققها هاني خليفة في أداء ممثليه بين بعضهم بعضاً، متسلحاً بوعي وخبرة لا تجعلان المشاهد يتوقع البتة أنه مخرج روائي للمرة الأولى. وفي الوقت الذي يخرج هاني من قلب المنظومة، فإنه يوجه سهامه إلى قلبها أيضاً بكل ذكاء واحتراف وحس. ليس فقط كسراً لكليشيه البطولة الفردية، بل تحطيمه برفقة تامر حبيب لكليشيهات السينما النظيفة / الضحك المجاني / الاستسهال الفني بدءاً من الاعتماد على سيناريوات مهلهلة / البريق المجاني للصورة / الأغاني المجانية. ببراعة حول هاني هذه التدابير المجانية إلى إيجابيات ترقى بفيلمه، وانتصر في معركة اختبار الصلاحية بجدارة. في "سهر الليالي" أربعة ثنائيات من الرجال والنساء نصطحبهم - أو بالأحرى يصطحبوننا - في رحلة خلال ثلاثة أيام تكشف لنا احدى مراحل تحولهم المهمة وبالتالي نعرف من هم ومدى علاقاتهم بنا... ندرك ببساطة أنهم نحن وأيضاً الآخر الذي يقبع أمامنا في كل تفاصيل حياتنا اليومية من دون أن نحاول فهمه. انهم إزاء مواجهة مع الذات ورغبة في إزالة الساتر. تامر حبيب تتبدى مهارته وموهبته ابتداء من رسم كل شخصية في مرآة علاقاتها بالشخصيات الأخرى ليصنع هذه الجديلة الشديدة التركيب والثقل. دعونا نرى أولاً من هم هؤلاء وكيف استطاع السيناريست والمخرج أن يصنعا لكل منهم حياة على الشاشة استمرت ساعتين وربعاً، لكنها في حقيقتها شديدة القدم تحمل في طياتها تاريخ كل شخصية وما مرت به قبل أن تصل بنا إلى لحظة بدء أحداث الفيلم. الرجال الأربعة كانت تجمعهم صداقة قديمة وحميمة وما زالت بعض بقاياها قائمة. بينما السيدات يغلف علاقتهن التوتر باستثناءات قليلة. فرح حنان ترك الابنة الوحيدة لفنانة ثرية، تعيش حالاً من الفراغ ورغبة في التملك... شخصية أقرب إلى أن تكون هستيرية النزعة، متزوجة منذ عام من عمرو أحمد حلمي ابن الطبقة المتوسطة الذي رفعته هذه الزيجة درجة في السلّم الاجتماعي من دون أن تكون له أدنى مطامع في ذلك. تسند إليه والدة زوجته إدارة مصنع الملابس الذي تمتلكه، ويبقى هذا الحاجز الطبقي بينه وبين زوجته تحت السطح الى حين لحظة التفجير. المشكلة الأكبر أن فرح كانت ترتبط بعلاقة حب سابقاً بواحد من أعز أصدقائه وهو علي خالد أبو النجا الشاب الخجول المتحفظ سليل الأسرة الارستقراطية التي تجبره على ترك فرح بسبب مهنة أمها والزواج من ابنة خالته مشيرة جيهان فاضل التي تعمل في إدارة أحد الفنادق وتعاني أزمة نفسية حادة نتيجة علاقتها بزوجها علي، إذ تشعر برفض العلاقة الجسدية التي تربطهما وعدم قدرتها على احتمال المزيد من العذاب، ما يدفعها الى طلب الطلاق منه، في الوقت الذي تتعرض لمطاردة وائل أحمد هارون الشاب العابث الذي يستغل احتياجها العاطفي والجسدي. وهناك ثنائي ثالث يجمع بين خالد فتحي عبدالوهاب الذي يملك متجراً لبيع السيارات والمتعدد العلاقات النسائية، وهو متزوج من بيري منى زكي المدرّسة المحجبة التي تخفي معرفتها بخيانة زوجها المستمرة لها حتى قبل زواجهما. ولكن حينما تقودها المصادفة لسماع صوت خالد عبر الهاتف أثناء ممارسته إحدى تلك العلاقات، ينفجر البركان أيضاً وتطالبه بإنهاء العلاقة بينهما. أما الثنائي الرابع والوحيد الذي يدور خارج منظومة الزواج فيجمع بين سامح شريف منير مهندس الصوت الساخر الذي يخشى من أن يفقده الزواج حريته، وصديقته إيناس علا غانم وهي سيدة أعمال مطلقة طموحة تملك متجراً لبيع لعب الأطفال وتشعر بافتقادها الأمان في ظل هذه العلاقة غير المستقرة وتحلم بالزواج من سامح. وإزاء رفض سامح للزواج تواجهه إيناس وتثور عليه ثورة عارمة. جروح تنفجر الأصدقاء الأربعة تركوا منازلهم بعد تفجر الجروح المثخنة متجهين الآن في سيارة سامح إلى مدينة الإسكندرية. علي يجرب الكحول والمخدرات للمرة الأولى. الصداقة القديمة تفتح الباب لزوال الحرج والقطيعة بين علي وعمرو. يتذكرون فيروز وأغنيتها سهر الليالي التي ظلوا يرددونها أثناء عودتهم من الإسكندرية في احدى المرات. يبدأ سامح بترديد الأغنية ثم يندمجون في الغناء. في الإسكندرية يحاولون استعادة الماضي والفرار من حاضرهم المفعم بالمشكلات. ولكن يأبى الحاضر أن يفارقهم. بل يعيشونه رغماً عنهم عبر أجهزة الهاتف الجوال التي يحملونها. يحاول علي تجاوز أزمته بإقامة علاقة مع عاهرة فيصاب بحال هستيرية من البكاء، بينما يسارع عمرو باحتوائه في جلسة مصارحة يخلع فيها كل منهما قناعه. أما السيدات الأربع القابعات في القاهرة فلهن شأن آخر: تواجه بيري مرض ابنتها بجلد رافضة إخبار زوجها بما حدث، وتساندها فرح التي أدركت انها اهانت زوجها وتتمنى أن يصفح عنها. أما مشيرة فتواجه نفسها وهي على ظهر فرس جامح في صحراء الهرم خلف وائل في ليلة مقمرة. وحينما تتمايل على الفرس إذناً بسقوطها، تتمالك نفسها في اللحظات الأخيرة وترفض المضي في هذه العلاقة العابثة، وكذلك ترفض إيناس إقامة علاقة مع رجل أعمال لا يمانع في أن يتقاسمها مع صديقها سامح .... يقررون العودة إلى القاهرة، وهناك يلتقي خالد زوجته في المستشفى بعد أن وضعت مولودهما في الشهر السابع. ويلتقي علي زوجته ويبلغها رغبته في قبول طلب الطلاق ويعترف لها بأنه خانها، ولكن مشيرة تحتضنه بحنان ويكون ردها كلنا بنغلط وكلنا لازم نغفر. وبينما عمرو يصر على الرحيل، تصارحه فرح بأنها حامل. أما سامح فيقدم على الزواج من إيناس. في مشهد النهاية يرقص كل ثنائي على أغنية سهر الليالي بينما عينا خالد لا تفارقان الجميلات، ويد فرح تضبط ربطة العنق الخاصة بعمرو، وعنق مشيرة يحمل الكولييه الذي أهداه لها وائل. إن هذه النهاية السعيدة وإن كانت تحمل أملاً في الاستمرار، إلا أنه أمل حقيقي وليس زائفاً. امل ناتج من حال التطهر والمكاشفة التي عاشتها الشخصيات، ولكنها لا تبشر بتغير وهمي مستحيل. فالفيلم يقدم حالاً لمجموعة من البشر، وتميزه يأتي من إبراز إنسانيتهم خلف الوجوه والأقنعة التي يحتمون بها.