قبل فيلمه "أوروبا" الذي فاز بجائزة لجنة التحكيم مناصفة مع "خارج الحياة" للبناني الراحل مارون بغدادي في دورة عام 1991 لمهرجان "كان"، كان لارس فون تراير حقق عدداً من الأعمال السينمائية والتلفزيونية اللافتة... لكن تلك الأفلام لم تؤمّن له شهرة عالمية، ومن أبرزها "عنصر الجريمة" الذي كان أول إطلالة له على "كان" في العام 1984 و"وباء". من بعد "أوروبا" صار فون تراير اسماً حاضراً، وبقوة، في خريطة السينما الأوروبية وراحت غرابة أطواره قدرته الهائلة على الاستفزاز، تطيّره من السفر بالطائرة، عدم مبالاته بالنقد تصبح بعض خبز الصحافة السينمائية. وهو بين "أوروبا" وفيلمه السينمائي التالي "تكسير الأمواج" 1996 حقق، أو شارك في تحقيق، عدد من الأعمال التلفزيونية، مثل "المملكة" الذي عرض سينمائياً أيضاً، ما جعله أكثر تمكناً من أساليبه الفنية. لكنه مع "تكسير الأمواج" بلغ الأوج في شهرته العالمية، إذ فاز هذا الفيلم بالجائزة الكبرى في دورة 1996 لمهرجان "كان"، وحقق اقبالاً وإجماعاً كبيرين مدخلاً لارس فون تراير في خانة السينمائيين الأخلاقيين الميتافزيقيين الى جانب ملهمه الأكبر دراير وبرغمان، من ناحية الموضوع وفي خانة كبار المجددين في الأشكال السينمائية الى جانب بيدرو ألمودافار وبيتر غريناواي وجيم جارموش، من ناحية الأسلوب... وهو حقق "تكسير الأمواج" بعد عام من اصداره، وعدداً من زملائه السينمائيين الدانمركيين ومن بينهم توماس فرتنبرغ صاحب "الحفلة"، بيان "دوغما 95" الشهير الذي راح يطالب بسينما متقشفة واقعية، شكلاً ومضموناً لا تلجأ الى أي افتعالات ضوئية أو في الديكور، لكن اللافت هو ان فون تراير نفسه لم يتبع أسلوب "دوغما" إلا في فيلمه "الحمقى" 1998 الذي عرض بدوره في كان، ثم جزئياً في بعض مشاهد "راقص في الظلام" وأجوائه، فيلمه قبل الأخير. و"راقص في الظلام" هذا، فاز بالسعفة الذهبية في دورة 2000 لمهرجان "كان"، كما فازت بطلته المغنية الايسلندية بيوركا بجائزة أفضل ممثلة. واعتبر "راقص في الظلام" تحفة سينمائية على الصعيد العالمي، حتى وإن كان نقاد أميركيون هاجموه يومها لأنه، في زعمهم، روى أحداثاً تدور في الولاياتالمتحدة وصوّر شخصيات أميركية من دون أن يزور هذا البلد أو يعرف عنه شيئاً. ورد لارس فون تراير على تلك الأقوال بسخرية أول الأمر، ثم لاحقاً بتحقيقه فيلمه الجديد "دوغفيل" الذي تدور أحداثه في الولاياتالمتحدة، في سنوات الثلاثين، لكنه صوِّر بأكمله في السويد... وهذا ما جعل فون تراير يتعرض، الى الهجوم الأميركي من جديد خلال الدورة الأخيرة ل"كان"، ولا سيما من مجلة "فارايتي" الناطقة باسم المؤسسة السينمائية الأميركية، التي يتزعمها جاك فالنتي أحد صقور هوليوود. فالمجلة شنت على لارس فون تراير وفيلمه هجوماً كاسحاً، باسم القيم الأميركية، ما جعل أهل "كان" الفرنسيين يخشون أن يؤدي منح جوائز "كان"، أو بعضها ل"دوغفيل" الى رفع درجة حدة الغضب والمقاطعة الأميركيين للمهرجان في العام المقبل. وعلى رغم هجوم "فارايتي" التي بدا مقالها وكأنه لم يفهم شيئاً من الفيلم، مضموناً وأسلوباً، فإن عدداً كبيراً من النقاد الأميركيين أشاد بالفيلم، كما فعل معظم النقاد في العالم، وظلت المجلات اليومية المتخصصة التي تصدر في "كان" مثل "سكرين" و"الفيلم الفرنسي" طوال الأيام السابقة لإعلان النتائج، تعتبر "دوغفيل" ونيكول كيدمان المرشحين الرئيسين للفوز. مهما يكن، فإن لارس فون تراير، وفي تعليقه على جملة المواقف الأميركية اكتفى بالإحالة الى ما كان ذكره في حوار نشر في ملف الفيلم، وقال فيه: "أنا لا أعتقد أن الأميركيين أسوأ من غيرهم، لكنني في الوقت نفسه لا أراهم أقل سوءاً من الدول المارقة التي لا يكف السيد بوش عن الحديث عنها. وأعتقد أيضاً أن الناس هم أنفسهم في كل مكان. فما الذي يمكنني أن أقوله عن أميركا؟ فقط ان السلطة تفسد. وهذا واقع لا مراء فيه. ومرة أخرى أقول ان الأميركيين هم من القوة بحيث يمكنني أن أغيظهم... وأن اغيظهم فقط، لأنني لا أستطيع ان ألحق شراً بأميركا... أليس كذلك؟".