من بين المسؤولين في الحكومة العراقية التي اطاحتها قوات الحلفاء، فان اسم وزير الاعلام السابق محمد سعيد الصحاف هو الاكثر تداولاً بين الناس. تتناقل وسائل الاعلام، في العالم اجمع، اخباره وتلاحق حركاته كما لو كان نجماً سينمائياً. ومنذ اشتهر الصحاف بمؤتمراته الصحافية لم يعد مجرد رجل عادي ولم يعد اسمه مجرد اسم علم. خرج الرجل من نفسه وتحول الى صورة وصار اسمه اشارة. واصبح في الامكان الحديث عن محمد الصحاف، الرجل والاسم معاً، كظاهرة صحافية، وغدت الصحافيزم علامة على عقلية ولغة واخلاق وسلوك. لن نستغرب اذا ما دخلت هذه الكلمة القواميس في المستقبل القريب، حيث قد يكون لها اكثر من معنى. وهذه هي المرة الثانية التي يشتهر فيها وزير اعلام حكومة مهزومة. المرة الاولى كانت في اعقاب الحرب العالمية الثانية حين انهزمت المانيا امام قوات الحلفاء هناك ايضا، وكان وزير الدعاية الاعلام؟ الالماني جمع المجد من طرفيه بمقولته الشهيرة عن الكذب الذي يصير، لكثرته، حقيقة! فالشخصيات والحوداث تتكرر. قيل هذا الشيء مراراً عدة. قيل ايضاً انه في المرة الاولى يظهر الامر على شكل مأساة وفي الثانية يصير مهزلة. من قال ذلك لم يخطىء. اذا كان الوزير الالماني جسد في شخصه المأساة، مثلما فعل الفوهرر هتلر، فان الصحاف، على غرار القائد صدام حسين، استحضر المهزلة كاملة. ظاهرة الوزير الالماني، غوبلز، معطوفة على سلوك هتلر، لم تمت بموت صاحبها. هي لم تخرج الى العلن من العدم. كان هناك محيط انتجه، ولم يضمر ذلك المحيط من بعد زوال الظاهرة. هذه حال الصحاف كذلك. لم يكن الصحاف سوى منتوج مشوّه لمحيط ساعد، ولا يزال يساعد، على بروز التشوهات المماثلة. الصحافيزم بهذا المعنى، تكمن في الخارج اكثر من مكوثها في الشخص. انها تقوم في اللغة والاخلاق والسلوك. يقوم فضل الصحاف في انه اعطى لهذه الاشياء اسماً. كانت الصحافيزم مخبأة في العبارات، متناثرة على الألسن، سائرة في الطيّات الداكنة للسلوك. كان صعباً تشخيصها وتعيين وجودها، كأن الامر تعلق بطيف مجهول. منح الصحاف للطيف من لدنه اسماً. وهو جعل الاسم تاريخاً ومكاناً وعبأه بالدلالة والتأويل. فمن اليوم فصاعداً سيغدو من السهل التعرف على معتنقي الصحافيزم وممارسيها. ستكون الصحافيزم اداة فعالة في التدليل. لن نحتار بعد اليوم، في تعيين اشخاص يملأون الانظار والاسماع بالقول ونقيضه. فالصحاف استعمل مفردات العلوج والطراطير والخايبين وما شابه تصغيراً لقوات الحلفاء. وهو وصف الرئيس الاميركي ب"جورج الصغير" من باب التشهير. اما صدام حسين فقد لبث رمزاً للشجاعة والنخوة والقيادة الحكيمة. قرر الصحاف ان الحلفاء مهزومون، مدحورون، محاصرون ولن تمضي ساعات حتى تقطع رؤوس جذورهم مثلما يقطع رأس الافعى. الحكومة العراقية، في منظور الصحاف، منتصرة على الدوام، كانت وستبقى كذلك. فقد كان الواحد يصغي الى الصحاف ويراقب حركاته، في بذلته العسكرية، فيلقى نفسه امام منظر كاريكاتوري. كان الموقف يبعث على الضحك في لحظة متوترة مليئة بجدية مميتة. الصحافيزم اهانة للعقل وتشويه للحس السليم. هي ايضاً تحقير للوقائع وتحقير للبشير. انها تعلن هزيمة الذات نصراً وترسم نصر الآخر هزيمة. هي قلب للصورة. انتهى محمد الصحاف، الرجل خائفاً معزولاً في انتظار ما يآتي، لكن الصحافيزم باقية. يكفي فقط ان نقرأ بيانات الحكومات والاحزاب. ان نلاحظ معارك المثقفين الذين يستعملون اسلحة شتائم شاملة ومن العيارات كلها. كان حزب كردي، في تركيا، اعلن "الكفاح المسلح" لتحقيق استقلال كردستان. وعلى مدى ما يقارب العقدين من الزمن هلك ثلاثون الف شاب كردي في هذا الكفاح وهرب اكثر من مليون شخص من ديارهم واحرقت القرى والبلدات. والآن يعلن الحزب هذا ان هدفه الاقصى هو تحسين ظروف زعيمه المعتقل وادماج الاكراد في المجتمع التركي تبعاً للمبادئ الاتاتوركية. وفي كل يوم يعلن جهاز الدعاية في الحزب انه حقق انتصاراً كاسحاً على الحكومة التركية. الصحافيزم باقية ببقاء الاوهام.