فجأة قفزت افريقيا من المرتبة الاخيرة على أجندة الرئيس بوش الى صدارة الاهتمامات، فهي كانت مسألة ثانوية في برنامجه الانتخابي وكذلك في خطط الادارة الاميركية منذ غادرها بيل كلينتون. وليست مكافحة الايدز او محاصرة الفقر في القارة هما المحرك الحقيقي لهذا التعديل في الاولويات، فملف الارهاب يطغى على جولة بوش اضافة الى ترتيب انتقال الحكم في كل من ليبيريا وزيمبابوي، التي باتت ايام رئيسها موغابي معدودة على ما يبدو بعد محادثات بوش مع قيادة افريقيا الجنوبية. ولم يكن من باب الصدفة برمجة الجولة عشية القمة التي يعقدها الاتحاد الافريقي في موزامبيق فهي رسالة واضحة تكرر الموقف الاميركي المستخف بالمنظمات الاقليمية والداعي الى شراكات ثنائية مع الولاياتالمتحدة مبنية على "مصالح الطرفين" وهذا هو مضمون الرسالة التي ابلغها بوش الى الرؤساء الافارقة الثمانية الذين اجتمع معهم في داكار. ومن هذه الزاوية يمكن القول ان الجولة التي درست محطاتها ومضامينها بعناية فائقة في واشنطن، تشكل رسالة موجهة الى فرنسا مفادها ان الادارة الحالية ماضية في النهج الذي بدأته ادارة كلينتون لمحاصرة النفوذ الفرنسي التقليدي في القارة بما في ذلك مواطئ ارتكازها التاريخية والرمزية وفي مقدمها السنغال. كما ان بوش يريد اغاظة باريس في اطار تصفية حسابات حرب الخليج الثالثة معها، لكنه يستخلص الفاتورة على دفعات من باب ان "الثأر طبق يؤكل بارداً" مثلما يقول المثل الفرنسي. إلا أن مكافحة الارهاب تبقى الهاجس الرئيسي للجولة الافريقية، ففي تقديرات الخبراء الاميركيين ان هناك جسرين لانتشار الاصولية المتشددة في القارة السمراء: الاول يمر عبر السنغال نحو غرب افريقيا، فيما ينطلق الثاني وهو الأقوى من القرن الافريقي وصولاً الى شرق القارة. وعلى هذا الاساس أولى بوش أهمية خاصة لمحطتي داكار وكامبالا، فأوغندا تقع عند خاصرة القرن الافريقي ويرشحها الاميركيون لأدوار اقليمية متزايدة تجاه السودان وكينيا والصومال في افق الحرب التي تشنها واشنطن للقضاء على الارهاب. وعدا تشديد الرقابة على تسلل عناصر "القاعدة" الى كل من الصومال وكينيا، تركز الادارة الاميركية اهتمامها على المرحلة الانتقالية التي يمر بها السودان بغية فرض صيغة تمنح المتمردين الجنوبيين ثلث المقاعد في الحكومة المركزية وتحافظ على وحدة جيشهم بالكامل مع وضعه شكلياً تحت راية الجيش الاتحادي، والارجح ان الموازين الراهنة ستتيح لواشنطن فرض الحل الأقرب للسيناريو الذي أعده مخططوها على نحو يمكنها من الامساك بمفاصل اللعبة الاقليمية. كذلك الشأن بالنسبة الى ترتيب مغادرة تشارلز تايلور الحكم وقبوله المنفى "الاختياري" في نيجيريا، تمهيداً لتنحي زميله المتعنت موغابي ومغادرته الى منفاه الجاهز في افريقيا الجنوبية. فالدور الاميركي الواضح في هذين التغييرين يكرس احكام القبضة على المصائر السياسية في القارة ويظهر لجميع زعمائها، بمن فيهم من يلتفتون احياناً الى ليبيا، ان الحل والعقد بيد واشنطن لا بيد سواها. اكثر من ذلك افسح "تنازل" تايلور عن الحكم المجال امام الولاياتالمتحدة لارسال قوات عسكرية للمرة الاولى الى بلد افريقي بعد المغامرة المرة في الصومال، والارجح ان هذا الانعطاف سيغريها بالمزيد من التدخل ليس لإضعاف مواقع فرنسا فحسب وانما لبسط سيطرتها المباشرة على الثروات الطبيعية في القارة. إلا أن اميركا ستضطر للاعتماد على الحديد والنار لفرض هيبتها اذا ما سايرت الشهية المفتوحة لليمين الحربي في واشنطن وصدمت مشاعر الشعوب. وعندها لن تنفع حملات الترويج لمكافحة الايدز او محاربة الفقر طالما ظل الافارقة يبصرون ثرواتهم تنهب امام عيونهم، ففي ذلك الوقت يغدو المثال الصومالي حافزاً لهم على التفكير.