يوم السبت الماضي افتتح دور الانعقاد للفصل التشريعي العاشر لمجلس الأمة الجديد 2003 في الكويت على خلفية انتخابات لم يهدأ ضجيجها بعد، وحكومة نوعية هي الواحدة والعشرون في تاريخ الكويت السياسي، إلا أن القراءة الأعمق لما يحدث في الكويت هي أكبر من الانتخابات على أهميتها، أو تشكيل الحكومة على جدته. فبعد عشرة مجالس منتخبة واحدى وعشرين حكومة، واكثر من أربعين عاماً من الممارسة، تستحق التجربة الكويتية وقفة للدراسة و التخصيب. الاستحقاقات المطلوبة كويتياً وإقليمياً وعالمياً من الكويت هي استحقاقات هيكلية تضع البلد الصغير مساحة أمام تحديات كبرى، تشاهد تناقضاتها على الملأ. فقد كتب أحد كتاب الأعمدة في الكويت قبل فترة قصيرة ينتقد السلوكيات السياسية للسفير الأميركي في الكويت بقوله: "أيها السفير ماذا لو انفجر أحد المواطنين، وليكن الوحيد في الكويت، في المخيم الانتخابي أو الديوانيات التي تزورها وحاول اغتيالك؟ كم سيتسبب بهز الأمن الاجتماعي في بلدنا ويجرنا إلى مشاكل لا حصر لها، أيها السفير الزم سفارتك وأرحنا"! وعلى رغم ان هذا الكلام المثقل بالإشارات والذي تناولته الصحف بعد ذلك بالزيادة والتفصيل، يحدد موقفاً سلبياً من السياسة الأميركية عن طريق نقد ممثلها، نجد في الوقت نفسه على جانب اكبر دوار مروري في وسط البلد، لافتة كبيرة ترفع كلمات شكر للقوات المتحالفة الأميركية والبريطانية، لا يستطيع من يمرّ بالدوار الا ان يلتفت اليها. بين هذين الرمزين يظهر تناقض الاجندة في الكويت اليوم، فأي استحقاقات تراها ماثلة بعدما سقط النظام العراقي المروع والمعوق، وبعدما انتهت تقريباً قضية شغلت الرأي العام الكويتي لفترة من الزمن، وهي قضية المفقودين الكويتيين، الذين يبدو أن النظام العراقي السابق قد اغتالهم من دون رحمة. بين هذين الرمزين، انتقاد حاد للسلوك الأميركي، يصل الى تهديد مبطن، واعتراف وشكر من جانب آخر، تقف الكويت اليوم على مفترق طرق في قضايا جوهرية، لا يجوز التغافل عنها بأخرى هامشية. واذا عدنا الى جردة الحساب فهي طويلة، منها الآتي: إصلاح عاجل للولاية النيابية باتجاه المأسسة لعل أهم القضايا التي ربما لن تناقش لأسباب موضوعية أو ذاتية في البرلمان الحالي، هي قضية الإصلاح المستعجل للآلية الانتخابية، قلت ربما لن تناقش لأن "الديموقراطية الواقعية" ستعمل ضد "الديموقراطية المتوقعة". وفي التفصيل أن الانتخابات الأخيرة، كما سابقاتها، هي فقط من حق ال15 في المئة من مجموع المواطنين الكويتيين، ومع استبعاد المرأة، نصف المجتمع، والشباب بين الثامنة عشرة والواحدة والعشرين من العمر، وكذلك العاملين في السلك العسكري، تصبح كل هذه الديموقراطية المنفذة ديموقراطية أقلية في المجتمع. إذا أضفنا اليها العلل الانتخابية الأخرى، ومنها صغر حجم الدائرة الانتخابية، وسياسة نقل الأصوات المؤيدة وإغراق الدوائر بها، إضافة الى أن أي رقم أعلى من الأصوات بزيادة حسابية عن الآخرين، تحمل النائب الى مقعد البرلمان من دون تحديد حد ادنى منها، وتصبح الديموقراطية المنفّذة مع كل هذه السلبيات ديموقراطية عرجاء. في الانتخابات الأخيرة، حصل نصف الأعضاء على 20 في المئة أو ما حولها فقط من أصوات الناخبين في دوائرهم، فمكنتهم من مقاعدهم النيابية. أي أنه إذا كان في الدائرة الواحدة خمسة آلاف صوت مثلاً فيكفي أن يحصل المرشح على ألف صوت كي يفوز بالتمثيل! قلت نصف الدوائر لكن اذا رفعنا النسبة قليلاً الى 30 في المئة فإن معظم نتائج الدوائر الانتخابية يقع في هذه النسبة. وفي هذا ضعف حقيقي في التمثيل الديموقراطي، إذ يلجأ معظم الديموقراطيات الحديثة الى التأكد من أن عضو البرلمان يجب أن يحصل على نسبه حدها الأدنى 50 في المئة من الأصوات في دائرته كي يتسنى له الوقوف تحت قبة البرلمان. القضية ليست نسباً، ولكن فلسفة الديموقراطية العامة بحد ذاتها، لذا نجد في واقع الحال أن هناك تنافساً في "نقل أصوات المؤيدين" وإجراء انتخابات فرعية على رغم أن القانون الرقم 9/ 1998 يجرّمها بعقوبات مغلظة من اجل احتكار الأصوات، واستخدام وسائل أخرى عديدة للإغراء الشخصي مباشرة أو غير مباشرة، وتأتي بعد ذلك المبالغ التي تصرف على الحملات الانتخابية التي أصبحت باهظة ومكلفة، فيصبح النائب كما قال نائب رئيس البرلمان السابق السيد مشاري العنجري، رهينة الناخب، والوزير رهينة النائب، فتتعطل مصالح العباد المرسلة، وينشغل معظم النواب في التفكير والعمل في موضوع أثير لهم، هو كيفية إعادة انتخابهم. في جو مثل هذا تصبح الديموقراطية الممارسة مضادة للديموقراطية المبتغاة، يتعطل فيها التشريع العام ذو القصد الشمولي. وإذا أضفنا النواقص الأخرى، كعدم وجدود شفافية كافية لعمل النائب ومتابعته بعد نجاحه اللائحة الداخلية للمجلس غامضة في أحوال جمع النائب للنيابة وممارسة المصالح التجارية، تصبح بعد ذلك المطالبة بإصلاح انتخابي جذري عملية لها أولويتها القصوى في المجتمع الكويتي، المحاط بتحديات كبيرة، والمتطلع الى قرن التغير الكوني الواحد والعشرين. في دراسة معمقة لنتائج انتخابات 1999 بعد حل مجلس 1996 تبين ان ثاني القضايا التي ناقشها المرشحون وقتها بعد القضايا الاقتصادية هي "الإصلاح الديموقراطي"، وكانت هذه القضية هي الأولى في المناقشة لدى الأعضاء الذين فازوا وقتها في الانتخابات، وكان مجمل القضايا التي نوقشت يبلغ اثنتي عشرة قضية رئسية، وجاءت القضية التعليمية في المرتبة الثامنة، بنسبة اقل من 5 في المئة من التكرار. من التحليل السابق نجد أن مجلس 1999 الذي انتهت فترته قبل أسابيع، وعلى رغم ضجيج المطالبة بالاصطلاح الديموقراطي لمرشحيه، وارتفاع أولويتها لدى الذين حققوا الفوز فيه، لم يستطع أن يفي بما طالب به المرشحون في خيامهم الانتخابية، أو النواب الذين وصلوا الى السدة البرلمانية. ومن هنا نستنتج أن "الإصلاح الديموقراطي" لن يتحقق كما تريد غالبية الشعب الكويتي، وان مفردات الإصلاح السياسي كما جاءت في برامج المرشحين هي: حقوق الإنسان، حقوق المرأة، توسيع القاعدة الانتخابية، تجريم الانتخابات الفرعية القبلية والطائفية، تفعيل الدور الرقابي لمجلس الأمة، ومعظم هذه المفردات لم ير النور. قضيتان تحسمان الإصلاح من دون التفكير في قضيتين وإيجاد حلول ناجعة لهما ستبقى القضايا المركزية السابقة من دون حل حقيقي. الأولى هي التنظيمات السياسية، وهي اليوم "مكروه" الحديث عنها في الكويت. حسب التعبير الفقهي، فهي لا محللة قانوناً، ولا محرمة قانوناً، في الوقت الذي تنتشر التجمعات ما قبل الأحزاب السياسية إن صح التعبير بشكل عشوائي غير منظم، فيصبح المراقب والناخب الكويتي في حيرة من أمره لتوصيف الممارسة الديموقراطية. أما الموضوع الثاني فهو حرية امتلاك وسائل الاتصال، خصوصاً الصحافة، من اجل التوجيه والدعوة، فالاحتكار هنا يعطل فلسفة الديموقراطية الليبرالية المبتغاة، ومن دون شفافية إعلامية سيظل التوجيه في أيدٍ قليلة قد تكون لها مصالح غير مصالح الغالبية، وبذلك تصبح احدى آليات الديموقراطية الحديثة معطلة. لقد اختصر أمير الكويت الشيخ جابر الأحمد كثيراً من الجهد والوقت والجدل قبل انتخابات المجلس الأسبق 1999، فأصدر في 16 ايار مايو 1999 مرسوماً بقانون رقمه 9/99 يجيز مشاركة المرأة الكويتية في الانتخابات البلدية والبرلمانية ابتداء من الانتخابات التي تلي الانتخابات المزمعة وقتها، بعد التسجيل القانوني في شباط فبراير 2000. وثار نقاش كبير في المجتمع الكويتي كانت غالبيته حسب استطلاعات الرأي تحبذ هذه الخطوة الحضارية، كما وجدت الخطوة صدى طيباً لدى أوساط كثيرة في العالم. إلا أن البعض ناقش باتجاه آخر مخالف الى حد ان رئيس جمعية الإصلاح الاجتماعي صرح بأن المرسوم "مخالفة شرعية ومعصية"! وبعدما قدم المرسوم للمصادقة عليه في المجلس المنتخب، لم يحصل بغالبية صوتين فقط على الموافقة، فلم تكن بصيرة البعض من النواب معلقة على مصالح البلد العليا بل كانت ناظرة الى عيون ناخبيهم. وهكذا تعطلت مسيرة البلاد الحضارية باكمال آليات الديموقراطية الى فترة أخرى من الزمن. أثناء النقاش الكبير في الكويت بعد التحرير أصدرت مجموعة من شباب الأسرة الحاكمة وثيقة كان لها صداها في المجتمع الكويتي وخارجه، وكانت هذه الوثيقة بمثابة "مانيفستو" إصلاحي يحمل نظرة مستقبلية للكويت بعدما مر بها من أحداث جسام. نشرت تلك الوثيقة في الصحف المحلية، وهي تتكون بعد الديباجة من إثني عشر بنداً، منها إيمان الموقعين ب"نبذ أي تمييز طائفي أو عائلي أو مذهبي"، وب"أن الكويت كل واحد، فيه الموطنون سواسية" وفيها "رفض تصنيف المواطنين درجتين" كما تدعو الى "توحيد الحقوق والواجبات للجميع" وتؤكد أن "الحرية والديموقراطية مسألة تتطلب التوائم والتلاؤم معها بعقل أكثر انفتاحاً وبمنهج أكثر انضباطاً" وتذهب الوثيقة الى أن الموقعين عليها "متفقون على أن توسيع قاعدة المشاركة الشعبية وتعزيزها هدف من أهداف الحكم، لا يأتي بغير تشجيع مبدأ الانتخاب وتعميمه" ثم تؤكد "ضرورة العمل على بناء دولة المؤسسات التي يحكمها نظام لا يتغير بتغير الأفراد". هذه الوثيقة ربما تمثل الكثير مما كانت تطالب به الجماعات المستنيرة في الكويت لتعزيز المسيرة الديموقراطية وتجذيرها، وقد شارك بعض موقعيها لاحقاً في الحكم، أو اصبحوا أكثر تأثيراً في مسيرته، وهي إن كانت تلخص القضايا الكبرى فإن مبادئها ما زالت تحتاج الى تفعيل قانوني وواقعي. الإصلاح الاقتصادي والجوار دولة الإنتاج بديلاً عن دولة الرفاه، هي القاعدة التي يقول بها خبراء الإصلاح الاقتصادي والسياسي في الكويت. لقد أدت دولة الرفاه دورها، لم يعد في الإمكان استمرار تلك السياسات التي قامت على وجود الوفرة المالية في العقود السابقة، وعدم الاستمرار له اسباب موضوعية، وهي أن الوفرة المالية لم تعد مضمونة. وفي احدى الوثائق الرسمية المبكرة لعام 1998 والتي تناولت خطط التنمية، ظهر القول ب"أن المجتمع والاقتصاد الكويتيين وقعا في حلقة مفرغة هي حلقة تمر بنزعة مبالغ فيها للاستهلاك ولإنتاجية منخفضة، ونظام أبوي للرعاية، تنعكس سلباً على التنظيم المجتمعي، وعلى أنماط المشاركة التنموية، ومحتوى العملية التعليمية والمادة الإعلامية والترفيهية وأسلوب تنشئة الأجيال المتعاقبة". لقد قرعت تلك الوثيقة جرس الإنذار، وهو قرع قبلها أيضاً في جملة من الدراسات الاستراتيجية، إلا أن الإصلاح الاقتصادي وقبله وقاعدته الإصلاح التعليمي والثقافي لم يعط الأولوية التي يجب أن يأخذها. فهناك الكثير من النقد لنظم التعليم الحالية التي لا تساير أو تلبي حاجات التنمية، فالعملية التعليمية تركت تتقاذفها الشهوات السياسية، وتعطلها الرغبات الاجتماعية، من دون أن ترجح كفة الإصلاح. والتعليم اليوم وعلى المدى البعيد هو "رأس المال البشري" الحقيقي، الذي يقرر في النهاية تغلب الأمم والشعوب على مشكلاتها، أو هزيمتها أمام هذه المشكلات. ولعل اشارتي السابقة الى أن قضايا التعليم جاءت في المرتبة الثامنة من اهتمامات المجلس السابق المكونة من اثنتي عشر قضية أي أن هناك سبع قضايا قبلها يدل دلالة واضحة الى المستوى المتأخر للاهتمام بإصلاح التعليم. الاقتصاد في الكويت مبني كلياً على دخل النفط، وهنا يأتي الموضوع العراقي ليدخل مدخلين: الأول، احتمال إنتاج عراقي للنفط يقلل في نهاية المطاف من أسعار النفط في السوق العالمية، وتتأثر الكويت بذلك سلباً، كذلك الدول المنتجة الأخرى. كما أن الملف العراقي السياسي لا يزال مفتوحاً على احتمالات لا يستطيع أن يقدرها أحد اليوم. هذا الغموض العراقي بعد كل ما تحملته الكويت، يشكل عبئاً إضافياً على صانع القرار. صحيح أن مفهوم "دول الضد" الذي شاع في القاموس السياسي الكويتي بعد التحرير قد ضعف، وربما انتفى من التداول، إلا أن العلاقة مع المحيط العربي تحتاج الى ترميم، وقبله وضع تصور واضح لهذه العلاقة وطبيعتها، على أن لا تجور القضايا الداخلية على هذا الترميم بخلطها بالقضايا الخارجية، كما حدث من نقاش سلبي للمساعدات المالية الكويتية في مجلس الأمة السابق والتي أضرت من دون أن تحقق مصلحة ما. يبدو أن هيكل الإصلاح المطلوب والمتوخى متعدد الدرجات في الكويت، والاستحقاقات كثيرة، ونتائج الانتخابات التي جرت تقول لمن يريد أن يقرأ أن الكويتيين يطالبون بالتغيير مع الإصلاح، فهل تسعفهم الديموقراطية القائمة؟ ذلك سؤال الإجابة عنه مؤجلة. * كاتب كويتي.