على رغم شموليتها المفترضة منذ مطلع تسعينات القرن الماضي، فإن مسيرة التسوية الفلسطينية لم تتعرض مباشرة بقليل أو كثير لمستقبل فلسطينيي 1948، وبذلك تجنب المنغمسون في التسوية الاقتراب من كتلة تشكل سُبع الشعب الفلسطيني بالمعاني التاريخية والوطنية والقومية، وتمثل في الوقت ذاته زهاء خُمس "الشعب الإسرائيلي" من حيث الجنسية والمواطنة. هذا التجاوز لمجموعة كبيرة نسبياً 3،1 مليون نسمة الآن، تقع على خطوط التماس الساخنة بين المشروعين العربي الفلسطيني والصهيوني الإسرائيلي، بدا لافتاً، واعتبره بعض العرب والفلسطينيين مستفزاً. وذهب معارضو صيغة أوسلو وتوابعها إلى أن إقصاء فلسطينيي 1948 عن قضايا "الحل النهائي" نقيصة كبرى، تدين الشريك الفلسطيني بشبهة التخلي عن قسم من شعبه، وتجرح بقوة صدقية الزعم بأن القضية الفلسطينية مقبلة على مثل هذا الحل. وأهم من ذلك، ما قد يترتب على فكرة الإقصاء ذاتها كسابقة تحتذى عند معالجة مصائر شرائح أخرى من الشعب الفلسطيني. ولأن منهجية الاستبعاد أو "الاستعماء" هذه بدت مخالفة لطبائع الأمور، فضلاً عن مناقضتها لمفهوم التسوية الشاملة، كان من المتوقع أن تأتي المرحلة التي تفرض فيها قضية فلسطينيي 1948 ذاتها وبحيثية لا يمكن معها الاستمرار في تخبئتها تحت طاولات التفاوض! وظهرت صحة هذا التوقع جزئياً حين اضطر المفاوضان الفلسطيني والإسرائيلي إلى الاستطراد للقضية في سياق التداول حول كيفية تطبيق ما سمي بمبدأ "تبادلية الأراضي" بين إسرائيل وفلسطين المزمعة، والذي طرح للتفكير أثناء جولات مؤتمر كامب ديفيد، على سبيل التوفيق بين التمسك الفلسطيني بانسحاب إسرائيل إلى حدود 1967 والرفض الإسرائيلي لإخلاء المساحة التي اقتطعها الاستيطان اليهودي من تلك الحدود، وتأكد في ما بعد أن إحدى المناطق التي رشِّحت للانتقال إلى السيادة الدولة؟! الفلسطينية طبقاً لهذا المنطق تتعلق بمدينة "أم الفحم" وبعض جوارها، وهي ثاني أكبر المدن التي تقطنها غالبية من فلسطينيي 1948 داخل إسرائيل بعد مدينة الناصرة، وكانت المنطقة الثانية هي "حالوتسا" في جوار قطاع غزة. ويبدو أن الوسيط الأميركي استحسن هذا الخيار، إذ كرر الرئيس بيل كلينتون الإشارة إليه في صلب مبادرته للتسوية التي اقترحها في كانون الأول ديسمبر 2000، قبل مغادرته البيت الأبيض بشهر واحد، والسبب في ذلك أن المفاوض الفلسطيني أظهر موافقته الضمنية على المبادلة، حين راح يتحدث عن التساوي في المساحة والقيمة بالنسبة إلى المناطق المعروضة من الجانب الإسرائيلي. وقوبل هذا الموقف التساومي بامتعاض شديد من جانب فلسطينيي 1948، لا سيما أهالي أم الفحم الذين أعلنوا رفضهم له شكلاً ومضموناً، وكان هذا الاستنكار منتظراً ومفهوماً في ضوء الانتقائية الواضحة في تعامل مفاوضي السلطة مع مصيرهم. إذ إن الاستطراد إلى إلحاق أم الفحم بالكيان الفلسطيني لم ينشأ عن تحول في هدف المفاوضين في اتجاه التعاطي مع مصيرهم على نحو جذري وجدي، وإنما نجم عن استخدام جزء منهم لتسهيل معالجة قضية مستعصية داخل صيغة أوسلو. ولكن لماذا أم الفحم؟ قيل في تفسير الأمر إن هذه المدينة تجاور نطاق الضفة الفلسطينية من الجهة الشمالية، وأن أرضها خصبة بما فيه الكفاية لإرضاء مفهوم التساوي في قيمة الأراضي المتبادلة، وأن انتقالها لفلسطين لن تصحبه مشكلة تحول سكاني يهودي إلى سيادة الفلسطينيين، ما لن يقبله اليهود في جهات أخرى، وقد يكون هذا كله صحيحاً، لكن ما لم يشر إليه في هذا المضمار أن منطقة أم الفحم هي أحد أهم معاقل ما يعرف بالجناح الشمالي للحركة الإسلامية التي يتزعمها الشيخ رائد صلاح وأنها تضم ما يقرب من 200 ألف من فلسطينيي 1948، وأنه بتحويلها إلى فلسطين المستقبل تضمن إسرائيل تحقيق هدفين: الأول، التخلص إلى حد كبير من عبء حركة دينية مُسيسة هي الأكثر تشدداً في رفض الدولة اليهودية والدعوة إلى مقاطعة مؤسساتها السياسية والدفاع عن المسجد الأقصى وإسناد "فلسطينيي 1967" في نضالهم ضد الاحتلال، والثاني، المساهمة في تخفيف وطأة الهاجس الديموغرافي لفلسطينيي 1948، بتحقيق "ترانسفير" سلمي ومقبول فلسطينياً وعربياً ودولياً ل200 ألف منهم إلى خارج الخط الأخضر. مفهوم تبادل الأراضي بهذا المضمون كان صفقة مربحة للجانب الإسرائيلي بها يكسب أرض المستوطنات التي انتقيت بعناية وقوعها على مصادر المياه الجوفية، تربة خصبة، مواقع إشراف عسكري ممتازة، تقطيع أوصال الكيان الفلسطيني، ابتلاع القدس... الخ، ويزيح عن كاهله كتلة سكانية "مشاغبة" من فلسطينيي الداخل، نظير التخلي عن قطعة أرض محدودة، سبق له أن استولى عليها عنوة في حرب 1948/1949. وغالب الظن أن العرض الخاص بمنطقة حالوتسا انطوى على إغراء للفلسطينيين بقبول منطقة "أم الفحم"، باعتبار أن هذه المنطقة جرداء لا زرع فيها ولا ماء. مناسبة هذا الاستذكار، ما عرف عن اتصالات أجراها مسؤولون في السلطة مع قادة أحزاب من فلسطينيي 1948، في نيسان أبريل الماضي، عن إمكان انضمام مواطني منطقتي أم الفحم ووادي عارة إلى السيادة الفلسطينية ضمن عملية تبادل أراضٍ محتلة بين السلطة وإسرائيل. وأكد محمد كناعنة الأمين العام ل"حركة أبناء البلد" الناشطة داخل أراضي 1948، الذي شارك في هذه المحادثات، رفض هذه الصفقة مجدداً، وقبل مرور شهر واحد على هذه الواقعة، التي ظلت طي التكتم، شنت حكومة آرييل شارون حملة اعتقالات غير مسبوقة ضد الحركة الإسلامية وزعيمها في أم الفحم. وعلّلت هذه الحملة بأن الشيخ صلاح وحركته "يمولون المنظمات الإرهابية وعائلات الانتحاريين"، ويتجلى تهافت الاتهام من تاريخ الحركة في العمل الخيري. وستتكشف الدوافع الإسرائيلية الحقيقية لهذا الهجوم المباغت، وسيتضح لاحقاً ما إن كانت حكومة شارون انتهزت البيئة الإقليمية والدولية المؤاتية لإدراج حملتها والتغطية عليها تحت زعم "محاربة الإرهاب والتيارات الإسلامية المتطرفة"، الذي يحظى بتواطؤ أميركي، لكن تزامن الحملة مع المداولات الخاصة بمستقبل أم الفحم بين السلطة وناشطي فلسطينيي 1948، قضية تستدعي التأمل، ومن باب الاجتهاد أن يثار السؤال عما إذا كانت الحكومة الإسرائيلية تضطلع بتهيئة مسرح فلسطينيي 1948، قطاع أم الفحم بالذات، للتجاوب مع هذا المفهوم بإزاحة ما تحسب أنه عقبة كؤود ضده؟ ومن توالي الوقائع يراودنا سؤال آخر، يتعلق بالصلة بين الاستنفار الإسرائيلي ضد هذه الحركة وبين استعدادات القوى المهووسة بأسطورة جبل الهيكل لاقتحام الأقصى ورحابه تحت شعار الزيارة والتبرك. والشاهد أن فلسطينيي 1948 مقبلون على مرحلة ملتهبة تستدعي منهم وممن يعنيهم الأمر يقظة فائضة، وأنه لا صحة بالمطلق لمقولة إنهم، حاضراً ومستقبلاً ومصيراً، بمفازة مما يتفاعل في محيطهم من أحداث ويرسم من خرائط، وإذا كانت نخبة الحكم والسياسة في إسرائيل فشلت في عزل تياراتهم القومية عبر المسافات القانونية في غمرة انتخابات الكنيست، فإن النخبة ذاتها تعيد المحاولة مع تياراتهم الإسلامية، ولكن بالقوة هذه المرة. * كاتب فلسطيني.