تنشر "الحياة" على حلقات ثلاث مقاطع من كتاب "الزلزال" الفصول الثاني والرابع والخامس الذي عالج فيه مؤلفه العميد الركن السابق في الجيش العراقي نجيب الصالحي وقائع انتفاضة آذار مارس 1991 التي اعقبت حرب الخليج الثانية. يصف الكاتب أحداث الانتفاضة من خلال مشاهداته ومشاركته الميدانية في ضوء مسؤوليته العسكرية آنذاك. فالصالحي شغل مواقع مهمة في المؤسسة العسكرية كآمر كتيبة دبابات، وآمر لواء مدرع، وآمر لواء مشاة آلي. ومدرس في كلية القيادة، وضابط ركن في رئاسة أركان الجيش، ورئيساً لأركان الفرقة المدرعة السادسة التي لعبت دوراً في حرب الخليج وأحداث الانتفاضة، وذلك قبل اعلان معارضته للنظام وانتقاله الى المنطقة الآمنة في شمال العراق في تشرين الثاني نوفمبر 1995 حين كان يشغل رئيس أركان الفرقة الآلية الأولى. وهنا الحلقة الأولى من الفصل الثاني. كانت الأجواء مهيئة لولادة حدث كبير، عندما جاءت اللحظة التي مزق فيها جندينا البطل الصمت المخيم على نفوس الشعب والجيش ورشق صورة صدام بوابل من الرصاص فجر 2 آذار مارس 1991 "في ساحة سعد" على مفرق طريق بغداد - البصرة، معلناً بداية التخلص من النظام الذي جلب عليه كل هذا الذل والاهانة. بذلنا جهداً للحصول على اسم ذلك الجندي الذي سيظل رمز انتفاضة العراقيين الأول ضد الديكتاتورية والطغيان وباءت محاولتنا بالفشل. كان هذا البطل العائد من الكويت يبحث عن وسيلة لاعادة الكرامة المهانة في حرب خاسرة، ولم يكن أمامه الا ان يطلق رصاصه على صورة الشخص الذي اعتبره المسؤول الأول عن المرارة التي تحيط به. هكذا انطلقت الشرارة الأولى للانتفاضة من مدينة البصرة ولم نكن نعلم ماذا يدور حولنا وكنت مثل غيري من الناس أتوقع حدوث شيء ما. استيقظت صباح يوم 2 آذار مارس 1991 على صوت شاب يهتف بسقوط صدام ويردد الثورة في البصرة… الثورة في البصرة وكان يهرول مسرعاً. منعني صديقي "أبو خالد" الخروج من البيت واخبرني ان الناس انتفضت في البصرة وان المظاهرات تعم المدينة وأهالي "الهارثة" و"الدير" يهتفون بسقوط صدام ويهاجمون الدوائر الأمنية والمقرات الحزبية وأضاف: "انهم قتلوا ضابطاً برتبة كبيرة في البصرة اللواء الركن حميد شافي الكناني. انتظرت وصول سيارتي العسكرية، اذ لا بد ان أصل الى المعسكر باكراً. وعندما تأخر السائق قررت استخدام سيارة صاحبي. وفي الطريق، شاهدنا أعلاماً مختلفة الألوان ترتفع فوق البيوت، والشباب يتجمعون في الطرق الرئيسية والفرعية والنساء من فوق السطوح يزغردن وينظرن باعجاب وإكبار الى ما يفعله الشباب. وحاول بعضهم ايقافنا وكانوا أقاموا حواجز على الطريق، لكننا قررنا عدم التوقف، وبعد مسافة لا تتجاوز كيلومترين، لمحنا جماعة اخرى وضعت حاجزاً على الطريق. ونظرنا الى جانبي الطريق لعلنا نجد مجالاً ونبتعد عن الطريق العام ونتخلص من الحواجز التي وضعها المدنيون لكن سيول الأمطار وبرك المياه كانت تحول دون خروجنا من الشارع المبلط. كان "أبو خالد" مطمئناً الى عدم حدوث ما يسيء لي لأنه معروف من قبل شباب المنطقة ويستطيع ان يؤثر عليهم. حوار مع النفس في الحرب مع ايران، شاركت في معارك ضارية ونجوت منها، لكن الموقف يختلف الآن، فأنا أمام شباب ثائرين على نظام جائر وان كرههم له يمتد الى كل مؤسسات الحكم خصوصاً العسكرية منها. كيف التخلص من هذا الموقف؟ فاذا قتلت أحداً سأعتبر خائناً ومعادياً للانتفاضة. واذا قُتلت فماذا سيقال عني؟ كان لا بد لنا ان نقف عند الحاجز. وراح "أبو خالد" يخبرهم بأني ابن عمه وجئت من بغداد ولنا مريض في مستشفى البصرة فرحبت بنا المجموعة التي كانت قريبة من سيارتنا. وما ان تقدمت العجلة خطوة حتى أوقفنا أحدهم وعيونه وملامحه تقدح شراً. وصرخ: قف. قف. العسكري الذي معك شكله ضابط أو حزبي كبير. أجاب "أبو خالد": أبداً. لبس البدلة العسكرية ليسهل مروره عبر حواجز الجيش. في تلك اللحظة اندفع أشخاص يصرخون "الانتفاضة وصلت العمارة، الناصرية، وعمت ضواحي البصرة"، فقطعوا حديثهم مع "أبي خالد" وراحوا جميعاً يهتفون بسقوط صدام. صحت "بأبي خالد" ان ينطلق، لأن الفوضى التي حدثت وانشغالهم بالخبر يسمحان بالمغادرة. وانطلق وهو يردد "الله اكبر… الله أكبر". نداءات وصلت المعسكر في الساعة الثامنة والنصف واستقبلني ضابط الركن وبعض الجنود وسألتهم عن الأخبار، فأخبروني: ان هناك مظاهرات مسلحة وجماعات احتلت المراكز الحكومية وان هناك ضابطاً قتل على أيدي المتظاهرين. واستفسرت عما شاهدته على الطريق من ناقلات عسكرية فأجابوني: انها أصبحت بيد المنتفضين. طلبت من الضباط شرح الموقف العسكري المتعلق بالتشكيلات وسألت عن الوحدات التي لم تلتحق بالمعسكر حتى الآن. وعلمت ان الدبابات التي في الفرقة الآن لا تزيد على عشر، فلا بد ان البقية تعطلت في الطريق. كان آمرو التشكيلات 30 و16 مع قائد الفرقة في مقر الفيلق، بينما كان آمر اللواء 25 يحاول ترتيب لوائه والتأكد من موجوداته. وفي هذا الوقت أخذنا نتابع الأخبار ونتصدى لمعرفتها بطرق عدة. كان الوضع يزداد خطورة والأحداث تتطور، فمدينة "الهارثة" وهي مدينة كبيرة، وكل ما يجاورها من القرى الكثيرة، استجابت بسرعة لنداءات الثوار. طلبت من آمر لواء المشاة الآلي/ 25 العقيد الركن محمد علي الجميلي اتخاذ الترتيبات اللازمة لحماية المعسكر وتوزيع الناقلات على شكل فصائل حول المحيط وقرب المداخل والحيلولة دون اقتراب المدنيين من سياج المعسكر الذي يبلغ محيطه الخارجي 10 كم ومسيج بالأسلاك الشائكة ويضم بقايا وحدات ادارية وخدمية، تموين ونقل، طبابة، معمل ميدان، نقاط للعتاد والوقود، مستودعات ومشاجب تحتوي على مئات البنادق، فتوزع الأشخاص وانتشرت الناقلات للحماية. شاعت أخبار في المعسكر، بأن صدام على وشك الهروب الى الجزائر وتناقلت وكالات الأنباء هذا الخبر فاتسع أمل الناس في التغيير وسقوط النظام. وسيطر الثوار على الطريق الذي يفصل مقري عن مقر الفيلق وبدأت أشعر بقلق متزايد. صحيح اننا نستطيع ان نحمي المعسكر، لكن هؤلاء لا بد ان يتنفسوا كما تنفس الآخرون وتنفسهم يعني ان ينتفضوا. وخطر ببالي احتمال قيام أحد الجنود داخل المعسكر بعمل يعرضنا للخطر، لكن الوقت كان يمضي ومثل هذا الاحتمال كان يتضاءل. وأثبتت الأحداث ان نمط التعامل الأخلاقي والأخوي الذي كان يتحلى به الضباط جعل الجنود لا يخرجون عن تلك الحدود مما أبقى العلاقة بين الجنود والضباط متوازنة وبعيدة عن الأحقاد على رغم سياسة التمييز الطائفي والمذهبي التي مارسها النظام داخل القوات المسلحة. سادت حال من القلق بين بعض الضباط عندما اقتربت مجاميع الشباب من السياج الخارجي للمعسكر وهي تهتف هادرة ضد صدام وتوجه النداءات والهتافات الى الجنود للمشاركة معها في الانتفاضة. لم يكن بأيدي هؤلاء الشباب سلاح وكانوا يرتدون الدشاديس ومعهم النساء والصبيان الذين لا يقلون عنهم حماساً واندفاعاً، بل ان النساء كن يتقدمن بعض المجموعات ويلوحن بعباءاتهن وهن يرددن الهوسات والأهازيج التي تؤجج المعنويات والاندفاع. وحين كانت هذه المشاهد تمر أمام الجنود، طفحت على وجوههم ابتسامات الرضا والفرح وبدأوا يتجاوزون الصمت الى التصريح. في تلك اللحظات الحاسمة، لبثنا نحن الضباط والجنود في صراع نفسي بين الالتزام العسكري والواجب الوطني وكنا نترقب الأحداث وننظر بألم وأسى الى بواكير الانتفاضة وهي تأخذ شكلاً لا يدل على التنظيم والادراك. الانتفاضة عراقية ما ان هدأت الأمور، حتى هجم عدد من الشباب لا يحملون سلاحاً على سياج المعسكر، فطاردهم ضابط الأمن وجنوده واحضروا أربعة منهم أمامي، وجدت نفسي في موقف لم أكن أرغب أن أكون فيه. كانت الأوامر الصادرة بخصوص الانتفاضة تنص على اعدام كل من يلقى القبض عليه مباشرة ومن دون محاكمة. وبينما كان الجنود يقودون الشباب الأربعة باتجاهي، كنت أفكر في ايجاد طريقة أتخلص بها من المسؤولية وفي الوقت ذاته أنقذ بها حياة هؤلاء. وسألتهم عن مهاجمتهم سياج المعسكر، أجابوني بشيء من الانفعال "ان هدفنا هو اسقاط صدام ونظامه وان انتفاضة عارمة تعم العراق ونحن هنا جزء منها". هل دفعكم الى هذا العمل من جاء من وراء الحدود؟ استفزهم سؤالي واستفسروا عما أقصد، فقلت منفعلاً: "أقصد ايرانيين! وقال أكبرهم: أي ايرانيين. ما يشيل الحمل غير أهله. الانتفاضة انتفاضته وعراقية. وأشاروا نحو الطريق العام "هؤلاء الناس كلهم من جماهير الهارثة وهم أهل الانتفاضة. فما هي علاقتنا بالايرانيين؟". بعد ذلك أمرت باطلاق سراحهم. كان حولي عناصر أمن وهؤلاء عيون النظام وأزلامه يبحثون عن كل صغيرة وكبيرة لتكون مادة ينقلونها الى مراجع أعلى، فكيف بمثل هذه الحال التي تعني عدم تنفيذ أوامر قيادية صدرت تواً لمعالجة ما يمس أمن "الثورة والحزب ورأس النظام" قال أحد عناصر الأمن: كيف يا سيدي؟ انهم مجرمون. دعنا نسلمهم الى شعبة أمن الفيلق. أجبته: ان هدفي هو تحذير هذه الحشود المتمردة، واننا مصممون على استخدام العنف والقوة ولا يمكن ان نضعف وبذلك نتجنب مهاجمتنا على غفلة. وفي عصر اليوم نفسه، تكرر الهجوم على المعسكر وشارك فيه هذه المرة مجموعة من العوائل الجائعة وكانوا واثقين ان النظام انهار وان لا أثر للدولة. اخرجناهم مرة اخرى من المعسكر من دون استعمال السلاح أو اطلاق رصاصة واحدة ولم يكن الوضع مستقراً في المعسكر لأن الأخطار بدأت تتصاعد وأصبح المعسكر هدفاً للجماهير المنتفضة، وكنت أشعر ان هناك تحركاً كثيفاً يجري لتنفيذ هذا الهدف وان أي حادث عفوي قد يؤدي الى كارثة، وكنت أخشى من حال الانفعال عند أي ضابط أو جندي لأن ذلك قد ينتهي بتسجيل سابقة خطيرة، لا سمح الله، ان وقعت. بعد خروجنا من المعسكر الساعة الرابعة عصراً شاهدنا تجمعات كبيرة وواسعة ولم يتعرض لنا أحد وكنا في ناقلات B.M.B.1 وعددها 40 ناقلة والمسافة حوالى 10 كم، كنا نخشى ان نكون هدفاً للقناصة أو للقاذفة R.B.J7. تعرضنا بعد قليل من المسير الى اطلاق رصاص من مسافات بعيدة، فلم يصب أحد. على الطريق العام بصرة - عمارة كان العشرات يهتفون وكانت الفوضى واضحة في الشعارات والتحركات ولم تكن هناك جماعة مسلحة موحدة. ويبدو ان الهدف كان غير موحد أيضاً ولم تكن هناك قيادة عليا. على اثر اتساع الانتفاضة وانتشار أخبارها، بدأت ركائز النظام تسقط الواحدة تلو الأخرى وأخذ كل واحد منهم يحاول ان ينجو بنفسه والتحقت مجموعة من البعثيين بالانتفاضة خوفاً من ان ينالهم عقاب على ايدي الثوار، في حين اعتقد المنتفضون ان سقوط النظام بات مسألة وقت وان فترة استمراره ستكون قصيرة. وكانت الأنباء وبعض الاذاعات تتحدث عن انهيار النظام… وعزم صدام وأزلامه الرحيل الى الجزائر اذ اعد له بيت وانه على وشك المغادرة. ولم تكن الاذاعة العراقية عاودت البث بعد، لذلك لم يكن أحد يعلم ما كان يجري على أرض الواقع. اذ تعطلت كل الخدمات، فلا ماء ولا كهرباء. وما زاد في صعوبة الأمر معاناة أهل البصرة وقراها من شحة الماء ما أرغم الناس على شرب مياه غير صالحة للشرب. لم نكن لدى وصولنا الى مقر الفيلق قادرين على التحرك شمالاً أو جنوباً ولم نتمكن من التنقل الى الضفة الثانية من النهر وكان الشعور نفسه يسود قيادة الفيلق ومن بقي من قيادة التنظيم الحزبي كان يتوقع ان يسقط النظام بسرعة. عند الساعة السابعة مساءً، وصل النقيب "مزاحم"، وهو أحد الضباط المعوقين الذين تقرر في وقت سابق ابقائهم في المعسكر الدائم لمقر الفرقة في ناحية "النشوة"، وعلمنا منه انه استطاع وبصحبة الجنود الهروب والتسلل من خلال بساتين النخيل التي تفصل المعسكر عن شط العرب وذلك بعد ان تمكن من اقناع صياد سمك بتأمين عبورهم. وذكر النقيب "مزاحم" "ان أعداداً كبيرة من المتظاهرين هاجمت المعسكرات وهي تهتف ضد الدولة وتطالب بسقوط النظام". تعرضت معسكرات الفرقة الحادية عشرة والخامسة الآلية وقوات الحدود لنفس ما تعرض له معسكر فرقتنا وتشكيلاتها من اقتحامات بقصد الحصول على الأسلحة والأعتدة والمواد التموينية. وآخر ما قاله "مزاحم": ترك غالبية الجنود المعسكر وان المتظاهرين يحاصرون المقرات الآن، غير انه لم تقع اشتباكات مسلحة بين المهاجمين وجنود المعسكر. في الساعة الثامنة مساء، كنت برفقة قائد الفرقة لزيارة مقر الفيلق. وبعد وصولنا الى هناك اتجهت نحو غرفة العمليات بينما اتجه قائد الفرقة نحو الجناح الخاص لقائد الفيلق الفريق صلاح عبود وبعد عشر دقائق عاد وأخبرني بأن قائد الفيلق والفريق سلطان هاشم، معاون رئيس الأركان للعمليات، سيذهبان غداً الى صفوان ليمثلا العراق في المفاوضات التي ستجري مع دول التحالف، والمطلوب تأمين سرية مشاة آلية لحمايتهم. قام القائد بتبليغ آمر لواء المشاة الآلي/ 25 العقيد الركن محمد علي الجميلي لتهيئة السرية على ان تكون جاهزة في صباح 3 آذار. لم تكن مهمة الجميلي سهلة، يحتاج الأمر الى 11 عجلة قتال B.M.B1 في الوقت الذي لا تسمح الكفاءة الفنية وكميات الوقود بذلك. فاكتفى بإرسال خمس عجلات و20 جندياً بأمرة ضابطين. الجياع من جانب آخر، استمر الثوار في تصعيد عملياتهم وهاجموا مستودع تموين النشوة في ناحية "الدير" واستولوا على كميات كبيرة من المواد الغذائية كالطحين والرز والشاي والبقوليات الجافة. وكانت مخصصة لتموين قطعات الفيلق الثالث. وصدرت الأوامر للفرقة السادسة بالحركة الفورية لمنع "المخربين" من السيطرة على محتويات المدخر وتفتيش الناحية وفرض السيطرة الأمنية عليها. في الساعة التاسعة صباح 3 آذار تحركت الفرقة وهي تضم 20 ناقلة B.M.B1 وبضع دبابات وكنت ضمن مجموعة القيادة إلى جانب القائد وآمري التشكيلات وفصيل الحماية. في الساعة الحادية عشرة وصلنا مركز الناحية وكان الوضع هادئاً لا أثر فيه لأعمال تخريبية كما ابلغنا بذلك عند استلام المهمة، لكن المدينة كانت في حال اضراب. بعد ان تعطلت الأسواق والخدمات. بعدها توجهنا إلى المستودع وكان آمره ومجموعة حماية صغيرة في استقبالنا، بعد أن اختفوا وتركوا الأهالي المدنيين يستولون على المحتويات وظلوا في مخابئهم ولم يخرجوا إلا بعد رؤيتهم طلائع القوة المدرعة تتقدم نحوهم. كانت جماهير الانتفاضة من الفئات المسحوقة وتعاني من شظف العيش وليس غريباً أن تكون نظرتهم إلى النظام بكليته نظرة كراهية، إذ استأثر أزلامه بكل لوازم الرفاهية والعيش الرغيد. ولما قام صدام باحتلال الكويت اشتعلت الأسعار بشكل جنوني وبدأ العمل بنظام البطاقة التموينية الذي لا يكاد يكفي العائلة لمدة عشرة أيام، في حين استمر أعوان النظام بالتمتع بالثروات وانفاق الأموال على هواهم. بعد أن أنهينا تفقد المستودع خرجنا إلى الشارع العام قرب مديرية الناحية ووزعت القواطع على التشكيلات ووجهت إليهم أوامر بتفتيش المنطقة من دون التعرض إلى البيوت. كان دخول الفرقة المدرعة يعني استرداد النظام لمواقع عائدة للثوار، لكن ذلك لم يعن بسط السيطرة عليها كاملة. فالمدينة لم تشهد أعمال عنف أو اطلاق نار وطريقة تنفيذ "الواجب". حاول الجميع أن يشعروا الناس بالعطف والرحمة وان الأوامر الصادرة من بغداد لم يجر تنفيذها كما أراد النظام. كانت تجمعنا مشاعر خفية بالحفاظ على الضبط العسكري للتشكيلات المنفذة من دون القيام بارتكاب أعمال عنف ضد أهل "مدينة الدير". وتركز شعورنا المشترك على نقطة تتلخص بأننا لا يمكن أن نشارك في قتل شعبنا. كنا نتداول هذه العبارات مع بعضنا حين نلتقي وكان فيها ما يكفي من المعاني بعدم تنفيذ الأوامر الصادرة من بغداد القاضية بقمع الانتفاضة بكل السبل والوسائل. وكانت لغة العيون وسيلتنا في التعبير عن المشاعر الكامنة والأحاسيس المشتركة التي كانت تجمعنا في تلك اللحظات الصعبة. ولمست عند انتشار الجنود في المدينة والقرى المطلوب تدميرها، ان منتسبي الفرقة يتعاطفون مع أهالي المدينة وقراها وسرعان ما أدرك الأهالي أن الفرقة التي وصلت إلى المدينة لا تنوي ايذاء الناس. وفي الحقيقة، لم يحدث في المدينة ما يدعو إلى استخدام القوة، وكان كل ما حدث هو حرق أو تحطيم تماثيل وجداريات صدام ونهب المستودع المدخر، علماً أن المدينة كانت تعيش في حال حظر التجوال واضراب غير معلنين. عادت التشكيلات بعد أن اتمت واجبها في فرض الأمن والسيطرة على "الدير"، ليس باطلاق النار أو هدم البيوت أو إعدام الناس عشوائياً، بل من خلال استعراض للقوة وتظاهر محدود بالتشدد. في الثانية بعد الظهر، ذهبت إلى مقر الفيلق الى جناح القائد وكان اللواء الركن صباح نوري العجيلي رديفاً لقائد الفيلق الذي اختير عضواً في مفاوضات صفوان وجلس إلى جانبه العميد الركن عبدالمنعم سليمان وكيل رئيس أركان الفيلق واللواء فاضل الشيخلي مدير صنف المخابرة. كانت غرفة القائد مظلمة عند دخولي والقائد الرديف يتحدث بهدوئه المعروف مع ضيفه ورئيس أركانه. أديت التحية العسكرية وأبلغته بتنفيذ "الواجب والسيطرة" على "الدير" وتفقدنا المستودع المدخر، وأردفت قائلاً: الوضع هادئ هناك ولا يوجد ما يؤثر على الأمن. أجابني: لكنكم لم تنفذوا مثلما طلبنا منكم. وشعرت بأن القائد الرديف سيقودني إلى احراج، فتجاهلت كلماته، وخرجت من الغرفة. جثث تطفو في الممر المؤدي إلى جناح شعبة أمن الفيلق شاهدت عشرات الجنود يجسلون القرفصاء وأيديهم فوق رؤوسهم وتحيط بهم عناصر مسلحة من أمن الفيلق بأمرة ضباط يقفون على مقربة منهم، وكأن هؤلاء الجنود مجرمو حرب أو لصوص أو خونة وليس من طريقة يعالجون بها إلا هذا الازدراء. وإذا كانت عناصر الأمن المسلحة وضباط الأمن يستأسدون على أفراد عزل ضعاف أمامهم، فهل يتصورون ان في ذلك اعلاء لشأن الوطن واكراماً لمقاتلين بواسل عادوا من ساحة موت محقق، أم أنهم يقومون بعملية بهرجة لصورة نظام سقط إلى الحضيض ويحاول انتشال نفسه بإخماد الأنفاس. آنذاك استوقفني نداء استغاثة اطلقه ثلاثة من الجنود "سيدي... سيدي" وتابع أحدهم شارحاً لي حالهم: "سيدي... الله يخليك. احنه من اللواء المدرع 16، انسحبنا من الكويت مع اللواء ويتهمونه غوغاء". ما قاله هذا الجندي هو تقرير عن حالات لا تستحق هذا الغلو في الحقد والاذلال، وهو يعلم ان ندائه صرخة ما قبل الموت وأنها مثل صرخة في واد ونفخة في رماد. كان هؤلاء الجنود يستنجدون بي، إذ كنت آمر لوائهم السابق ورئيس أركان فرقتهم الحالي، فهم يعرفونني جيداً ووجوههم مألوفة وترك الخوف والرعب على ملامحهم آثاراً لا تنسى وكأنهم في وادي الموت وها هم يمدون لي أياديهم في انتشالهم. نظرت إلى جماعة الأمن بحثاً عن آمرهم الرائد. وقلت له: هؤلاء الجنود الثلاثة من أبطال الفرقة المدرعة السادسة وقد انسحبوا مع تشكيلاتهم من الكويت، فما هي علاقتهم بالغوغاء؟ يجب اطلاق سراحهم. فأجابني: سيدي... تأمر أمر... سنجري معهم تحقيقاً بسيطاً للتأكد من سلامة موقفهم ونطلق سراحهم بعد عرض الموضوع على السيد قائد الفيلق الذي سيعود بعد ساعات. سيدي تدلل، اطمئن عليهم. سرت بين الجنود موجة ارتياح وهم يسمعون كلمات ضابط الأمن، فكبر في أعماقهم أمل في النجاة وتبادلوا النظرات وأشرقت على وجوههم ابتسامات مشوبة بالحذر، أما أنا كنت أرى في عبارات الرائد وكلماته التي تحمل التردد شيئاً لا يتناسب مع واقع سيرته وسلوكه، لأنه كان عندما يجيبني كأنه يقوم بتمثيل دور اسند إليه. وفي الساعة العاشرة من تلك الليلة سمعنا طلقات بنادق كلاشنكوف متقطعة تارة ومتواصلة أخرى مصدرها جناح الأمن، استمرت عشر دقائق وظننت ذلك احتفالاً بعودة قائد الفيلق من المفاوضات. وفي الصباح كانت الوساوس تسري في أوصالي عن حياة الجنود الثلاثة. ارسلت ضابط التوجيه السياسي الرائد فرحان السلماني للاستفسار عن أوضاعهم، وحين عاد لمحت على وجهه غمامة حزن، قال: اعدموا... ليلة البارحة... سيدي... وألقيت جثثهم في شط العرب.