تضم منطقة الكاظم في بغداد اخلاطاً من الشيعة الحضريين، الذين وان كان بعضهم من اصول عشائرية جنوبية، الا انهم اندمجوا في نمط مختلف من العيش والعمل والاقامة. المنطقة كسبت اسمها من مرقد الامام الكاظم، وحول المرقد تشكلت بيئة مختلطة من العائلات الشيعية. وتعد منطقة الكاظم اليوم من اكبر مناطق بغداد التجارية، كما ان اسواقها التي تشكلت ونمت حول المرقد وبسببه اتسعت وتحولت الى اوسع اسواق شعبية في بغداد. الشائع اليوم في بغداد ان منطقة الكاظم او غالبية سكانها هم من مقلدي السيد علي السيستاني. وهذا الأمر ليس مصادفة طبعاً، فهذه البيئة الأكثر مدينية من بيئة مدينة الثورة هي اقل تقبلاً لدعوى تيار ورثة المرجع المتشدد محمد صادق الصدر، وابناء الكاظم ايضاً عرضة دائمة لاتهامات مقلدي محمد صادق الصدر بعلاقتهم بالنظام وبتخليهم عن متطلبات الشرع، علماً ان الصدر نفسه ابن عائلة كاظمية، ورجل الدين الأبرز في الكاظمية هذه الأيام هو السيد حسين الصدر الذي لم ينج من تفسيق السيد محمد صادق ومقلدين له، ومن اتهامهم له بعلاقة سابقة مع النظام. تتشكل الأحياء السكنية والأسواق التجارية في الكاظم حول المرقد وفي ظله، وهي احياء كثيفة السكن وشعبية على رغم مدينيتها. والخليط الاجتماعي الذي يؤلفه السكن في منطقة الكاظم هو ثمرة الوظيفة التي يلعبها المرقد لجهة جذبه الحجاج واسكانه لبعضهم في محيطه. ففي الكاظم عائلات بغدادية تعود بأصولها الى اكثر من منبع، وشكّل اختلاطها وتزاوجها لوناً اجتماعياً خاصاً. عائلات كبيرة اليوم في الكاظم كآل النواب وآل الوردي وآل الأستربادي وآل الصدر وآل الخالصي. وتؤوي الكاظم ايضاً جيوباً صغيرة من الأذريين والأكراد الفيليين الهاربين من خانقين. ويتحدث العراقيون عن فروقات فعلية بين شيعة الكاظم وشيعة النجف وشيعة كربلاء. فالكاظم منطقة تجارية مدينية فيما النجف بدوية عربية وكربلاء عربية فارسية. والفروقات تصل الى حدود ممارسة الطقوس، فالكاظميون الذين يسمون انفسهم بأبناء موسى الامام موسى الكاظم هم الذين ادخلوا طقوس ضرب النفس الى الشعائر الكربلائية، فيما يعتبر النجفيون البدو الذين يطلقون على انفسهم اسم "ابناء علي" نظراً لوجود مرقد الأمام علي في مدينتهم، ان ضرب النفس لا يليق بالرجال. وفي المسيرات الكربلائية من النجف الى كربلاء يسير ابناء علي وابناء موسى في مسيرات منفصلة ويؤدون شعائر مختلفة. الكاظميون، وهم اكثر التصاقاً بمذهبهم واكثر تمكناً من شعائره وطقوسه، يُبدون اليوم اعتدالاً وهدوءاً لجهة العلاقة مع الجماعات الأخرى وتفهماً لشعائرها. يمكن رصد هذا الاعتدال اليوم من خلال وقوف ابناء الكاظم خلف المرجعية الهادئة التي يسميها تيار مقتدى الصدر بالمرجعية الصامتة، المتمثلة بالسيد علي السيستاني. فالطبيعة المدينية لهذا الخليط السكاني والوظيفة التجارية التي يؤديها تريان في مرجعية السيستاني خياراً عقلانياً. فيقول السيد حسين الصدر ل"الحياة" رداً على سؤال عن تظاهرة جابت بغداد نظمها تيار مقتدى الصدر وطلبت ترك موضوع تشكيل الحكومة الموقتة للحوزة الدينية "المطلوب من الحكومة فقط ان تكون عادلة ومنصفة، ومعنى ذلك ان تعطي كل ذي حق حقه. وان لا يظلم فيها لا الشيعي ولا السني ولا غيرهم. فلا دور مباشراً للحوزة في تشكيل الحكومة". ولفت حسين الصدر الى ظاهرة الفوضى التي رافقت عملية سقوط النظام في بغداد قائلاً: "كان دور السيد علي الحسيني السيستاني كبيراً في تهدئة الأمة وتوجيهها بالشكل الصحيح، وكذلك كان لما اصدرناه من نداءات تؤكد ضرورة حفظ الأمن ودعوة العاملين في المؤسسات الخدمية للالتحاق بوظائفهم دور ايضاً. كما اكدنا ضرورة ارجاع المسروقات الى المؤسسات العامة". ويبدي الصدر الكاظمي سعادته لسقوط النظام في العراق ويؤكد "ان صدام حسين اضطهد الجميع هنا في العراق، بكل مذاهبهم وقومياتهم، فشعرنا بالسعادة لما حصل ولما حققته قوات التحالف لجهة ازالتها هذا النظام". وهنا قد تكون الاشارة مفيدة الى ان السائق البغدادي الذي يعمل في الفندق رفض الذهاب الى "مدينة الثورة" لاعتقاده بامكان تعرضه لسوء ما اذا ما عرّف احد بأصوله الطائفية، فيما ابدى السائق نفسه حماسة للذهاب الى الكاظم، وتحدث عن تسوقه الدائم من اسواقها، وعن دماثة تجارها وتدني اسعار سلعهم. وكلام رجل الدين الكاظمي على عموميته، يرشح بحساسية واضحة يمكن لمن يعيش في العراق اليوم تلمس مدى نفورها من شعبوية جماعة "الحوزة الناطقة"، الذين يجيبهم حسين الصدر على تصنيفهم الحوزات بين ناطقة وصامتة بأن "الحوزة في العراق واحدة وكل المراجع اليوم مع السيد السيستاني". ولهذا التفاوت او الاختلاف صوره ومشاهده، ويمكن رمزياً تجسيده عبر نوعين اجتماعيين وسياسيين قد تمثلهما "مدينة الثورة" حيث الركيزة الاجتماعية لتيار مقتدى الصدر، ومنطقة الكاظم المنحازة لمرجعية السيستاني. المنطقتان تشكلان الجزء الأكبر من بغداد. الأولى عشائرية تغلب البداوة تشيعها، والثانية مدينية وتجارية. الشائع عن سكان الثورة مشاكستهم، ولكن ايضاً فقرهم وصدورهم عن بيئة فلاحية محرومة، فيما يعرف سكان الكاظم بمرونة تعاملهم والتزامهم مرجعيات معتدلة. وعندما تتحدث مع مسؤولين في تيار "الحوزة الناطقة" تغيب عن احاديثهم اي اشارة لوجود جماعات اخرى في العراق، لا بل يميلون الى نفي اي حقوق للآخرين ويذكرون دائماً بغلبتهم، فيما يحرص حسين الصدر على اشراك الطوائف والأقوام العراقية الأخرى في الخريطة التي يؤشر اليها، وهو امر مفهوم في بغداد، فعائلات الكاظم شديدة الاختلاط وعلاقاتها التجارية تتجاوز العراق الى الخليج وايران. المتجول في اسواق الكاظم سيلاحظ ذلك التجاور والاختلاط بين الوظائف الدينية والتجارية لهذه المنطقة. تجاوز مسافة قصيرة في هذه الأسواق المكتظة يتطلب احتكاكاً جسمانياً بما لا يحصى من الرجال والنساء والأطفال المتسوقين والباعة. المساحات ضيقة وطقس التسوق لا يخضع لقانون الفصل بين الجنسين. الفاصل هنا هي تلك العباءات السوداء غير المشدودة باحكام، فيما المعممون الكثر من العابرين لا يكترثون لعمائمهم خلال تجوالهم ومشارعتهم للباعة، ووسط هذا الازدحام الشديد تنحسر عباءات المعممين ودشاديشهم فتتساوى الأجسام والهيئات، وتفقد العمامة ذلك التأثير الذي تمارسه في مناطق العراق الأخرى. اللهجة العراقية وما تخلفه في اذن سامعها في هذه الأسواق، من صور العلاقة بين الأم وطفلها او الرجل وزوجته، تبعث على الاحساس بقرب ما الى هذه البيئة التي تشكل عاديتها استثناء هنا في عراق اليوم. حتى اجواء تلك المقاهي في شارع الحرية، وهو الظهير السكني لمنطقة الكاظم، تردك الى مشاهد عيش تعرفها في المدن. رجال يجلسون على مقاعد خشب ناظرين الى الشارع المقابل، وآخرون يشربون الشاي ويلعبون الزهر. اسواق واحياء فقيرة لكنها طبيعية ومزدحمة بسلع واضحة وشرعية. الأقمشة المخصصة للعباءات السود، والثياب المستوردة من تركيا وسورية، وعربات تشق طريقها بصعوبة بين العابرين محملة حلوى محلية ذاب السكر عنها بفعل الحر الشديد. اما مرقد الكاظم فيطل بقبته الذهبية كمراقد الأئمة الشيعة الآخرين على العابرين الفقراء، من دون ان يكون متنافراً مع فقرهم.