كان العراق قبل الحرب العالمية الاولى مؤلفاً من ثلاث ولايات عثمانية يحكمها ولاة تعينهم الدولة العثمانية، فلما انتهت تلك الحرب بهزيمة المانيا، ومعها الدولة العثمانية، اصبح العراق كياناً سياسياً وادارياً واحداً، وتوالت عليه منذ ذلك الوقت عهود مختلفة بدأت بعهد الاحتلال البريطاني والحكم البريطاني المباشر. ولما وجدت بريطانيا ان الشعب العراقي يمقت الحكم الاجنبي، وانه لا يمكنها الاستمرار في حكم البلاد، اقيمت حكومة ألفها السير برسي كوكس برئاسة السيد عبدالرحمن النقيب، نقيب اشراف بغداد. ثم جاء العهد الملكي الهاشمي وتوج فيصل الاول ملكاً على العراق الذي وضعته "عصبة الأمم" تحت الانتداب البريطاني. وفي سنة 1930 عقدت المعاهدة العراقية - البريطانية التي اعترفت فيها بريطانيا باستقلال العراق، وبذلك انتهى ايضاً "عهد الانتداب" الذي كان بغيضاً الى نفوس الشعب العراقي. وأخيراً قبل العراق لعضوية "عصبة الأمم" في سنة 1932 بصفته دولة مستقلة، فكان اول دولة عربية تقبل في هذه المنظمة الدولية التي كان "الاستقلال التام" شرطاً اساسياً لعضويتها. وقد تمكن الملك فيصل الاول، بما اوتي من حكمة وبعد نظر، من ان يجعل من ثلاث ولايات عثمانية متخلفة ومهملة نسبياً، دولة متماسكة، ومن القوميات الثلاث الرئىسة التي يتألف منها الشعب العراقي، اخواناً متآلفين مندمجين سياسياً واجتماعياً، ومتآخين الى حد كبير، على رغم بعض الاضطرابات والمشكلات العابرة التي لا بد من حدوثها في كل زمان ومكان، حتى وصل العراقيون، شعباً وحكومة، الى مرحلة اصبحوا فيها يقاومون وينبذون اي تفرقة بين المواطنين على اساس طائفي او عنصري. وكان من المستهجن في العهد الملكي ان يقال علناً: هذا شيعي او ذاك سنّي، وكان الناس يخجلون من مثل هذه التفرقة، حتى نشأ جيل جديد على هذه المبادئ التي كانت تزداد رسوخاً في اذهانهم مع الايام. ثم ادت المصاهرة بين شتى الطوائف والقوميات الى مزيد من التقارب بينها، وعملت على تضاؤل الفرقة في صفوفها. وبدأ العراق مسيرته نحو الرقي، فأصبح له جيش عصري جيد التنظيم، حديث التسليح، وفتحت المدارس والكليات، وأرسل الطلاب المتفوقون في بعثات علمية الى شتى جامعات العالم وعادوا مزودين أحدث المعارف وأرقى الشهادات، وازدهرت الحياة الاقتصادية بازدياد عائدات النفط، وارتفع مستوى معيشة الشعب، ودشنت مشاريع التنمية الضخمة، وكان ينتظر العراق مستقبل زاهر. وقد اطلعت في "الحياة" الغراء الصادرة بتاريخ 3 حزيران يونيو 2003 على مقالة بعنوان "شعار عودة الملكية الى العراق وتأثيره في العلاقات المستقبلية مع الاردن" بقلم السيد حسين الهنداوي. ومع احترامنا لكاتب المقالة، فإن ما جاء فيها يدل على انه لم يكن ملماً الماماً كافياً بتاريخ العراق الحديث وبما مر به العراق بعد القضاء على النظام الملكي فيه، وما شهده من انشقاقات وأحداث عادت به الى الوراء اجيالاً وعرقلت مسيرته، ودمرت كيانه، واضطهدت شعبه. كانت فاتحة تلك السلسلة المؤسفة من الاحداث "مجزرة قصر الرحاب" التي كانت عملاً وحشياً مخجلاً اساء الى سمعة العراق والعراقيين اساءة بالغة وترك اعمق مشاعر الاستنكار والاشمئزاز في جميع الاوساط داخل العراق وخارجه. وقد اطلق منفذو الانقلاب على الحكم الملكي في العراق اسم "الثورة"، والثورة من عملهم براء. فالثورة تصدر عن وجدان الشعب وتكون انتفاضاً على وضع ظالم او حاكم جائر او استعمار مقيت. اما ما حدث في العراق فكان عبارة عن مؤامرة دبرها عدد من ضباط الجيش في الخفاء، ونفذوها وأبناء الشعب نائمون في بيوتهم، لا علم لهم بها ولا رأي، ولا كانوا يتوقعونها، بل فوجئوا بها في فجر ذات يوم حين استمعوا الى "البيان الاول" يذاع من راديو بغداد. وما هكذا تكون الثورات. صحيح ان غالبية الشعب رحبت بما سمي "ثورة" في البداية - وهو انقلاب عسكري - ولكن "تأييد" الشعب للعملية بعد تنفيذها ونجاحها شيء، وقيام الشعب بها من تلقاء نفسه شيء آخر. إضافة الى ان الشعب اوحي اليه، او توقع، ان تكون حياته بعد "الانقلاب" افضل من السابق، ولم يدر انه سيؤدي الى تدهور احواله - بدلاً من تحسنها - حتى تصل الى المصير الذي وصلت اليه. لقد حدث الانقلاب العراقي في 14 تموز يوليو 1958 بنتيجة التحريضات المستمرة والحملات التي ما فتئت بعض الاحزاب والفئات المعارضة تشنها باسم "الديموقراطية" وبتأثير بعض الدعايات والاذاعات الخارجية الصادرة عن شعور بالحسد لما كان العراق ينعم به من رخاء اقتصادي ومن ارتفاع مستواه الاجتماعي والثقافي وما كان يحققه من خطوات سريعة في مجال التنمية. وكذلك تأثر منفذو الانقلاب بما حدث في مصر في 23 تموز وسمي "ثورة"، ونفذوا عمليتهم ضد النظام الملكي تقليداً له. بل اطلقوا على انفسهم اسم "الضباط الاحرار" اسوة بزملائهم في مصر وما فيش حد أحسن من حد. في حين ان الملكية في العراق كانت تختلف عن الملكية في مصر، ولم يعرف عن الملك فيصل الثاني، ولا عن الأمير عبدالاله ما عرف عن الملك فاروق من فساد اخلاقي وسياسي، بل كان الرجلان ملتزمين بأقصى قدر من حسن التصرف والحرص على سمعتهما وسمعة اسرتيهما. وكان الملك فيصل رئيساً مثالياً للدولة الدستورية، يسود ولا يحكم، وكان على الدوام مظلة تجمع كل الميول والاتجاهات. وكان هدف "الانقلاب" المعلن تغيير نظام الحكم الذي لم يكن منزهاً عن العيوب بطبيعة الحال، ولكنه كان افضل من اي نظام عرفه العراق منذ ان اصبح دولة مستقلة. وكان الاسلوب الذي نفذ به الانقلاب، والوحشية التي رافقته منذ يومه الاول، مختلفاً كل الاختلاف عن قدوته "ثورة" مصر البيضاء التي اخرجت الملك فاروق من البلاد بكل احترام وبطريقة حضارية وانسانية. وشهد العراق بعد ذلك نظاماً جمهورياً بلا رئىس للجمهورية، وديموقراطياً بالاسم وديكتاتورياً عسكرياً في الواقع. ومن الجدير ذكره، في هذه المناسبة، ان رجال الاحزاب الوطنية او الديموقراطية المعارضة، الذين كانوا يحاربون النظام الملكي، ويبثون الافكار المعارضة باسم "الديموقراطية"، ويطالبون بمجالس نيابية منتخبة انتخاباً حراً، اندفعوا جميعاً في تأييد نظام ديكتاتوري عسكري ليس فيه من الديموقراطية حتى مظاهرها الشكلية التي كانت موجودة في النظام الملكي السابق، وليس فيه برلمان منتخب انتخاباً حراً او غير حر، وتعاونوا معه وشغل اعضاؤه وزارات مهمة في حكومات ذات حكم فردي عسكري ديكتاتوري حتى يومه الاخير، ما يثير كثيراً من التساؤل حول اخلاصهم في ما بحت حناجرهم في المطالبة به قبل سقوط النظام الملكي وسكتوا عنه بعد سقوطه. ولعل نوري السعيد لم يكن بعيداً من الصواب كثيراً حين وصفهم ب"الهدامين"، فقد هدموا كيان البلد من دون ان يتمكنوا من اقامة ما هو افضل منه. وجاء في مقالة السيد الهنداوي "ان صورة الملك فيصل الثاني لا تضاهي صورة الزعيم الوطني الراحل عبدالكريم قاسم قائد الانقلاب العسكري الذي اطاح الملكية الهاشمية تحديداً والذي اصبح الآن بلا جدال كذا الشخصية السياسية كذا الاكثر شعبية في كل البلاد منذ ان قتله البعثيون". ويدل هذا القول مرة اخرى الى عدم اطلاع الكاتب على حقيقة عهد عبدالكريم قاسم وشخصيته والفكرة التي خلفها في اذهان الشعب العراقي، وكون عهده اساس ما شهده العراق من مصائب وبداية المنحدر الى الهوة التي انتهى اليها الآن. لا ننسى ان عهد عبدالكريم قاسم كان عهد التقلبات السياسية والاحداث المؤسفة والانشقاقات الضارة، عهد المحاكمات المشينة التي ديست فيها جميع المبادئ القانونية، عهد القتل والسحل و"الحبال الممدودة" و"الارهاب الشيوعي" و"المقاومة الشعبية" و"المحاكم الركاعية" ومجازر الموصل وكركوك التي يندى لها جبين الانسانية، واعدام الضباط الوطنيين المعارضين. وكان عبدالكريم قاسم رجلاً لا شك في اخلاصه ووطنيته ونزاهته، ولكنه كان رجلاً مزاجياً غير متزن وكان اصحابه - قبل توليه الحكم طبعاً - يسمونه "كريم أبو جنية". وكان محدود الثقافة، يفتقر الى التجربة السياسية، متقلباً، شكوكاً، يدعم الشيوعيين مرة، ثم يضربهم اخرى، ويقرب القوميين، ثم يبعدهم اذا توهم انهم يتحركون ضده، وينادي بأن العرب والاكراد في "حزام واحد" كرد وعرب فرد حزام ويدعو ملا مصطفى البارزاني الى العودة من منفاه الاختياري في روسيا ويستقبله، ثم يحاربه ويقفز الى سياسة اخرى، ومن معسكر الى آخر بما يظن انه سيضمن بقاءه في السلطة مهما كانت القوى المؤيدة له. وخلف عبدالكريم قاسم الذي قتل بيد زملائه السابقين، عهد عبدالسلام عارف، عهد رئىس يفخر بانتهاء عصر "القصور والثلاجات"، ومجيء احمد ومحمود بدلاً من جون وجوني، عهد "الحرس القومي"، والقرارات الفردية المتسرعة والانجازات الاقتصادية العظيمة مثل تأميم اوروزدي باك.... ولما قضى عبدالسلام عارف في حادث مدبر او مقدر، وأوشك العراق ان يتنفس شيئاً من نسائم الديموقراطية وينعم بسيادة القانون بترشيح عبدالرحمن البزاز لرئاسة الجمهورية، ما بشر بشيء من الخير للبلاد، لم يحتمل فلول القائمين بالانقلاب والمستفيدين منه، ان يتجه العراق نحو نظام يترأسه مدني مثقف من رجال القانون، وان يعيد العسكريين الى ثكناتهم ويجعلهم يتفرغون لمهنتهم الاصلية، ويهتمون بواجباتهم العسكرية ورفع مستوى الجيش، ففرضوا - بالتهديد المسلح - عبدالرحمن عارف الذي اطلق عليه الشعب لقب "بدل ضائع" وهو رجل تافه ضعيف الشخصية لا يمتلك اي ثقافة ولا شجاعة ولا ذكاء، ولا يتمتع بأي مؤهلات لقيادة سرية من الجيش، دع عنك قيادة بلد صعب المراس مثل العراق. فشهد البلد في عهده حكماً مزعزعاً متهرئاً متفسخاً مهَّد الطريق لاستيلاء البعثيين على الحكم ودخول الشعب العراقي في كابوس استمر اكثر من ثلاثين عاماً وحكم لم تشهد روسيا في عهد ستالين ولا رومانيا في عهد تشاوشيسكو، مثيلاً له في الارهاب والقمع والاعتداء على المواطنين وحرياتهم وكرامتهم وأعراضهم، ومن غسل لأدمغة ابنائهم وأدمغتهم، ومن مجازر كشفت عن بعضها المقابر الجماعية التي يكتشف الآن مزيد منها يومياً. كان العراق في العهد الملكي ينعم بجهاز حكومي من انزه الاجهزة الحكومية في الوطن العربي وأكثرها كفاية، وبنظام اقتصادي حر، متين، مزدهر، وبوفرة من الارصدة والأموال، وكانت حاله الاقتصادية في تحسن مطرد، وموازنته معلنة، متوازنة، مدروسة. ولم يكن بوسع اي شخص حتى رئىس الدولة او رئىس الحكومة ان يتصرف بفلس واحد من اموال الدولة قارن ذلك بما نشرته الصحف أخيراً عن مئات الملايين من الدولارات التي وجدت في دار نجل رئىس الجمهورية بعد سقوط النظام وكان حصل عليها بعرق جبينه.... وكان هنالك مجلس للاعمار، اعضاؤه من اكبر الخبراء العالميين، من شتى الاختصاصات والجنسيات، وخصص له سبعون في المئة من عائدات النفط الوفيرة لينفق في مشاريع طويلة الامد كانت ستعود على البلاد والعباد بالخير والرفاه وتؤمن لهم مستقبلاً زاهراً، بل تجعل العراق بعد سنوات قلائل دولة متقدمة وتخرجه من عداد "الدول النامية" او دول العالم الثالث. وكانت للعراق في العهد الملكي مكانة عربية ودولية مرموقة، وسمعة عالية، وللشعب العراقي حرية في التفكير والتعبير، وصحافة تتمتع بقدر كبير من الحرية لا تقارن بحريته في العهد الجمهوري، وكان ابناء الشعب محترمة حقوقهم، آمنين على ارواحهم وأعراضهم، سعداء بأرزاقهم ومستوى معيشتهم، احراراً في تنقلهم داخل بلدهم وخارجه. وجاءت الجمهورية، وتداول الحكم في العراق بعد ما سمي بالثورة، وزراء عسكريون ومدنيون، ويساريون ويمينيون، وشيوعيون وقوميون، ورجعيون وتقدميون، وحزبيون ومستقلون. ولكن الاوضاع لم تتحسن، بل سارت من سيئ الى أسوأ. وخابت آمال الناس، ودبت المعارضة والاستياء في صفوفهم، وبدأت المؤامرات من جديد استعداداً للانقلاب التالي، ولثورة اخرى، فاذا نجحت فهي "ثورة مباركة"، واذا فشلت فهي "مؤامرة دنيئة". وكان الناس بعد كل انقلاب يرحبون به، ويظنون ان فيه خلاصهم وخلاص وطنهم، ثم لا يلبثون ان يترحموا على العهد الذي سبقه. وادلهمت الحياة في البلاد، وكسدت التجارة بفضل التأميم غير المدروس، وبارت الزراعة بفضل "الاصلاح الزراعي"، وتدهور مستوى الثقافة والتعليم بسبب الحزبية، على رغم زيادة عدد من الجامعات، ودخلت السياسة في صفوف الجيش فنخرت عوده، وفقد القضاء استقلاله، والمواطن حريته. وضاعت الاخلاق، واشتدت العداوات وسالت الدماء، وبلغ الامر بالمواطن العراقي انه لم يعد قادراً على التنقل داخل بلاده، او السكنى في المدينة التي يختارها في وطنه. وأصبح الشعب العراقي كله تقريباً ممنوعاً من السفر الى خارج البلاد، فكان الاطباء ممنوعين من السفر، والعسكريون الحاليون والمتقاعدون والمهندسون والوزراء السابقون جميعاً ممنوعين من السفر، وكان المنع يشمل حتى حالات السفر لأجل المعالجة الطبية او غيرها من الضرورات القصوى، حتى اصبح الشعب كله في سجن كبير. ان العراق الغني بتربته الخصبة، ومياهه الوافرة، وموارده الطبيعية، وموقعه الجغرافي، ومخزونه النفطي الضخم، يجب ان يكون في بحبوحة من العيش والرقي يفوق فيها كل دولة سواه. فإذا به اليوم، في ظل نظام جمهوري دام نحواً من خمسة وأربعين عاماً، يحسد كثيراً من الدول المتخلفة، وشعبه - الذي يملك اغنى الموارد - يعاني ما تعانيه افقر دول العالم من عوز وجوع ومرض، اضافة الى الاذلال والارهاب. أين أحوال العراق في العهد الملكي، وأين النعيم الذي كان يرفل فيه الشعب العراقي والذي كانت تحسده عليه معظم شعوب المنطقة وغيرها؟ اين ذلك كله من وضعه الأليم في العهد الجمهوري اسماً وهو يئن تحت نير الذل والعبودية والاهانة والقمع والتعذيب والارهاب؟ لقد كان العراقي محترماً في الخارج، ومكرماً في كل مكان. وهو اليوم يتحاشى ان يجهر بأنه عراقي، وترفض جميع دول العالم منح حامل جواز السفر العراقي سمة الدخول الى بلادها وكأنه مصاب بالجذام. وقد هاجر من العراق نحو اربعة ملايين من شعبه اي نحو خمس سكانه وبينهم ذوو ادمغة وعقول وكفايات تستطيع وتريد ان تخدم وطنها. مع العلم أن الشعب العراقي لم يكن من الشعوب التي تعرف الهجرة او تميل اليها. ان التاريخ قبس من الماضي ينير الطريق الى المستقبل، والعاقل من يتعظ بأحداثه ومسيرته وعبره ودروسه. وقد اثبتت احداث العراق خلال السنوات التي اعقبت سقوط النظام الملكي، وما آلت اليه احوال الشعب العراقي منذ ذلك الوقت ان النظام الامثل لحكم العراق كان "الملكية الدستورية"، وكان اختيار ملك هاشمي للعراق اختياراً حكيماً وحصيفاً. فالعراق يختلف في تركيبته السكانية عن غيره من البلاد العربية، ويتألف من طوائف وقوميات لا بد من اتفاقها على شخصية تجمع على احترامه والولاء له. وكان الملك فيصل الاول الشخص الامثل والقاسم المشترك الذي يوحد تلك الفئات المختلفة. فقد كان السنّة يعترفون بمكانته وتجاربه، والشيعة يحترمونه، إضافة الى ذلك، بسبب نسبه، ويرى فيه الاكراد والتركمان خير ضمان لحقوقهم. ولذلك لم يكن ليجمع العراقيين غير نظام ملكي دستوري، وملك يسود ولا يحكم، ويكون مظلة تجمع طوائفه وقومياته واتجاهاته، مثل ملك بلجيكا المؤلفة من قوميات عدة ذات لغات مختلفة او السويد او هولندا او بريطانيا او الدنمارك او غيرها من الملكيات الدستورية التي تنعم شعوبها بالاستقرار السياسي والرفاه الاقتصادي وتتمتع بالأمن والانسجام. وذلك في مقابل كثير من الجمهوريات التي لا تعرف الأمن والاستقرار وتعاني شعوبها التقلبات السياسية والمشكلات الاقتصادية، كالجمهوريات التي تقوم في افريقيا وأوروبا وأميركا الجنوبية. ان كاتب هذه السطور لا ينتمي الى اي فئة سياسية، ولا يعمل مع اي جهة ولا يدافع عن رأي إلا على ضوء دراسة التاريخ، وبما يرى فيه مصلحة وطنه، وليس له طموح سياسي ولا مادي. ولكنه يرى - بعد طول دراسة وتأمل في تاريخ العراق الحديث - ان ترشيح الشريف علي بن الحسين هو الحل الامثل، وربما الحل الوحيد لمشكلة العراق التي لا حل لها سواه، والا فسندخل من جديد في دوامة اخرى لا يعلم الا الله مداها. اما ما ذهب اليه بعض الجاهلين او المغرضين من ان الشريف علي غادر العراق في طفولته، فذلك من قبيل المغالطة او الهراء. فهو عراقي لحماً ودماً، وقلباً وقالباً، وفكراً وشعوراً، وهل كان الملك فيصل الاول - باني كيان العراق الحديث - مولوداً في العراق، او هل قضى طفولته فيه؟ ام قدم الى العراق وعمره نحو اربعين سنة ولم تسبق له رؤية العراق قبل ذلك. ولكنه كان اختياراً حكيماً موفقاً اسفر عن قيام دولة مستقرة ومحترمة. وكان من سوء حظ العراق انه توفي في سن مبكرة نسبياً قبل ان يرسخ اسس الدولة التي بناها، فأدى غيابه الى تدهور الاوضاع، وضياع القيم، وغياب الاستقرار. وقد اشار السيد الهنداوي في مقالته الى ان "المندوبة البريطانية السيدة غيرترود بل فرضت فيصل الاول ملكاً وسط احتجاجات شهيرة كذا بين العراقيين السنّة والشيعة"، وهذا القول دليل آخر الى عدم إلمام الكاتب بتاريخ العراق الحديث، ولا بالموضوع الذي يقحم نفسه فيه. فغيرترود بل وهي بالمناسبة كانت آنسة لا سيدة: "مس بل" لم تكن مندوبة بريطانيا في العراق، ولا هي التي فرضت فيصلاً على العراقيين او رشحته لهم. وتناولت في بحث نشرته "الوسط" هذا الاسبوع كيف اختير فيصل بن الحسين لعرش العراق، وملابسات اختياره، وكيف فوتح بالأمر للمرة الأولى. وأخيراً، فإن من واجب الكتّاب والمثقفين الذين يتصدون لمثل هذه المواضيع، قبل اصدار الأحكام العاطفية المتسرعة، القائمة على الاشاعات والأهواء، ان يدرسوا تاريخ العراق السياسي القريب دراسة متأنية، ويسترشدوا بأخطاء الماضي ويطلعوا على اسباب نهضة العراق في العهد الملكي، وعوامل تدهوره الى الحضيض في العهد الجمهوري، ولا يكرروا، من دون تمحيص، ما يلوكه بعض العامة في المقاهي، وما يذهب اليه المغرضون والذين في نفوسهم مرض، من اباطيل لا تمت الى الحقيقة بسبب، مهما كانت كتاباتهم صادرة عن نية حسنة واخلاص للوطن، لأن الجهل بحقائق التاريخ يفسد اطيب النيات. * كاتب عراقي مقيم في لندن.