قد تكون لوحات ضخمة لروبنز، مثل "العودة من الحقول" و"السيدات الثلاث" و"محاكمة باريس" من بين آخر ما حققه هذا الفنان المؤسس، خلال السنوات الأخيرة من حياته، حيث عاد من جديد الى الغوص في الميثولوجيا الاغريقية - الرومانية القديمة، تاركاً للخلف أعمالاً يقول معظمها نظرة الفنان المتفائلة الى الحياة، حتى ولو كان بات هو على عتبة الرحيل. إذ خلال المرحلة الأخيرة من حياة روبنز بين بداية القرن السابع عشر وعام رحيله 1640 لم تكن أوضاع العالم مستقرة... كانت الحروب والصراعات مزدهرة، وكان فنانون كثر يتبارون في التعبير عن ذلك، لكن روبنز آثر، على سبيل كتابة وصيته الى الانسانية، أن يرسم تحية الى الحياة، كنقيض لمجازر الحروب الدينية، وها هو في لوحاته تلك يعارض البؤس والرعب بتصوير ملذات الفردوس ومحاسن العودة الى الطبيعة وروعة الجسد الانساني... لذلك امتلأت لوحاته الأخيرة بحدائق الحب، والنزهات الريفية والحسناوات. ومن المعروف أن معظم تلك اللوحات وجدت محفوظة في محترف الفنان بعد رحيله، فما كان من ملك إسبانيا، المعجب به، إلا أن اشترى معظم تلك اللوحات، ما جعلها تزين اليوم متحف برادو في مدريد، مع ان بعضها عرف طريقه الى "لوفر" باريس ومتحف "بالاتين" في فلورنسا الإيطالية. المهم، من أين أتى ذلك المزاج لروبنز فإذا به يصور نقطة النهاية جزلة الى هذا الحد؟ وكيف تمكن من أن يبذل "آخر جهد رؤيوي برّاق" وأن يرسم لوحات مفعمة بالخيال الجميل وبالسمو الجليل، لوحات سيقول المؤرخون لاحقاً ان كل فن القرن الثامن عشر انطلق منها؟ الجواب بسيط: كل ذلك أتى من لقائه بامرأة. امرأة أحبها في أواخر أيامه، وأعادته الى مناخ الحياة العائلية كاشفة له أن الحياة قد تكون أبسط وأجمل مما نعتقد. وهذه المرأة هي هيلين فورمان، التي رافقت سنواته الأخيرة وحوّلته عاشقاً، رسمها وكأنها هيلين الطروادية، وغالباً في لوحات عائلية حميمة وودودة، لا يمكن إلا لإنسان عاشق أن يرسمها على ذلك النحو الرائق العذب. ولقد شغلت هيلين، ابنة آنفر التي بادلته حباً بحب ووفرت له، في سنواته الأخيرة، كل السعادة التي كان يحتاج اليها، شغلت الكثير من لوحاته التي رسمها خلال عقد الثلاثينات من القرن السابع عشر. وهو صورها في بورتريهات، وفي مشاهد عامة، صورها وحيدة ودودة مبتسمة، وصورها كشخصيته في لوحات جماعية. ولطالما صور نفسه معها، كما في لوحة "روبنز وهيلين فورمان في الحديقة" 1635-1938. وعلى رغم كثرة اللوحات التي كرسها روبنز لتصوير هيلين، يمكننا أن نقول أن الأجمل والأقوى، والأكثر حميمية من بين تلك اللوحات إنما هي تلك التي تعورف على تسميتها "هيلين فورمان وطفلاها". وهي لوحة رسمها روبنز بين 1636 و1638، وكانت واحدة من آخر اللوحات التي رسمها. والحال ان هذا يجعل من لوحة "هيلين وطفلاها" أشبه بوصية عائلية - غرامية خلفتها ريشة روبنز. ففي ذلك الحين كان هذا الفنان المتجاوز الستين من عمره والذي يحس أن الأوان قد آن ليرتاح من عناء جهود فنية وديبلوماسية مكثفة، كان يجتهد لإنجاز عدد من أعمال دينية وتاريخية كُلف بها، وبعضها تطوع هو برسمه داخل محترفه الخاص. وهو لئن كان اهتم حقاً بتلك الأعمال، فإن في وسعنا اليوم أن نجد أن الطابع الكلاسيكي، وربما التقني، كان هو الغالب عليها راجع أعمالاً له مثل "مصالحة ماري دي مديتشي مع ابنها" أو "انتصار الكنيسة" أو "العائلة المقدسة مع القديسة حنة". ومن هنا يكاد يكون واضحاً أن روبنز قد آثر في ذلك الحين، وعند ذلك المنعطف المتقدم من عمره، أن يوفر كل طاقاته الابداعية الحميمة، وكل ما لديه من قدرة على الخلق والابتكار، لرسم مشاهد حميمة لأشخاص يرتبط بهم عاطفياً وعائلياً... وبالتحديد هيلين وطفلاها. ومن هنا يبدو في هذه اللوحة، على وجه الخصوص، كم ان روبنز أعاد ملونته الى طزاجتها، وحقق عملاً عبر عن كل قوته التعبيرية. الى درجة ان المؤرخين قالوا دائماً ان روبنز لم يكن، أبداً، حقيقياً في أي لوحة له بقدر ما كان في هذه اللوحة، من خلال تصويره هيلين نقية هادئة وديعة تعتمر قبعتها التي عرف كيف يجعلها تزاوج استدارة وجهها. وهو عرف أيضاً كيف يصور تلك التي لم تكن سنها تتجاوز الثالثة والعشرين امرأة ناضجة حنون وقوية، من خلال أمومة واضحة، وواضح كم أن روبنز يركز عليها، وكأنه هو - لا غيره - الطفل الذي تحتضنه وينظر الى الرسام، ومن ثم الى مشاهد اللوحة، نظرة تواطؤ مدهشة. والحقيقة ان نظرة الطفل - الذي قد يكون كناية عن روبنز نفسه، الشيخ وعاد من خلال هيلين وحسنها طفلاً - هي التي تجعلنا نعيش حميمية اللوحة وقوتها، ولكن من دون أن تغرق في أي بعد عاطفي تبسيطي. ليس من عاطفة هنا، بل هدوء وطزاجة ربيعيان، وحياة يصر الرسام على أن يصور لنا استمراريتها، من خلال المرأة، سر الربيع والوجود وألقهما. ان روح الفنان هنا تمتزج باللوحة امتزاجاً تاماً، حتى ولو كان عدد من الدارسين أكد أن روبنز مات من دون أن يتم هذه اللوحة، إذ تبدو دائماً ناقصة شيئاً ما. لكن المهم ليس هنا، المهم هو خاصة ألوان اللوحة، فهي تخلو من أي ألوان فاقعة قوية - إذا استثنينا الأحمر الذي لُوّن به الكرسي، وربما أيضاً لُوّن به شال امتزج بقماش الكرسي وظهر جزء منه بين هيلين وطفلها -، ويجمع الدارسون على أن روبنز كان من شأنه أن يحتفظ لهذه اللوحة بهذا الطابع الهادئ للتلوين حتى ولو انه واصل انجازها، ذلك ان قوة لون الكرسي والشال، عملت على إبراز حيوية الألوان الأخرى وعاطفيتها. وهنا، في المحصلة النهائية يمكن القول ان حميمية هذه اللوحة، تكاد تتناقض مع العوالم المهيمنة على القسم الأعظم من لوحات روبنز، الذي نادراً ما سبق له ان كان حميمياً وخصوصاً في أعماله السابقة، هو الذي عرف على الدوام بلوحاته الدينية والتاريخية، ثم حين أخلد الى الهدوء خلال العقدين الأخيرين من حياته، اهتم برسم المناظر الطبيعية هو الذي كان منذ بداياته يعرف، حقاً، القيمة الإيحائية التي يمكن للوحات المناظر الطبيعية ان تخلقها. ومن هنا ما سيقال من أنه حتى في البورتريهات الحميمة التي رسمها، ولا سيما بورتريهات هيلين، تعامل مع الكائن البشري، المحبوب، وكأنه جزء من تلك الطبيعة التي لطالما أحبها وبجلها... ولطالما اضفى على رسمه لها، حيوية وألفة. ولد بيتر بول روبنز عام 1577 في وستفاليا لأب كالفيني بورجوازي كان ترك مسقط رأسه انفر ليستقر في كولونيا الألمانية حيث عاش الفتى طفولته. ولقد عاش روبنز حتى عام 1640، حيث مات في انفر الذي عاد ليعيش فيها آخر سنوات حياته، وبعد أن بلغت شهرته مبلغاً عظيماً، هو الذي على رغم كالفينية أبيه، انطبعت طفولته بتوجه كاثوليكي واضح يبدو راسخاً في لوحاته الدينية العظيمة التي رسمها لاحقاً. وهو في شبابه، على أي حال، ما كان له إلا أن ينطبع بالكاثوليكية إذ سافر الى إيطاليا البابوية مبكراً ودرس الرسم هناك قبل أن يكتشف دوق مانتوا مهارته ويغريه بالعمل عنده. وهو بعده تنقل لدى الكثير من البلاطات، رساماً وسفيراً، ما عزز مكانته وقدراته، قبل أن يعود أخيراً الى انفر ويمضي هناك بقية سنوات عمره منجزاً أعملاً فنية خالدة.