لعل أبرز ما يميز التاريخ العربي الحديث وقوعه تحت سيطرة الأتراك العثمانيين منذ أوائل القرن السادس عشر. وقد ظل العالم العربي تحت السيطرة التركية طوال أربعة قرون مع تفاوت درجات تبعية أقطاره لإسطنبول. ولم تنج من هذا المصير سوى المناطق الداخلية من شبه الجزيرة العربية والمغرب الأقصى. ويكاد يجمع المؤرخون على أن العثمانيين لم يفرضوا على الولايات العربية قوانينهم الاقتصادية أو أعرافهم الاجتماعية بل تركوا للشعوب العربية في المرحلة الأولى لغتها وعاداتها ومؤسساتها؛ وقد اتخذ التمايز بين الناس طابعاً دينياً ظهر حين فرضوا على المسيحيين الجزية التي كانت بمثابة بدل للخدمة العسكرية. والواقع أن العثمانيين استهدفوا منذ البداية تجميد البناء الاجتماعي والاقتصادي للولايات العربية وأقاموا سلطتهم على أسس إقطاعية سادت خلال القرون الثلاثة الأولى. ويختلف الإقطاع العثماني التركي عن الإقطاع الأوروبي حيث كان المركز في السلطة العثمانية يمارس حق تعيين الولاة ومنح المقاطعات مع أنه أبقى على الأمراء القدامى والمماليك. ولم تكن الإقطاعية العثمانية وراثية، كما لم تقم على وحدة المزرعة واستقرار الإقطاعي بها، بل كانت إقطاعية متحركة من حيث ملاكها. وقد دأب العثمانيون على تغيير الولاة وعدم انتهاج سياسات إصلاحية في الولايات التي كانوا يحكمونها، بل كانوا أشد حرصاً على جمع المال ضماناً للمستقبل. ويجدر بنا أن نذكر أن سقوط القسطنطينية بأيدي العثمانيين واستيلاءهم على العالم العربي تمّا في ظروف تحول التجارة العالمية عن طريق الشرق الأوسط عقب اكتشاف البرتغاليين طريق رأس الرجاء الصالح، ما فرض على المنطقة العربية حالة من الركود الاقتصادي شملت التجارة والإنتاج الصناعي وبخاصة الصناعات اليدوية. فضلاً عن حالة الركود الفكري والحضاري التي كانت تسود أرجاء المنطقة في ذلك الحين. ولذلك يمكن القول إن العثمانيين تسلموا العالم العربي وقد ذبلت معظم معالمه الحضارية التي كانت قائمة قبل ذلك بخمسة قرون تقريباً. وبحكم حياتهم الحربية المبنية على العمل العسكري لقرون طويلة، وجد الأتراك العثمانيون في النشاط الديني السني عوناً على تكثيف مركز السلطان بالنسبة إلى المسلمين عموماً وبالنسبة إلى العالم الخارجي، خصوصاً الدولة الصفوية الشيعية التي كانت تناصب الدولة العثمانية العداء سياسة وجواراً ومذهباً. ولعل أخطر ما أصيب به العالم العربي خلال الحقبة العثمانية هو انغلاقه داخل حدود الإمبراطورية العثمانية وانعزاله تماماً عن المؤثرات الحضارية التي مرّت على أوروبا، بدءاً بعصر النهضة وفنونها وآدابها والإصلاح الديني وملابساته والاكتشافات الجغرافية ومضاعفاتها والحركة العلمية واتساع آفاقها وعصر التنوير والثورة الفرنسية وآثارها. هذه التطورات الحضارية لم تتعرف إليها المجتمعات العربية الخاضعة للنفوذ العثماني إلا لماماً وفي جوانب جزئية محدودة. وتبرز خطورة العزلة والجمود اللذين سيطرا على العالم العربي في استمرارها في الوقت الذي كانت الثورة الصناعية في غرب أوروبا استكملت مهماتها وآتت ثمارها بظهور النظام الاستعماري الحديث الذي قادته الرأسماليات الصناعية وبالتحديد إنكلترا وفرنسا في نهاية القرن الثامن عشر وبداية القرن التاسع عشر الذي شهد بداية الغزو الأوروبي للعالم العربي. ولعل الحملة الفرنسية بقيادة بونابرت في نهاية القرن الثامن عشر لم تكن سوى الإرهاصة الأولى للتدخل الأوروبي الذي تزايَد مع الأيام وبلغ ذروته في اقتسام الدول الاستعمارية للعالم العربي بعد الحرب العالمية الأولى. ويلاحظ أن الفترة الممتدة من نهايات القرن الثامن عشر إلى أوائل القرن التاسع عشر تمثل حقبة فاصلة في التاريخ العربي الحديث، فقد شهدت جملة الأحداث التي شكلت بصورة مكثفة الخريطة الاجتماعية والاقتصادية والثقافية للعالم العربي في الفترات اللاحقة. ففي المجال الاجتماعي والاقتصادي والثقافي للعالم العربي نلاحظ بداية تشكل الطبقات والفئات الاجتماعية المنتجة التي ترتب على ظهورها بروز الوعي القومي وتشكل الأدب العربي الحديث. وشهدت هذه الفترة البداية الإعلامية في المنطقة العربية التي كانت نتاجاً لأول احتكاك حضاري مباشر بين العالم العربي وأوروبا الصناعية والتي تمثلت في حملة بونابرت على مصر عام 1798. وإذا كان التنافس على المستعمرات بين الدول الأوروبية الاستعمارية الذي اشتد في القرن التاسع عشر قد دار حول المناطق الأخرى من قارتي آسيا وإفريقيا ومنها العالم العربي الذي كان يخضع في شكل أو آخر للسلطة العثمانية. غير أن المحاولات التي بذلتها بعض الدول الأوروبية وبالتحديد إسبانيا والبرتغال خلال القرنين السابع والثامن عشر لاحتلال بعض المواقع في جنوب شبه الجزيرة العربية والخليج العربي؛ أخفقت في توطيد سيطرتها على تلك المواقع حيث قضت عليها القوى المحلية. وقد تغيرت الأوضاع في أواخر القرن الثامن عشر، إذ تواكب مجيء الحملة الفرنسية على مصر مع تطور الثورة الصناعية في أوروبا وبلوغها مرحلة رأسمالية ما قبل الاحتكار التي تميزت بازدياد الإنتاج السلعي والبحث عن أسواق جديدة. وهذا فرض حرية التجارة كأداة جديدة للنهب الاستعماري. وترتب على ذلك ازدياد عدد التجار الأوروبيين زيادة كبيرة في مختلف الولايات العربية العثمانية وإغراق أسواقها بالسلع الصناعية الأوروبية واتساع نفوذ الشركات التجارية الأوروبية داخل الولايات العربية العثمانية. وشكّلت المنافسة الفرنسية/ البريطانية، ملمحاً رئيسياً في العلاقات الاستعمارية بين هاتين الدولتين. وتمثلت في محاولات السيطرة على الولايات العربية البارزة مثل مصر والجزائر وتونس ثم منطقة الهلال الخصيب في ما بعد. ولم يقتصر التسلل الاستعماري الأوروبي إلى داخل الولايات العربية العثمانية على النشاط التجاري، بل إن التدهور الذي أصاب الإمبراطورية العثمانية بسبب الثورات القومية في البلقان التي دشنتها الثورة اليونانية عام 1821 علاوة على هزائم الجيش العثماني في حروبه مع روسيا والنمسا مما كشف عن تخلف التقنية العسكرية التركية، فضلاً عن محاولات بعض الولايات العربية العثمانية إقامة دول مستقلة مثل مصر وتونس. هذه العوامل شكّلت حافزاً مباشراً دفع السلطنة العثمانية إلى انتهاج سياسات جديدة بهدف تقوية السلطة المركزية من خلال القيام بإصلاحات شملت الجيش ونظام الحكم. وترجع بداية إصلاح الجيش العثماني إلى أواخر القرن الثامن عشر في عهد سليم الثالث (1789- 1807) الذي اهتم بإقامة صناعات حربية واستدعاء الخبراء من الدول الأوروبية وإرسال البعثات العسكرية إلى أوروبا (الغربية). وسار إصلاح الجيش العثماني سيراً حثيثاً بقدر ما سمحت به الظروف السياسية والاقتصادية والاجتماعية السائدة آنذاك. وكانت لذلك نتائج مهمة تمثّلت في إدخال العنصر العربي إلى القوات المسلحة العثمانية خصوصاً أبناء الشعب العربي في سورية والعراق. كما أنها خلقت علاقة مباشرة بين العسكريين الأتراك وزملائهم الأوروبيين، وفتحت ثغرة في جدار العزلة الذي كان مفروضاً على الولايات العثمانية، ما ساعد على اقتراب هؤلاء العسكريين من الأفكار القومية والديموقراطية التي كانت تحفل بها أوروبا الغربية في ذلك الوقت. وكان لذلك تأثيره المباشر في نمو الأفكار الإصلاحية الثورية بين ضباط الجيش العثماني من الأتراك والعرب. وقام هؤلاء الضباط بدور حاسم في الحركة الدستورية التي تأسست في النصف الثاني من القرن التاسع عشر بقيادة مدحت باشا (1822- 1883) وأثمرت صدور الدستور المعروف بالمشروطية عام 1876. والمعروف أن هذا الدستور منح التبعية العثمانية للمواطنين بلا استثناء وأعلن صيانة الحرية الشخصية وحرية الصحافة والمطبوعات وجعل التعليم حراً والمواطنين سواسية أمام القانون. وتضافرت قوى عدة لضرب الإصلاح الدستوري، في مقدمها العناصر الإقطاعية التي توحّدت مع السلطان العثماني ونهجه الاستبدادي وساندتها فئة العلماء المرتزقة، الذين اعتبروا الإصلاح الدستوري خطراً يهدد مواقعهم الوظيفية كذلك المصالح التجارية الأجنبية التي ازدهرت وسيطرت على الأسواق العربية العثمانية وكان الإصلاح الدستوري نذيراً بتقليص امتيازاتها ونفوذها. ونجح السلطان عبدالحميد في تجميد الدستور وحل مجلس النواب ونفي بعض أعضائه، ومن ثم دخلت السلطة العثمانية في ما عرف باسم «الحقبة الاستبدادية الحميدية» التي شهدت ازدياد قبضة السلطة المركزية وفرض رقابة صارمة على النشاط الثقافي وحرية الفكر والنشر. وتميّز النصف الأخير من القرن التاسع عشر بنشوء الجمعيات والتنظيمات التي حملت لواء الفكر القومي العربي في مواجهة القهر التركي العثماني؛ إذ شهدت هذه الحقبة ظهور أول حركة قومية شملت مختلف الطوائف من المسلمين والدروز والمسيحيين- وانتظمت في شكل نشاط ثقافي وأدبي تزعمته الجمعية العلمية السورية عام 1857، أما النشاط السياسي فقد نهضت به جمعية أخرى ظهرت في سورية عام 1875، وبقيت تعمل سراً لسنوات عدة، واقتصرت على إصدار النشرات التي تندد بالحكم العثماني وتدعو إلى الاستقلال. كذلك تأسست «جمعية حفظ حقوق الملة العربية عام 1881 في بيروت كما تألفت في القاهرة جمعية الشورى العثمانية عام 1897 ونشطت في طبع النشرات باللغتين العربية والتركية. وتواكب مع ظهور هذه الجمعيات التي عبّرت عن البوادر الأولى للقومية العربية نشوء الفكرة القومية التركية التي بدأت في نهاية القرن التاسع عشر، واتخذت طابعاً سياسياً ولكنها بقيت في إطار ضيّق، بسبب السياسة القمعية التي كان ينتهجها السلطان عبدالحميد حامل لواء الجامعة الإسلامية ضد القوميات المختلفة المنضوية في إطار السلطنة العثمانية من طريق المطالبة باللامركزية وتوسيع صلاحيات الولايات. ولئن كانت العقيدة الإسلامية والمؤسسات الدينية في بداية القرن التاسع عشر لا تزال مسيطرة في العالم العربي، فإنه مع النصف الثاني من القرن ذاته، تم استيعاب الكثير من النظريات والأفكار التي صاغها الغرب والتي تميّزت منذ ذلك الحين بأهمية حاسمة بالنسبة إلى الفكر العربي حيث أتيحت للعقل العربي بعد الاتصال بالحضارة الغربية إمكانية الاطلاع على أفكار القومية والليبرالية والتطور الصناعي والمكتشفات العلمية. وإذا كان الاحتكاك بالغرب لم يخلق فكرة القومية العربية من العدم كما يرى البعض، لأن التوجه العربي نحو فكرة القومية انبثق من واقع الظروف السياسية والاجتماعية التي عاشتها الشعوب العربية على مدى ثلاثة قرون تحت السيطرة التركية العثمانية، فإن هذا لا يدفعنا إلى تجاهل التأثير الأوروبي الذي ساعد من الناحية الموضوعية على بلورة المفاهيم القومية والديموقراطية لدى العرب، وذلك من خلال استيعاب الأفكار والنظريات المتحيزة للجوانب التقدمية في الثقافة الأوروبية الغربية وإعادة صياغتها بما يتماشى مع الظروف المحلية. وبوصول أعضاء «جمعية الاتحاد والترقي» إلى السلطة عام 1908 عقب إسقاط الحكم الاستبدادي للسلطان عبدالحميد بدأت مرحلة جديدة بالنسبة إلى القوميات المختلفة ومنها القومية العربية التي تحمست للانقلاب ومنحته تأييدها ومساندتها. غير أن التعصب القومي التركي الذي تميّزت به سياسة زعماء «الاتحاد والترقي» وانتهاجهم سياسة التتريك وتبنيهم أفكار القومية الطورانية، دفع القوميين العرب إلى طريق التشدد. حدث ذلك خصوصاً بعد لجوء قادة «الاتحاد والترقي» إلى قمع وتشريد كثير من السياسيين العرب والقوى القومية، التي آزرتهم وبذلت جهوداً مخلصة لإصلاح السلطنة العثمانية وعلى رغم الإنجازات الديموقراطية التي حققتها ثورة 1908 والتي تمثّلت في إعادة إصدار الدستور الذي سبق تجميده على يد السلطان عبدالحميد، وشمل بعض الإضافات التي استهدفت تحرير الحياة الاجتماعية والقضائية، إلى جانب تقييد سلطات السلطان والنص على حرية الفكر والنشر. غير أن عدم تعميق هذه الثورة بتركهها القوى المعادية لها والتي تكتّلت حول السلطان عبدالحميد، مكّن هذه القوى من الاستفادة من أخطاء الاتحاديين والقيام بانقلاب مضاد. ولكن لم يستطع هذا الانقلاب إلغاء الدستور أو حل مجلس «المبعوثان». وتخلى الاتحاديون عن برنامجهم القائم على اللامركزية وتمثيل القوميات في مجلس «المبعوثان»، كما واصلت الحكومة انتهاج سياسة قومية تركية متعصبة تجلت في استخدام رجال «الاتحاد والترقي» النعرة الدينية وترويجهم «الأفكار الحميدية» التي تستبعد المسيحيين العرب باعتبارهم لا ينتمون إلى العرب.