طلب عبدالله اوجلان زعيم حزب العمال الكردستاني، المحجوز في سجن في جزيرة إيمرالي التركية بتهمة الخيانة والسعي الى تقسيم البلاد، من اتباعه الكف عن مقاتلة الجيش التركي والعدول عن مناهضة الحكم التركي. ودعاهم أيضاً الى نبذ النضال المسلح والركون الى السلم. بل انه أشار اليهم بالخروج من نطاق الدولة التركية وحدودها كلها وترك الساحة واخلاء الجبهات لينعم الضباط والجنود والسكان الأتراك بالأمان وراحة البال. وبهذا الطلب عقد الزعيم الكردي المعتقل العزم على وضع النهاية لصراع دموي خاضه حزبه مع المؤسسة العسكرية التركية خمسة عشر عاماً من دون توقف، أزهق أرواحاً كثيرة وخلّف دماراً كبيراً وشرّد ملايين من الأكراد من أماكن سكنهم وأتى على أنعامهم وأرزاقهم وقراهم ودورهم. والزعيم الكردي كان يتوقع من كل هذا أن ينال رضا الحكومة التركية ويحصد عرفان الأتراك، من العوام والخواص، فيتم الصفح عنه ويجري انقاذه من حبل المشنقة المنتظر. غير أن هؤلاء قابلوا الأمر بالكثير من اللامبالاة وعدم الاكتراث والاستهزاء. وما زال مصير اوجلان محاطاً بالشك والسؤال. لكن مبادرة اوجلان خلقت الارتباك والحيرة في صفوف أنصاره والمتعاطفين مع القضية التي كان ينطق باسمها. وظهرت الحيرة في الوجوه منذ الأيام الأولى لاعتقاله. وفي حين عمّ الغضب في صفوف الحشود المؤيدة له فراحت تصرخ وتضرب الأرض بالأقدام وتضرم النار في النفوس وتعلن في العالم جميعاً ان زعيمهم خُطف بأسلوب القرصنة وأنه يتلقى العذاب صنوفاً بأيدي الخاطفين، ظهر عبدالله اوجلان وقال انه لم يلق معاملة سيئة وأنه في كامل الوعي يريد خدمة الدولة التركية وبذل الجهد في سبيل مصالحها. ثم قدم الى المحاكمة فطلب من المحكمة امكان الكلام وفعل فاعتذر من أهالي المقتولين الأتراك وأبدى أسفه لما حصل وأظهر من جديد حسن نيته تجاه الحكومة التركية وكرر إرادته في بذل الخدمة لها. ومن بعد تكررت عروضه في العطاء والخدمة وبذل الجهد والنفس لجعل تركيا دولة قوية ذات بأس وشكيمة. وهو أخبر محاميه الاستعداد لانهاء حركة العصيان المسلح التي كان يقودها واتهم دولاً أجنبية كثيرة بمحاولة الاساءة لتركيا وزعزعة استقرارها من طريق تقديم الدعم لحزبه. وهو قال ان جهات كثيرة لا تريد الخير لتركيا ولا تريد أن تراها واقفة على قدميها. ولم يستطع نفر كبير من أتباع اوجلان، أو المتعاطفين مع حركته، كظم غيظهم وستر حنقهم مما يتوالى أمام أعينهم. وهم راحوا يسألون أنفسهم عما إذا كان الأمر حقاً يتعلق بحركة للتحرر القومي تزعمها اوجلان وأصرّ خلالها على نشدان الحق القومي المشروع للاكراد. بدا الأمر محيّراً كثيراً. فكيف يظهر من زعم تمثيل دعوة شعب شغوف بالخلاص من القهر في مظهر كائن متردد ومذعور، يطلب خلاصه الفردي بأي ثمن. وكيف يتم، بهذا القدر من اليسر، احتقار غايات أناس دفعهم صدقهم واندفاعهم الى حرق النفس قرباناً لمن توسموا فيه البطولة؟ كان صعباً، والحال هذه، تقبل الصورة التي ظهر فيها اوجلان أمام مضطهدي شعبه، هو الذي لبس، على الدوام، لبوس الإباء والعنفوان ومواجهة المخاطر. وتطلب الأمر، من كثيرين، الرجوع الى الوراء وتفحص المسير الذي سار فيه اوجلان وأتباعه حتى يتم التأكد مما يجري لتفحص الحاضر على قنديل الماضي. لقد جرى، منذ البداية، ربط قضية عامة تشغل الملايين بشخص زعيم واحد. ورُسم الزعيم، على الدوام، في صورة بطل شجاع وجريء يزيح من ذهنه هناءه الفردي ليكرّس ذاته للشأن الكردي العام. وفي هذه الصورة وضعت خطوط ومبادئ أسبغت عليها سمة القداسة والسمو المطلق. وتكرّس مناخ انبثقت فيه آلية عبادة الفرد وتكرست عادات الانقياد الجمعي من دون مساءلة. وغاب عن هذا الفضاء النزوع الى التشكيك والرغبة في الانتقاد. وحين استتبت الأشياء على هذا النحو كان الوقت متأخراً للرجوع الى الوراء. لقد انطبع التقسيم الصارم للأشياء في القاع الذهني والنفسي وغدا الجو مليئاً بالخطوط الحمر والتابو. ارتفع اسم عبدالله اوجلان في الأعالي لأنه مس مواضع القلق في الحشد الكردي. وصاغ من هواجس ذلك الحشد شعارات لامست بالضبط مواضع التوق الى الانعتاق. ولقد كانت الحرية رأس الحربة في ذلك. وسعى اوجلان، على رأس حزبه، الى الإطلالة في ثوب أكثر المنادين بالحرية ثباتاً على الرأي وتمسكاً بالنشاط النضالي. واشتمل الخطاب السياسي والايديولوجي للحزب على مقولات خلاص الأكراد واستقلال كردستان وضرورات الشهادة وبذل النفس كبديهيات قريبة للوجدان قرب الجفن من العين. وأطلق اوجلان على الأحزاب الكردية الأخرى، التي تواضعت في مطالبها ولجمت اندفاع خطواتها وأرادت السير تدرجاً في مطالبها، نعوتاً تتراوح ما بين الانتهازية والخيانة القومية. ولم يتردد أتباعه في الهجوم، هجمة عنيفة، على من يخالفونه في الرأي والمطلب. وسالت دماء كثيرة في هذا السبيل. وأظهر الحزب العمالي نفسه في هيئة جسم يبغي لمّ شمل الأجزاء المبعثرة من كردستان. وإذ هزأ اوجلان، وحزبه، من الزعماء الآخرين في كردستان نطق باسم الجميع وتكلم بسحنة زعيم أوحد، بل خطا أبعد فنهض في قوام مخلِّص يعرف كيف يسير بالجميع نحو المال الموعود. وفي استدراك لسدّ الطريق أمام انفضاض الحشد تفتق الذهن عن مناهج لعجن العناصر في كتلة واحدة ومن تفكيكها والربط في ما بينها بخيط أوحد. فالتحكم بالأجزاء أقرب منالاً عن سبيل التذرر. ولقد انشئت بنى وروابط وأطراف وجماعات ترتبط بالمركز برباط من حديد. وفوق هرم كبير من مؤسسات تتسمى باسماء كبيرة، كالجبهة وجيش التحرير واتحاد النساء وبرلمان كردستان والمؤتمر الوطني واتحاد الكتاب... الخ، نهض اوجلان كمرشد ورئيس ودليل لا ينافسه منافس. ولم تكن هذه الجسوم كيانات حرة تتحرك في فضاء الديموقراطية على ما يمكن أن يفهم، بل كانت قوالب مضبوطة لترديد قولة القائد والتصفيق لكل كلام يتفوه به. لم يكن ذلك ممكناً الا بالاستمرار في طريق مقاتلة العسف المركزي التركي ودأب الحكم التركي في إنكار حق الكرد وهويتهم وحجز حريتهم وسد الطريق أمام رغبتهم في التعبير، تعبيراً حراً، عن دواخلهم في سبل العيش واللغة والثقافة والاقتصاد. ولكن، إذا كان الاصرار على مطلب الاستقلال والتحرر مغرياً وجميلاً فقد يصير مأزقاً حين ينعقد لواؤه على عقلية الحاكم الأوحد والطغيان الفردي. ويصير التحرر من الطغيان سبيلاً للوقوع في طغيان جديد، ربما أكثر سوءاً وأعمق شراً. ولقد اندمجت الأشياء بالفعل اندماجاً كثيفاً لم يعد ممكناً التفريق في ما بينها. فقد ذابت القضية الكردية في حزب العمال ثم ذاب الحزب في شخص عبدالله اوجلان. ولم تعد أذهان ونفوس وقلوب وهواجس أتباع الحزب والمريدين تمتلأ الا بعبدالله اوجلان. صار اوجلان رمزاً وأصبح من المستحيل الفصل بينه وبين القضية. ولم يعد ممكناً الطعن في أفكاره أو سلوكه أو حركاته. ولقد غدا مقدساً لأن القضية، في نظر الحشد، مقدسة. وكان كل نقد لاوجلان أو طعم في وجه من وجوه دوراته بمثابة طعن بالحق الكردي واساءة للبشر كلهم من الكرد ومن يشبهونهم. وربما قرأ اوجلان هذه "العبادة" العمياء وفهم منطق الأشياء في الجمع المرصوص فأخذته النشوة وركبه الشعور بقوة الذات ففسر الأمر على نحو تندثر معه القضية بغيابه ويموت البشر والأتراب برواحه. وهكذا تحول الزعيم، في الوسط الكردي المحتشد، الى قائد وضرورة، لكنه ظهر في أعين الآخرين، من خارج النطاق الكردي، كأسطورة يصعب تفسير أبعادها، مثلما يصعب فهم دوافع من يحركهم عنفوانهم للموت حرقاً من أجل لزومه قائداً. ولهذا كانت الصدمة كبيرة عند اتباع اوجلان حين ظهر في الشاشات وفي الصحف، معصوب العينين مصفّر اليدين، لا حول له ولا قوة. لقد بدا الأمر وكأنه انتهاك للمحرمات واهانة للقداسة، فكيف يجرؤ الأعداء، ممن أرعبهم اوجلان طويلاً على النيل منه بهذا الشكل؟ لكن الصدمة التي أصابت الذهن التبعي جاءت من اوجلان نفسه حين ظهر، في ما بعد، بتلك الهيئة من الضعف والهزال والطواعية. وكان في وسع أتباعه ان يرددوا في قرارة دواخلهم ما إذا كان البطل الذي قدّسوه وساروا خلفه ولم يترددوا في ازهاق أرواحهم من أجله، على هذا القدر من الانصياع. وسواء في الطائرة التي حملت اوجلان من كينيا الى معتقله، أم في قاعة المحكمة، فإن آخر شيء فكر فيه وأشار اليه كان الشأن الكردي وحقوق الأكراد وكرامتهم المهدورة. وفي حين ركز من فوره على خدمة الدولة التركية واعتذر لأمهات الجنود الأتراك المقتولين فإنه أغفل الاشارة للمعاناة الرهيبة التي لقيها الأكراد طوال قرن من الزمن على يد الدولة تلك، كما أنه تعفف عن الاعتذار لأمهات المقاتلين الأكراد الذين قتلتهم الدولة. وفي حين سعى اوجلان للحفاظ على ماء وجه الحكومة التركية واظهارها بمظهر الحكم الديموقراطي، البعيد عن أساليب القمع والتعذيب، فإنه لم يفكر قط بماء وجه الناس من الكرد الذين كانوا يتتبعون اوجلان أمام الشاشات مذهولين. لم يحوّل اوجلان المحكمة الى محاكمة للعنصرية والتمييز القومي والقهر والتعذيب والتتريك واخلاء القرى، كما كان يتوقع كثيرون، بل تصرف كمرتكب جنحة عادية يتوسل الى القضاة ويطلب منهم الرأفة بحاله. وهو لم يحوّل المناسبة الى فرصة لشرح قضية زعم النطق بها طويلاً والدفاع عن أفكاره وغايات حزبه وحقوق الناس من الكرد بل بدا كمن يتوب عما مضى ويدين ما فعله فكأنه يصادق على وصف تركيا لنشاط الحزب وعمله العسكري بالارهاب. ولم يُظهر اوجلان نفسه كعضو في حزب جماعي يقود نضالاً مشروعاً ويلخص أمنية ملايين من الناس بل قام مقام كائن يعلو فوق الحزب والناس وهواجسهم. وربما لم يتذكر اوجلان من سبقوه من الكرد في النضالات واولئك الذين أعدمتهم تركيا لسعيهم في خلاص الأكراد. ولو كان تذكر فقد كان في وسعه أن يعد نفسه واحداً في قافلة من الشهداء الذين طالما دعا الكرد الى الذهاب في طريقها. وفي ما سبق كان اوجلان وأركان الحزب ينشرون في الناس أفكاراً تحرّض على رفض واقع تمييزي يعيشونه بمرارة. وكان الواقع ثمرة ايديولوجية الكمالية اذ نهضت على ركن العلو القومي التركي فوق كل قوم آخر. فالكمالية نظرة عنصرية في نسيج تركيا الدولة والناس. وكانت غاية كل نضال في درب الحرية العمل في تقريب أجل تلك النظرة وإحلال فضاء تعددي، في الشعور القومي والثقافة والفكر والسياسة، محلها. فجاء اوجلان، في المحكمة وكذلك عبر كتابات سرّبها بأيدي المحامين، يدافع عن الكمالية ويعتز بها ويقول في الناس انه، هو، الكمالي. ثم شرع يسب التمردات الكردية والانتفاضات التي نهضت في وجه القمع التركي ووصفها بالرجعية والتخلف. وهو رأى ان تلك الانتفاضات وقفت حجر عثرة كأداء في طريق الدولة التركية. لم يكن كل هذا تماسكاً نظرياً واستمراراً لخيط الايديولوجيا التي كان اوجلان وحزب العمل ينشرانه في الناس، اتباعاً وناظرين. فقد بدت الأشياء مقلوبة رأساً على عقب. وبدا وكأن اوجلان اكتشف، من فوره، فضائل السلم والهدوء والتعايش. وظهرت وقائع الحال في هيئة آية معكوسة، فكأن تركيا كانت على الدوام تدعو الى السلم وتنادي بوقف النار وتطلب للأكراد حريتهم وحقهم في تقرير المصير فيصرّ هؤلاء على الرفض وتوسل العنف. وانكشف جانب التهافت في الموقف السياسي الذي بدأ الحزب يتلبسه في الانتقال الى خطاب جديد ينادي بالسلام والكف عن استعمال السلاح، والتنديد من ثم بالعنف والارهاب. فتأكدت دعوى الحكومة التركية في أنها انما كانت تحارب حفنة من الأشقياء والعصاة الارهابيين ممن أضمروا الشر لتركيا وأرادوا لها السوء والخراب. وساهم ذلك في طرد صورة المقاتل الكردي، المضطر اضطراراً للدفاع عن هويته وحقوقه وكرامته، من الأذهان. فحلت محلها صورة متمرد أعمى لا هدف له ولا غاية. وإذ وعد اوجلان بإنزال المقاتلين الأكراد من الجبال بدا كما لو أن هؤلاء عبارة عن قطيع من الغنم يحلو له الصعود بهم أو النزول بهم ساعة يشاء ولحظة تقتضيه أحوال شخصه ومزاجه. فلم تكن الأمور، بذلك الشكل، من عوائد حركة تحرر قومي تتبع أهدافاً مرسومة وتمارس الكفاح وسيلة لاحراز تلك الأهداف، بل هي بدت خطة شيطانية من شخص تحركه نوازع فردية أو دوافع خارجية لا علاقة لها بأهداف الكرد وأحوالهم. وكانت أحزان الأكراد في تركيا تغلي أمام مشهد اوجلان وهو يقايض مأساتهم ويتوسل بها خلاصه. وخنق الحنق أهالي الشهداء والجرحى والمعوقين، وهؤلاء ما كانوا حفنة رعاع بل كانوا جامعيين ومثقفين وفنانين وشباناً وشابات في مطلع العمر تعلقت قلوبهم بمشهد الحرية وسط أهاليهم من الكرد البالغ عددهم أكثر من ثمانية عشر مليوناً من الناس المحرومين من حق العيش. وأصاب الذهول الملايين الذين نزحوا من مواطنهم بعد أن مارس الجيش التركي سياسة الأرض المحروقة في مدنهم وقراهم وأهلك الزرع والضرع وأحرق الغابات ومواسم الحصاد. وكان من شأن الأكراد والمتعاطفين مع حقوقهم، تقبل الخطاب الجديد واستيعاب مقولة السلم ونوازع الهدوء والتعايش لو كانت المبادرة جاءت من الطرف الآخر، الظالم والمعتدي، كما حال المنطق السليم وكذلك حال الأطراف المتنازعة في جهات كثيرة من العالم. كذلك كان مقبولاً لو أن اوجلان اندفع للسلم من موقع حر وقوي ليشير به الى تعلقه بالاستقرار غاية أولى قبل الغايات الأخرى. أو لوكان هو اختار الطريق هذا بواسطة الحجة والنقاش والتحاور مع رفاقه وكذلك مع أنصاره وأتباعه. ولكنه فعل ذلك بهدف شراء حريته. فكأنه يبيع حرية الأكراد ومستقبلهم وأحوالهم ثمناً لرقبته وحريته هو وحسب. وأصابت الخيبة كثيرين ممن كانوا يستعجلون في الأحكام ويضعون اوجلان في مقام زعماء حركات التحرر كنيلسون مانديلا أو ارنستو غيفارا. فالأول قضى ربع قرن في المعتقل فلم يتنازل عن شيء من أهداف حركته أو حقوق شعبه والثاني واجه مضطهديه بجرأة واختار أن يموت على أن يتخاذل أو يستسلم. وارتفع صوت أو اثنان للسؤال عن أسباب الخيبة ودوافع الخذلان. ولكن الحيرة تعاظمت حين سار الحزب العمالي، بقضه وقضيضه، في عقب زعيمه وامتثل له وتنازل، في رمشة عين، عن تركة خمسة عشر عاماً من الكفاح وبذل النفس والدماء والعرق والجهد والعذاب. فكأن كل شيء كان مربوطاً بشخص الزعيم وليس بواقع الناس. وجرى اعتقاداً في أن التنازل للحكم التركي من شأنه انقاذ اوجلان من المشنقة، لكن هذا يصب في قناة الخطأ، وكذلك الخطيئة، من جانبيه الاثنين. في الأول ان الحكومة التركية لم تقرّ يوماً بقوام شأن كردي وقيام قضية كردية. وهي دأبت في القول إن الحال تتعلق بارهاب يربيه حزب العمال وأن الواجب يقتضي قهر الحزب وقتل أنصاره وتدمير بناه وحرق أوساطه في القرى والأرياف والغابات، وكان اعتقال اوجلان ذروة ذلك النهج. وفي الثاني ان الحزب العمالي كان يزعم الانتداب لشعب وليس لفرد وأن اعتقال اوجلان، مثل اعتقال أي فرد آخر في الحزب، ومنهم مناضلون مؤسسون مثل مظلوم دوغان وكمال بيرو خيري دورموش وهم قضوا نحبهم تحت التعذيب، أمر متوقع في كل آن، فلماذا انهاء الدعوة باعتقال شخصه. وفي وسع الحزب التنصل من كل خاطرة تخطر في بال اوجلان على أرض ان الرجل مقيد وتحت ضغط وترهيب وليس الحزب ملزماً بقرار شخص أسير مضطهديه. فلم يفعل الحزب فعلة منطقية تسير في بقاع الأرض، عند حركات المقاومة، حين يقع الزعيم في الأسر، بل هو فعل شأن قبيلة تنهار بانهيار زعيمها وتمتثل لأوامره ونزواته من دون تفحص. وهللت بنى ومؤسسات وقوالب الحزب، جميعها، من البرلمان المنفي والمؤتمر المزعوم وصولاً الى جماعات النساء ورجال الدين، لدعوة السلم يطلقها شخص كسير، مهزوم، مسجون، يردد أقوال سجانيه حرفاً بحرف. وبدت قولة السلم بمثابة تعويذة هبّ الجميع يعلقونها في أعناقهم ويرقصون على أنغام لحن اخترعوه بأنفسهم. وهم صدّقوا أنفسهم وأشاعوا في أتباعهم أن يوم النصر والخلاص بات في متناول السيد وقريباً أكثر من كل زمن آخر. وان كان الأمر كذلك لكان المرء تمنى لو أن تركيا اعتقلت اوجلان منذ زمن بعيد، بل منذ أول يوم، فكانت القضية حلت وكان الناس تجنبوا الويلات والخراب والقتل والتشريد. وليست الحال على هذا النحو. فتركيا هي الظافرة في كل هذه الوقائع وليس الأكراد. ولن يبعث اعتقال اوجلان على حل الشأن الكردي كما يذيع في الناس الحزب وأتباعه. والأتراك لا ينظرون لاوجلان زعيماً أو محاوراً أو صاحب قضية بل كمجرم وقاتل أطفال يلقى جزاءه من لدن العدالة التركية التي نظّف اوجلان سحنتها المعروفة للعالم بالقتامة والكدر. ولن يستطيع الأتراك إخفاء فرحهم اذ حققوا برهن رجل واحد ما عجزوا عن فعله لعقد ونصف العقد من الزمن بأضخم العتاد واكفأ الجنود. فالصراع ينتهي من فوره والأكراد يسكتون ويتنازلون عن حقوقهم، ويتراجع خطاب الحزب العمالي من الدولة الكردية وحق تقرير المصير والهوية القومية الى مواطنين صالحين في كنف الحكم التركي. ويتحول الحزب العمالي من دعاية مناهضة لتركيا الى ألوان لتجميل وتلوين الوجه التركي. ويعطي اوجلان العالم انطباعاً بأن المخطئ في كل هذه السنين كان الجانب الكردي، وأن الثورات الكردية كانت عراقيل بائسة للديموقراطية التركية. وهو يلقي باللائمة على جيران تركيا من اليونان والبلغار ويتهمهم بالورطة في سعي خائب لإيذاء تركيا. فماذا يريد الأتراك أكثر من هذا؟ هم يريدون بالتأكيد أكثر. كأن يذهب المقاتلون العماليون الى كردستان العراق ليشرعوا بتنغيص عيش الناس هناك ويتدخلوا في شؤونهم ويثيروا المشاكل لهم. وتكون تركيا، بهذا، قتلت أكثر من عصفور بحجر واحد. لو أن اوجلان تصرف على نحو آخر، مثلما تقتضيه أحوال النضال الشائعة في بطولات زعماء التحرر، ووقف يذود عن شعبه ويبرر نضال حركته ويفضح انتهاكات تركيا وعنصرية دولتها وتشبث بمطالب حزبه واستهزأ بالإعدام واقتدى بمن سبقوه في ذلك، كالشيخ سعيد وقاضي محمد، لكان صار، بالفعل، بطلاً قومياً وغدا اسطورة تتردد في الألسنة وتختال في الذاكرة. ولكان كسب تعاطف العالم وحقق لقضية الكرد نصراً معنوياً ومادياً لا يقاس. ولكن أين المنى من واقع الحال؟ * كاتب كردي