لم يعرف الرقم الصحيح للضحايا الإيرانيين الذين سقطوا خلال سنوات الحرب الثمان بين إيرانوالعراق، حتى بعد عقد ونصف العقد على انتهائها. غير أن مصادر غير رسمية إيرانية قدرتها بأكثر من 5 ملايين. وفي مواجهة الانتقادات التي تعرضت لها الإيرانيات جراء الحرب، نشرت المؤسسة الدينية إحصاءات محدودة لم يعوّل عليها الباحثون الإيرانيون يوماً أو يدققوا فيها. واختارت المؤسسة المذكورة تفسير الحرب تفسيرًا دينيًا تحت شعار "الدفاع المقدس". وكان النموذج هذا في حد ذاته محاولة لإخفاء الحجم التدميري للحرب بين سطور الرسائل والوثائق السرية. لذلك، لم يكن الحديث عن آلام مماثلة بالأمر السهل على الصحافيين الإيرانيين. يعتمد الناس العابرون في شوارع إيران على الظاهر الخارجي الساذج لصياغة تحليل عقلاني زائف لنمو تجارة الجنس في إيران التسعينات من القرن الماضي. ويرى هذا التحليل البسيط أن سنوات الحرب الثماني دفعت نساء عدة إلى بيع أجسادهن بعدما رحل رجالهن أو قتلوا على الجبهات، تاركين النساء عاجزات عن إعالة عائلاتهن مادياً. ويرفض الباحثون الإيرانيون هذه النظرية على اعتبار أنها ساذجة جداً، ليدعوا الجمهور إلى رؤية الحقيقة من منظور متعدد التفسيرات. وعلى رغم أنه لا يمكن إنكار دور الحرب في هذا كله، يرى الأكاديميون أن ثمة اكثر من عامل تسبب في ارتفاع نسبة البغاء. ولإنصاف وجهة النظر البسيطة، كما في كل حرب في التاريخ لا بد من تأكيد ان سنوات الحرب تسببت فعلاً في خسارة النساء موارد رزقهنّ في مجتمع متديّن. وقد حاولت المؤسسة الإسلامية كذلك مقاومة هذه الموجة عبر المؤسسات الخيرية - كمؤسسة الشهيد - الهادفة إلى تقديم الدعم المادي لعائلات الذين سقطوا في ساحة المعركة، إلا أن العدد المرتفع لضحايا الحرب حدّ من قدرة صانعي القرار على المساعدة. وساهمت هذه المقاييس في تغذية حملة الحكومة المؤيدة للحرب أكثر مما ساهمت في تلبية حاجات العائلات المتضررة. كما ساهم وَهْمُ حصول العائلات التي فقدت ذويها في الحرب على مساعدة مالية في جعل الذهاب إلى الحرب أمرًا أسهل على الجنود. وقد أدت التحديات البيروقراطية للحصول على هذا الدعم والعدد الهائل من العائلات المتضررة، إلى حرمان العديد ممن يستحقون هذا الدعم منه. مع نهاية الحرب، وبعد 12 عاماً على ثورة 1979، كانت إيران تحاول الوصول إلى نهاية سعيدة للحياة. ومع "القيم الثورية" للتسعينات، تحولت شعارات مثل "العيش ببساطة" و"التضحية الذاتية" إلى شعارات مملة وباهتة. وبدأ المواطنون الإيرانيون يتمتعون بسياراتهم اليابانية والكورية الصنع كذلك بملابسهن الأميركية الصنع وما شابهها. ولم يكن بمقدور العديد من العائلات التي خسرت معيليها خلال الحرب الاعتماد على المساعدات الخيرية لمواكبة الموضة ولإشباع شهية البورجوازية المتنامية المنتشرة بين الصفوف الإيرانية الشعبية في التسعينات. ولم يدرك صانعو القرار الإيرانيون أهمية هذه الهوة تمامًا، ولكن مما لا شكّ فيه أنّ الارتفاع الكبير في حقل البغاء المستتر في إيران التسعينات كان من أسوأ نتائج الحرب التي يحمل العديد من الإيرانيين السياسات الرسمية مسؤولية استمرارها. تجد النساء بشكل عام أنفسهنّ ضعفاء أمام العنف الذكري، ويبلغ ضعفهنّ هذا أوجه في الحروب الذكرية. يصحّ هذا القول في أي حرب، إلا أنّنا نشعر بأثره في الحرب الإيرانية - العراقية بقوة ولا يمكن الاستخفاف بأهميته. بسبب ضعف الجيش الإيراني الذي أنشئ بعد الثورة واحتلال الجيش العراقي جزءاً من الأراضي الإيرانية، جلب مطلع الحرب أيامًا حالكة ومرعبة للنساء الإيرانيات المقيمات، فأينما حلّت الحرب، كانت الجيوش المحتلة لا تجتاح المساحات العامة فحسب بل المنازل، فاختبرت النساء الإيرانيات في سنوات الحرب الثماني، أسوة بمثيلاتهنّ في مختلف أنحاء العالم، مهانة العنف الجنسيّ والذلّ في المدن الممتدة على الحدود الجنوبية الغربية. وتجد لدى مصدر مطلع في الحرس الثوري ذكريات مروّعة عن هذه الفظاعات. وبسبب الطابع المقدس المعطى لهذه الحرب، يحرص هذا المصدر على عدم إفشاء هويته عندما يصرّح بأنّه وجد في تلك الأيام أنّ 18 عسكرياً من الجيش العراقي اغتصبوا فتاة في الثالثة عشرة الواحد تلو الآخر، أو أنّه عثر على جثث 11 امرأة مغتصبة في مقبرة جماعية. وليست تلك إلا نماذج بسيطة مما تقاسيه الإيرانيات في المدن الحدودية وهذا ما أغفله الإعلام الإيراني عند نقله للأخبار. وتشير أستاذة إيرانية في علم النفس في جامعة طهران، إلى وجود عدد كبير من المرضى النفسيين المصنفين ك"ضحايا الحرب من النساء" حتى بعد مرور 14 عامًا على نهاية الحرب. وتشير استنادًا إلى بحثها الخاص ودراساتها إلى أنّ نحو 5 في المئة من النساء اللواتي يقصدن العيادات النفسية هنّ ممّن عوملوا بعنف ولا إنسانية في الحرب. دم الطبيعة الأحمر يتعلّق الضعف الآخر الذي تعاني منه النساء بطبيعتهن البيولوجية. ويتجلى ذلك بوضوح في أبحاث منظمة الصحة العالمية عن حروب قوات التحالف في أفغانستانوالعراق، ولكن ليس من إحصاءات نهائية في ما يتعلّق بالحرب الإيرانية - العراقية. ويشير الدكتور مهتاب محمدي إداري من الدرجة الثانية في وزارة الصحة في الجمهورية الإسلامية الإيرانية، إلى أنّ المسؤولين الإيرانيين كانوا عاجزين عن العناية بالتعقيدات الناجمة عن عادات اللاجئات الشهرية. كما تذكّر المنظمة أنّ المساعدات في مجال التزويد بالفوط الصحية كانت شحيحةً للغاية، لأنّ العديد من القادة العسكريين في الحرس الثوري الإيراني كان يعتبر الطعام والرصاص أكثر أهمية للشعب الذي يمرّ بفترة حرب. كما تذكر أنّ مسألة الحمل كانت تشكّل موضوع فكاهة ساخرة يتبادلها صانعو القرار الذين كانوا يفضلون أن تنجب المرأة الحامل الرازحة تحت بنادق العدو من دون أي مساعدة صحية وتحت سطوة البنادق عينها. كانت النساء يعرفن أنّ المستشفيات المدمرة تفتقر إلى الأسرة اللازمة لإنجاب أطفالهنّ. إذا لم تتمكن المساعدة الصحية من تغطية حاجات الجنود المصابين، فما بال حاجات اللاجئات الصحية الشهرية؟ عندما أطلق صندوق الأممالمتحدة للنساء في العام 2001 مشروع بحث عن العنف العائلي في المدن الرازحة تحت الحروب في العالم كان مرّ عقد على نهاية الحرب العراقية - الإيرانية. ولم يركّز فريق البحث أبدًا على ايران كموضوع لدراساته، إلا أنّ البحث الذي قام به الفريق أظهر أنّ الجنود العائدين من الحرب غالبًا ما يمارسون العنف في منازلهم بعد العودة من الحرب. وقد طالت أبحاث الفريق البوسنة والهرسك، مقدونيا، كوسوفو، صربيا، كولومبيا، كمبوديا، تيمور الشرقية، ليبيريا، غينيا، رواندا، سيراليون، الصومال والأراضي الفلسطينية. ويظهر بحث غير رسمي قام به أستاذ جامعيّ في إيران أنّ أكثر من 70 في المئة من النساء اللواتي شارك أزواجهن في الحرب مع العراق كنّ ضحية تصرّفهم العنيف. وهنا أيضًا وبسبب بريق الحرب المقدسة وميدالياته اللامعة كانت النساء تسكتن عما يعانينه من مآس في المنزل. ويؤمن علماء النفس بأنّ العنف الشديد المتزامن مع تقنيات الحرب العصرية، يؤثر سلباً في نفسية المحارب وينعكس ذلك على المنزل أولاً. وهكذا نلاحظ انتشار ظاهرة استغلال الزوج لزوجته وحتى ضربها كشكل من أشكال العنف المنزلي المتفشي بعد الحرب. ويضيف الباحثون الإيرانيون المتعمقون في الحياة الإيرانية المنزلية أنّ الإساءة الشفوية والذلّ من أكثر ظواهر العنف انتشارًا بعد الحرب، كما أظهرت الأبحاث انتشار هذا النوع من العنف بين الجنود الإيرانيين الذين شاركوا في الحرب العراقية - الإيرانية. * صحافي ايراني مقيم في اوروبا.