عشية الذكرى الرابعة لصدور قرار مجلس الأمن 1244 الذي أنهى حرب كوسوفو في 10/6/1999 عنونت صحيفة "داناس" البلغرادية المعروفة 22/5/2003 صفحتها الأولى بمانشيت "الغرب يفكر في استقلال كوسوفو" صدم الذين لا يزالون يعيشون في الماضي، اذ أوردت في التفاصيل أن الدول الغربية تناقش إمكان البدء في مفاوضات تفضي إلى الاعتراف باستقلال كوسوفو كخيار أفضل من استمرارها محمية دولية. وبالاستناد إلى آخر اجتماع ل"مجموعة الاتصال" التي تتولى قضايا البلقان في 20/5/2003، أوضح المسؤولون في الاتحاد الأوروبي أن الظروف الآن مواتية لذلك تغير السلطة في صربيا وطلب الولاياتالمتحدة وحلف الناتو سحب قواتهما من البلقان. وشهد أيار مايو الماضي تطورات عدة ذات مغزى تستكمل الاستقلال على الأرض وتفضي إلى تبلوره على الورق. اذ صدرت أخيراً في كوسوفو وثائق الرخصة ولوحات السيارات الجديدة عوضاً عن تلك القديمة الصادرة أيام الحكم الصربي، والتي كانت آخر ما يربط بين الطرفين. فبعد انسحاب القوات الصربية في حزيران يونيو 1999 تتالت بسرعة الإجراءات التي جسدت "الاستقلال على الأرض أولاً" مثل إصدار بطاقات الهوية وجوازات السفر والطوابع وغيرها التي لا تحمل سوى اسم كوسوفو. وفي هذا الإطار وُضع "الإطار الدستوري" الذي أدى إلى أول انتخابات برعاية دولية أثمرت مؤسسات حكم بديلة تحظى باعتراف دولي برلمان وحكومة ورئيس. أما في ما يتعلق بالاقتصاد، فأدى اعتماد عملة أخرى المارك الألماني أولاً ثم اليورو إلى بناء اقتصاد جديد يرتبط بالدول المجاورة باستثناء صربيا والأوروبية، خصوصاً بعد البدء في تخصيص منشآت القطاع العام التي ورثتها كوسوفو من العهد الماضي. ومع هذه التغيرات العميقة في نظام الحكم والاقتصاد والعلاقات مع العالم باستثناء صربيا التي أفضت إلى استقلال على الأرض جاءت التطورات الأخيرة في أيار الماضي لتفتح الأفق نحو الاعتراف بهذا الاستقلال على الورق. اذ انقضت أولاً الظروف العصيبة في المنطقة المجاورة مقدونياوجنوب صربيا التي كانت تثير التوتر والتخوف من الاعتراف بالاستقلال خشية ما يسمى "ألبانيا الكبرى"، بعدما عبّر قادة كوسوفو الجدد الرئيس إبراهيم روغوفا ورئيس الحكومة بيرم رجبي بما فيه الكفاية عن النضج السياسي برفض هذا الخيار غير الواقعي ألبانيا الكبرى التي تضم كل الألبان في البلقان والالتزام بالتعاون الإقليمي وصولاً إلى الاندراج في الاتحاد الأوروبي. وفي هذا الإطار ساهمت ألبانيا بدورها في امتصاص الاحتقان من الألبان وذلك بتطوير علاقات جديدة مع الدول المحيطة بكوسوفو مقدونيا وصربيا والجبل الأسود، اضافة إلى علاقتها المتنامية مع كوسوفو في كل المجالات، ما يمكنها من لعب دور متزايد في حض الأطراف المختلفة وبالتحديد صربيا وكوسوفو على التفاوض لحل المشكلات العالقة، وهو الشيء الذي أكده رئيس البرلمان الألباني ثروت بلومبي في زيارته الأخيرة لبريشتينا نهاية أيار الماضي. وبعبارة أخرى لم تعد ألبانيا الحالية تريد من كوسوفو أن تستقل لتتحد معها في دولة واحدة بقدر ما تريد استثمار علاقتها الجيدة مع الطرفين وهذا يتحقق الآن للمرة الأولى لدفع التعاون/التكامل الإقليمي في البلقان إلى الأمام. وفي مثل هذا الوضع لم تعد مقدونيا تدق ناقوس الخطر، كما كانت أيام حكومة غيورغيفكي السابقة، من "ألبانيا الكبرى" و"كوسوفو الكبرى" على اعتبار أن واقع أو مستقبل مقدونيا لم يعد مرتبطاً بكوسوفو بعد استقرار الوضع هناك، ولم يعد يهم مقدونيا على لسان رئيس الحكومة تسرفنكوفسكي سوى أن يسود في كوسوفو الاستقرار وحكم القانون نشرة "تشيك" 23/5/2003م. وضمن هذا الاستعداد لما هو آت، أصدر برلمان كوسوفو في منتصف أيار الماضي قراره التاريخي قرار حول حرب التحرير لشعب كوسوفو في سبيل الحرية والاستقلال الذي صوتت لأجله كل الأقليات البشناقية والتركية والغجرية باستثناء الصربية بطبيعة الحال. والمهم في هذا القرار أن كل الأحزاب الألبانية التي تمثل 90 في المئة من السكان اتفقت للمرة الأولى على تقويم الظروف التي قادت إلى "التحرير والاستقلال" بعدما كان الحزب الديموقراطي المنبثق من "جيش تحرير كوسوفو" يحتكر لنفسه هذا الدور وينتقص من سياسة النضال السلمي لروغوفا. ومن هنا جاءت زيارة رئيس البرلمان الألباني ثروت بلومبي إلى بريشتينا في نهاية أيار لتقر ب"الدور التاريخي" الذي لعبه روغوفا، الذي يعول عليه الغرب لسياسته المعتدلة في التوصل إلى اتفاق ما مع بلغراد في المستقبل المنظور. وفي الأسبوع الأخير من أيار جاء أهم حدث وهو تمثيل رئيس الحكومة بيرم رجبي لكوسوفو في اجتماع اوروبا الجنوبيةالشرقية في أثينا الذى دعا اليه المنتدى الاقتصادى العالمي، والذي شارك فيه رؤساء حكومات دول البلقان. ويبدو أن هذه المشاركة الأولى من نوعها لكوسوفو في الإطار الإقليمي تمهد لمشاركة أخرى وأهم في القمة المقبلة للاتحاد الأوروبي ودول غرب البلقان في مدينة سالونيك اليونانية نهاية الشهر الجاري. ويتوقع أن تكون هذه المناسبة فرصة لأول اجتماع/ حوار بين بريشتينا وبلغراد حول بعض الأمور العملية أولاً ثم حول مستقبل العلاقات بين الطرفين. وفي غضون ذلك كانت لجنة الشؤون الخارجية في الكونغرس الأميركي تخصص إحدى جلساتها لمناقشة مستقبل كوسوفو في 20 أيار الماضي . وفي النقاش الساخن الذي شارك فيه أعضاء الكونغرس وخبراء في شؤون البلقان أوضحت جانيت بوغ نائبة مساعد وزير الخارجية لشؤون أوروبا الجنوبية والوسطى أن الإدارة الأميركية ضد الاستقلال الفوري الذي يطالب به البعض في بريشتينا وضد تقسيم كوسوفو الذي يطالب به البعض في بلغراد. وبعبارة أخرى أن الإدارة، كما ورد في سياق هذه الجلسة، ليست ضد الاستقلال من حيث المبدأ ولكن ضد الاستقلال الفوري من طرف واحد قبل حل المشكلات العالقة بين بريشتينا وبلغراد. ودخل على الخط في شكل مفاجئ البليونير الاميركي المعروف جورج سوروس الذى له استثمارات واسعة في دول البلقان. فزار بريشتينا وبلغراد والتقى روغوفا ورئيس الحكومة الصربية زوران جيفكوفيتش، وعبر عن دعمه القوي لاستقلال كوسوفو باعتبار ان ذلك يخدم صربيا الآن، وهو ما اقتنع به جيفكوفيتش ايضاً بعد اللقاء نشرة "تشيك" 29/5/2003. وفيما كان فيه سوروس يطلق من بلغراد هذه "القنبلة" 29/5/2003 أُعلن في بريشتينا عن نقل صلاحيات الادارة الدولية اونميك الى المؤسسات الكوسوفية في 19 مجالاً تتعلق بالاقتصاد والصحة والزراعة والطاقة، ما يعني بداية النهاية لوجود الادارة الدولية، فيما سيتم نقل المزيد من الصلاحيات في 17 مجالاً آخر الشهر الجاري. وحتى الآن كان كل طرف يتصرف بمعزل عن الواقع الذي لا بد من مواجهته. فصربيا لا بد من أن تعترف بكل ما أُنجز على الأرض خلال 1999-2003 لأن من المستحيل في كوسوفو الآن تصور العودة إلى ما قبل 1999. ومن هنا لم يعد أمام صربيا سوى "التعاون" مع كوسوفو وليس "التدخل" في كوسوفو، كما ورد في النقد الشديد الذي وجه إلى بلغراد من قبل الإدارة الدولية أنظر التقرير الآخر الصادر عن "معهد تقارير الحرب والسلام في لندن"، الرقم 431 في 20/5/2003م. وينطبق هذا في شكل خاص على الأقلية الصربية في كوسوفو كما هو الأمر مع الأقلية الألبانية في جنوب صربيا التي عليها أن تتكيف مع الواقع الجديد وأن تشارك بقوة في صوغ مستقبلها في كوسوفو وليس في صربيا. وفي المقابل قد تكون كوسوفو حققت الاستقلال على الأرض وأصبحت لها علاقات مباشرة مع دول الجوار والعالم باستثناء صربيا ولكن لا يمكن أن تنال الاعتراف الدولي الكامل بما في ذلك الانضمام الى الأممالمتحدة إلا بعد تصفية المشكلات العالقة بينها وبين صربيا مشكلة اللاجئين والديون السابقة الخ. والمهم هنا أن صربيا الآن في حاجة أيضاً إلى ذلك لأنها لا يمكن أن تتخلف أكثر عن غيرها من الدول المجاورة كرواتياومقدونياوألبانيا وبلغاريا من الاقتراب من الاتحاد الأوروبي، حيث لا يمكن أن تتقدم بطلب للانضمام قبل التوصل إلى اتفاق حول مستقبل علاقتها مع كوسوفو. لذلك تمنى الاتحاد الاوروبي في 29 ايار الماضي على الطرفين ان يبدأ الحوار في سالونيك، وتعهد ان يقوم بكل ما في وسعه لمساعدة بريشتينا وبلغراد في استمرار التواصل بينهما. وعّلق المسؤولون في الاتحاد في بروكسيل بالقول انه لا يعقل الا يكون هناك اي اتصال بين بلغراد وبريشتينا في وقت يتجه كل البلقان الى الاندراج في أطر الاتحاد الاوروبي. في الماضي القريب كان هناك أمل في حل يتمثل في انضمام كوسوفو إلى الاتحاد الفضفاض بين صربيا والجبل الأسود، ولكن يبدو أن هذا يتجاوزه الزمن الآن. وما بقي الآن هو الانتظار في أن يبدأ الطرفان بسالونيك في نهاية الشهر الجاري الحوار القائم على الاعتراف بالوقائع والمصالح حتى يتسنى لهما الوصول خلال 2004 إلى فراق "متحضر" على نمط ما حصل بين تشيكيا وسلوفاكيا، لأن الوضع الإقليمي الآن لم يعد يسمح بأي استخدام للقوة أو بفرض أي حل بواسطة القوة. المهم في الأمر أن كل طرف في حاجة إلى الآخر حتى من أجل هذا الفراق للتخلص من عبء الماضي والتوجه الى المستقبل الذي يسعيان اليه. * كاتب سوري/كوسوفوي.