التقى الزعيمان الكرديان جلال الطالباني ومسعود البارزاني بمسؤولين عسكريين أميركيين وأفراد من وكالة الاستخبارات الأميركية. لا، لم يلتق الزعيمان بمثل هؤلاء. على هذا النحو تضاربت الأنباء والتكهنات عن اللقاء الذي جمع الزعيمين في مكان قريب من مدينة برلين في المانيا، كذلك عن لقاء آخر قيل انه حصل في واشنطن اواخر الشهر الماضي. ومهما يكن من أمر فقد اتسم اللقاء بطابع "غير عادي"، ودارت في شأنه الدوائر. قال المحيطون بالزعيمين إنهما أرادا الاجتماع في جو هادئ وبعيداً عن الأضواء فاختارا منتجعاً ساكناً قرب العاصمة الألمانية. وكان في المقدور تفهم ذلك لولا افتخار أكراد العراق، عادة، بكثرة المنتجعات والمصايف في مناطقهم. هذا فضلاً عن ابتعاد "المنطقة الآمنة" تلك عن الأضواء وفضول الصحافيين. فلو لم يكن هناك "وراء الأكمة"، شيء ما لما تكبد الزعيمان عناء السفر وانطلقا، كل من ناحية، للالتقاء بعيداً، آلاف الكيلومترات عن منتجعات كردستان وسكونها. وسواء كان اللقاء العتيد تم فعلاً بين الجهتين أو لم يتم، فالمسألة لا تكمن هناك. فليس أمراً غريباً أو جديداً أن يجتمع مسؤولون أميركيون مع زعماء الأحزاب الكردية في كردستان العراق. لقد جرى ذلك، ولم يزل يجري، علناً وفي وضح النار سواء في العاصمة الأميركية أو في مصايف كردستان. الطابع "غير العادي" الذي يتلبسه الخبر الحديث هو نهوضه في سياق حملة لفظية ساخنة عن انفتاح أفق، بات منظوراً إلى حد كبير، يختزن تصويب ضربة أميركية بتأييد وثيق من بريطانيا العظمى الحليفة الدائمة للعراق وازاحة الرئيس صدام حسين وأركان حكمه عن سدة السلطة. والأرجح أن تكتم الأكراد على ملابسات لقاء برلين وفحواه إنما ينبع من اتجاه صار راسخاً عندهم ويقوم على ابداء الكثير من الحذر والحيطة في ما يخص المعاملة مع حكومة الرئيس العراقي. ودأبت الجماعات الكردية على ابداء الشكوك في مواقف الحكومة الأميركية وسلوكها ازاء الوضع العراقي. ويجد الأكراد أنفسهم في وضع قلق لا يبعث على الاطمئنان. والحال أن المنطقة الآمنة، التي أقامها ويحرسها الأميركيون والحلفاء، ما برحت تتسم بالرخاوة وعدم الاستقرار. وهي أشبه بحقل ملغوم مهيأ للانفجار في أي لحظة هذا من دون الإشارة إلى اكتظاظ المنطقة بالألغام الفعلية التي تنفجر في عين الواقع وتفتك بأرواح الناس. وتقوم المنطقة في محيط محفوف بالمخاطر، ومن حولها تلبث حكومات وجيوش تنتظر أول فرصة للانقضاض والتهام كل شيء. يدين الأكراد في العيش "بأمان" في المنطقة الآمنة إلى الحماية الأميركية بطبيعة الحال. ولو لم تتوافر مثل هذه الحماية منذ أكثر من عقد من الزمن، لما أمكن انجاز أدنى قدر من مستلزمات العيش والبناء والخوض في ارساء بنى تحتية ومؤسسات عصرية. إلا أن الأحزاب الكردية لم تحاول أن تجعل من هذه الحماية متراساً لتتحرش من وراءه بالحكومة العراقية أو تسعى في زعزعة أركانها والتسبب في نشر المنغصات والمشاكل لها. بل يمكن القول إن ما قامت به هذه الأحزاب ذهب في الاتجاه المعاكس على وجه الدقة. فهي أبقت قنوات الاتصال وأبواب الحوار مفتوحة ورسخت سبل التلاقي والتبادل على الأصعدة الاقتصادية والثقافية والرياضية، ولم تدر الظهر للحكومة، بل دأبت تستقبل المبعوثين من هناك في شأن خلق أرضية للتقارب والاتفاق. وفي موازاة ذلك، حرصت على تبني خطاب سياسي معتدل وسعت في تبديد كل شيء في نياتها في ما يتعلق بالعلاقة التي ينبغي أن تقوم بين الأكراد والحكم المركزي على أساس الاتحاد لا الانفصال. ومع هذا لم يكن ممكناً للاتفاق المبتغى أن يتحقق. ذلك ان الشرط الأولي الذي استمرت الحكومة في فرضه إنما يقوم في ضرورة لجوء الأكراد إلى قطع العلاقة مع الإدارة الأميركية ورفض الحماية التي تتوافر لهم في المنطقة الآمنة. وهذا يعد، في نظر الأكراد، شبيهاً بطلب الانتحار. إذ لا شيء يمكن أن يضمن لهم أن لا يقود الحكومة إلى سابق عهدها في نقض الاتفاقات والفتك بالجماعات الكردية وسوم كل شيء بالنار والحديد. على هذا النحو كان الأكراد، وما برحوا، بين خيارين صعبين لا يمكن التوفيق بينهما: حماية أميركية ذات أهمية حياتية ولكن لا يمكن الوثوق بها إلى النهاية، وحكومة مركزية تتحين الفرصة لتسحقهم ولكن لا يمكن مع ذلك قطع الصلة معها أو استفزازها. حال كهذه اقتضت، وتقتضي، فطنة وانتباهاً وكياسة. فوق هذا، كان لا بد من الأخذ في الحسبان المعادلات المتداخلة في المنطقة العربية والجوار الجغرافي الصعب. وارضاء الأطراف جميعاً مهمة صعبة، ان لم تكن مستحيلة. على رغم ذلك، لا يستطيع المرء أن يتجاهل أن الأحزاب الكردية أصابت حصة من النجاح في سلوكها السياسي ومناوراتها الديبلوماسية. وهي فعلت ذلك بركونها إلى الهدوء ومراجعتها لنفسها وطموحاتها واستفادتها مما مرت عليها من تجارب. كان الأميركيون تخلوا عن مصطفى البارزاني وحركته المسلحة عام 1975 حين توصل صدام حسين مع الشاه الإيراني إلى اتفاق يسدّ الطريق أمام الأكراد. وحين اشتكى البارزاني أمره إلى وزير الخارجية الأميركي آنذاك هنري كيسنجر، رد الأخير عليه بالقول إن السياسة ليست أعمالاً خيرية. وفي اثر هزيمة الجيش العراقي على يد القوات الحليفة الدولية عام 1991 وانسحابه من الكويت، دعا الرئيس الأميركي جورج بوش، الأب، العراقيين إلى الشروع في انتفاضة متمردة على نظام الحكم في بغداد سعياً نحو إطاحة الرئيس صدام حسين. وانتفض العراقيون، من الأكراد في كردستان والعرب في الجنوب، غير أن الرئيس الأميركي أدار ظهره وترك المنتفضين تحت رحمة الحرس الجمهوري الذي أهلك النفوس ودمر الدور والممتلكات. من اثر هذه الأفعال يحاول الأكراد الاحتفاظ بموقعهم والتشبث بالتماسك في وجه الضغوط الآتية من كل طرف. وعلى رغم كل شيء، فإن الإدارة الأميركية لم تفلح في جرّ الجماعات الكردية إلى موقع تناصب فيه العداء السافر للحكومة العراقية أو ترغب في المشاركة في حملة كاسحة تزيح حكومة البعث جانباً. ولكن لا يمكن القول إن الأكراد لا يضمرون رغبة في زوال هذه الحكومة. وهم يتوقون، بالتأكيد، إلى يوم ينهضون فيه ليروا العراق في هيئة جديدة لا أثر فيها لصدام حسين وأقطاب حكمه. وإذا ما تحقق ذلك، أو إذا كانت هناك أرضية أكيدة لتوفر ذلك، لن يكون ثمة ما يعيق الناس في كردستان من اللحاق بالركب والشروع في سبيل البحث عن بديل أفضل يهيئ الامان والسلم والعمران بعيداً عن الحروب. لانجاز ذلك، يتطلب الأمر من العراقيين جميعاً ركوب الحركة، فأن يهرع الأكراد، مثلما كانوا يفعلون، ويصيرون رأس حربة ومن ثم وقود معركة مدمرة، بات واحداً من المحظورات التي يتم تجنبها بأي ثمن. ومن ذلك يمكن ادراك السبب الذي يدفع الزعماء الأكراد إلى التزام الصمت والخلود إلى الهدوء في انتظار العاصفة التي قد تكون ذات نفع لهم ولغيرهم في هذه المنطقة المنكوبة بطاغية لا يحسب حساباً للناس وأحوالهم. وقد يكون هذا هو السبب، أيضاً، في اختيار المنتجع البرليني بعيداً عن أنظار الفضوليين. * كاتب كردي.