لم يكن روبنز، أول الرسامين الذين يتجولون في معظم الانحاء الأوروبية، فذلك التجوال كان، كما نعرف، خبز الرسامين اليومي في أوروبا، بعضهم يبحث عبره عن القيم الكلاسيكية والبعض الآخر عن الشمس، والبعض الثالث عن عناصر عديدة تقوي ملكة الفن لديه. لكن روبنز كان واحداً من أول الرسامين الذين عاشوا العالم الأوروبي، ليس كطلاب علم وفن فقط، وليس كجوالين يبحثون عن شيء ما، وانما كذلك كحضور دائم في أمم أوروبية عديدة، حضور كفنان وكمعلّم وكمفكر وديبلوماسي. من هنا لم يكتف روبنز بأن يكون "أوروبياً" في سن الصبا والشباب وحده، بل كان "أوروبياً" في هذا المعنى، بعد ان تقدم به العمر، وصار يتعامل مع فنه كمؤسسة، بالمعنى الحرفي للكلمة، فهو، حين عاد الى انتورب في بلجيكا الآن ليقيم فيها، بعد غياب، وإذا قرر ان تكون موطنه النهائي، تمكن بفضل أرباح حققها من رسوم كنسية، أن يشتري قصراً كبيراً يخصص غرف عديدة فيه لتلامذته ومعاونيه. وهناك في ذلك القصر راح يرسم تحقيقاً لمطالب ملوك أوروبا ومؤسساتها: نفذ لوحات لفيليب الثالث ملك اسبانيا، وجاك الأول ملك بريطانيا، كما نفذ أعمالاً لملك بولندا. ومن الواضح ان العمل أصبح الآن بالنسبة اليه عملاً مؤسساتياً: يصمم هو اللوحة ويقوم تلامذته بتنفيذها ثم يأتي هو في النهاية ويضع عليها لمساته اللونية الأخيرة التي تعطيها بهاءها ونكهتها. ولكن في مقابل هذا العمل الجماعي، والذي كان فيه روبنز كتلميذاً أميناً لعصر النهضة، وخرج به عن المواضيع الدينية ليطرق مواضيع دنيوية، كان روبنز يحرص على ان ينفذ بنفسه لوحات كان يعتبرها أقرب اليه. ومن هذه اللوحات لوحة "الفلاسفة الأربعة" التي نفذها بين العامين 1614 - 1616. ولئن كان قد قيل دائماً ان النور يبدو في لوحات رمبراندت وكأنه يجتذب شخصيات اللوحات اليه، فإن هذه اللوحة بالذات تكشف ان الوضع مع روبنز، كان على العكس من هذا: النور هنا يبدو طالعاً من الشخصيات نفسها. وليس هذا بالأمر الغريب على لوحة أراد فيها روبنز، في تكريم لأخيه المفكر الراحل فيليب، ان يصور قوة الفكر والفلسفة والحضور الأسمى لأصحاب العقل، عبر ثلاثة فلاسفة لا أربعة كما يدل عنوان اللوحة، وهم أخوة فيليب، الى أقصى يسار اللوحة والمفكر يان دوفيريوس، والفيلسوف الروائي جوستوس ليبسيوس، وكلهم جالسون تحت تمثال لسينيكا. ان الشخص الرابع في اللوحة فهو الرسام روبنز نفسه، الحاضر هنا كمتفرج لا كمشارك، فهو - بعد كل شيء - لم يكن فيلسوفاً بل رسام ديبلوماسي، ان هذه اللوحة، في تكوينها وألوانها تختصر عالماً بأكمله: عالم الفكر المستقي نوره من ذاته، لا من الطبيعة التي على رغم حضورها في وسط اللوحة يبدو واضحاً ان مقدار الضياء الذي ينبعث منها يقل عن مقدار الضياء المنبعث من تمثال سينيكا، أو من وجوه الفلاسفة الثلاثة. ان رسالة روبنز تبدو واضحة ها هنا: النور، الفكر، يأتي من الداخل، ومن الكتب، يأتي كافياً نفسه بنفسه. ولعل غياب أي مصدر للنور في لوحة حققها رسام في زمن كان فيه تحديد مصدر النور في اللوحة يعني الكثير، لعل هذا الغياب يختصر فلسفة روبنز كلها وتعامله مع اللوحة. فالرجل بعد أن جاب أوروبا كلها طولاً وعرضاً، وبعد ان شاهد الأعمال الفنية العديدة والتقى بالمفكرين، وبعد ان غاص في السياسة ديبلوماسياً، عاد الى انتورب ليجعل من القصر الذي بناه لنفسه فيها، مركز اشعاع فكري، حيث ان القصر بدا أشبه بمتحف يمتلئ بالأعمال الفنية لوحات رامبراندت بين أعمال أخرى وبالكتب النهضوية. ان روبنز الباروكي في لوحاته التي كان يحققها، والذي ابتدع جديداً في رسمه للسقوف، والذي مزج بين الأساليب الإيطالية والفرنسية والهولندية، كان لا يرى من الغرابة ان يعبر في نهاية الأمر، وفي لوحات خاصة مثل تلك العديدة التي رسم فيها زوجتيه اليزابيث ثم هيلين، أو رسم نفسه في مشاهد عائلية، أو في "الفلاسفة الأربعة" حيث رسم أخاه ورسم نفسه واقفاً في الخلفية يتأمل المفكرين الثلاثة حالماً بأن يكون واحداً منهم، عن الإنسان وارتباطه بفكره وبلحظة زمنه. ومن هنا أتت هذه اللوحة أشبه بتحية الى الفكر تزيد في قوتها التعبيرية حتى عن لوحة "مدرسة أثينا" لرافائيل التي كانت رائدة في مثل هذا النوع من الربط بين الفكر الخالص والفن التشكيلي. ولد بيتر بول روبنز العام 1577 في سيغن التي تقع الآن في المانيا، وتوفي في انتورب في العام 1640، ويعتبر من كبار الذين أحيوا فن الباروك، اضافة الى كونه واحداً من كبار الملوِّنين والمعبرين عن النور في أعمالهم. تلقى روبنز، العلم تحت تأثير أمه ذات الشخصية القوية، في المانيا وفي انتورب قبل ان يتجه الى الرسم. وهو في العام 1600 قام بزيارة الى ايطاليا حسمت علاقته بالألوان وبأسلوبه الفني، ولا سيما حين تمكن من نيل وظيفة في مانتوفا في خدمة فنشنزو اي كونساغا. وهو في تلك الأثناء زار روما ومدريد بصفته ديبلوماسياً يمثل الدوق المذكور، وفي العام 1608 عاد الى انتورب، ووضع نفسه في خدمة آل هابسبورغ رساماً وديبلوماسياً، ما أتاح له أن يتجول في معظم البلدان الأوروبية. ومنذ العام 1635 استقر نهائياً في انتورب، حيث توفيت زوجته الأولى، فتزوج من هيلين فورمانت الذي راح يرسمها حتى نهاية حياته التي أمضى بقية سنواتها سيداًَ تدين له الشهرة.