تسارعت التطورات في غرب البلقان بعد انتهاء جلسات المحكمة للاستماع الى مدى انسجام استقلال كوسوفو مع القانون الدولي، حيث لم تشهد المحكمة كما كان متوقعاً أية مفاجأة. ولكن المفاجأة كانت في سرعة الاندفاع الصربي نحو الاتحاد الأوروبي وما يعنيه ذلك بالنسبة الى العلاقات مع الجوار. وكان الاتحاد الأوروبي قد قرر ضم صربيا ومقدونيا والجبل الأسود الى نظام شنغين منذ 19/12/2009، الذي يسمح لمواطني هذه الدول أن يسافروا بحرية في دول الاتحاد الأوروبي من دون تأشيرة سفر، وهو ما حرر مواطني صربيا من العزلة الخانقة على المستوى الأوروبي منذ حروب ميلوشيفيتش. ولكن شروط الاتحاد الأوروبي لاتزال على ما هي عليه بالنسبة الى صربيا بالذات: التعاون مع محكمة جرائم الحرب في لاهاي لاعتقال مجرم الحرب راتكو ملاديتش قائد جيش صرب البوسنة خلال 1992-1995، و «التعاون الإقليمي» الذي يعني هنا التعاون مع دول الجوار في الأمور التي تهم الاتحاد الأوروبي من دون أن يفرض ذلك على صربيا الاعتراف بكوسوفو. وكانت علاقات صربيا قد تأثرت كثيراً بدول الجوار بسبب اعترافها باستقلال كوسوفو، وبخاصة مع سلوفينيا وكرواتيا ومقدونيا والجبل الأسود وألبانيا. ولكن بعد «الاندفاع الصربي» لعبور الحدود الأوروبية منذ 19/12/2009، وما خلفه ذلك من ارتياح في الشارع الصربي، وجدت القيادة الصربية أن اللحظة مناسبة للتقدم بطلب العضوية للاتحاد الأوروبي في نهاية 2009 على أمل أن تحظى صربيا بوضعية «الدولة المرشحة» حتى نهاية 2010. وبهذا الانعطاف الصربي المهم باتجاه أوروبا، الذي يعني تخلياً عن أوهام الماضي، تنشغل الصحافة الصربية الآن في تحديد السنة التي ستصبح فيها صربيا عضواً في الاتحاد الأوروبي، إذ تتباين التقديرات بين 2014 و 2018. ولكن على صربيا الآن بعد أن تقدمت بالطلب أن تلتزم بكل ما تطلبه بروكسل، ومن ذلك أن تقبل بانفصال المسار الصربي عن المسار الكوسوفي وأن تلتزم ب «التعاون الإقليمي» الذي يجب أن يشمل كوسوفو في نهاية الأمر. وفي هذا السياق كان أهم اختراق في الأيام الأخيرة هو التقارب بين صربيا وألبانيا وحتى بين ألبانيا وصرب كوسوفو، وهو الأمر الذي قوبل بامتعاض كوسوفي لأنه جاء مفاجئاً بسرعته لبريشتينا التي كانت تأمل بتنسيق ألباني – كوسوفي في ما يتعلق بالصلات مع بلغراد. وقد بدأت هذه التطورات المفاجئة في الأيام الأخيرة من 2009 حين زار وفد من صرب كوسوفو برئاسة سلوبودان بتروفيتش رئيس الحزب الليبرالي الصربي، تيرانا، والتقى برئيس الحكومة الألبانية صالح بريشا الذي رحب كثيراً بهذه البادرة وأعلن عن تقديم مساعدة فورية بقيمة 600 ألف دولار لمحافظة غراتشانيتسا القريبة من بريشتينا والتي تضم غالبية صربية. وفي الوقت الذي أشار فيه بريشا خلال الزيارة الى «فصل جديد في العلاقات الألبانية الصربية» أشاد الضيف الصربي بألبانيا باعتبارها «نموذجاً يجب أن يتبع في المنطقة». وقبل أن يصحو المراقبون من حرارة التصريحات التي رافقت الزيارة جاءت المفاجأة الأخرى من صالح بريشا حين أعلن في مؤتمر صحافي في 25/12/2009 عن توجيه دعوة إلى الرئيس الصربي بوريس تاديتش لزيارة ألبانيا قريباً. وقد تركت المفاجأة رد فعل فورية في ألبانيا ذاتها قبل أن تصحو بريشتينا على المفاجأة وتعلق رسمياً على ذلك. ففي ألبانيا انتقدت المعارضة هذه الدعوة. وبعد يومين على الدعوة خرجت كوسوفو بموقف رسمي يعبر عن امتعاضها. ففي 27/12/2009 قال الرئيس الكوسوفي فاتمير سيديو في مؤتمر صحافي أن «الدعوات ليست لعبة» وإنه لن يدعو الرئيس الصربي تاديتش للزيارة طالما انه «يقف موقفاً عدائياً ويحرض الدول على عدم الاعتراف باستقلال كوسوفو». وفي الواقع كان سيديو يشير الى اختراق كرواتي - كوسوفي يتمثل في قدوم الرئيس الكرواتي سيبه مسيتش (الذي كان آخر رئيس ليوغسلافيا التيتوية) في زيارة لكوسوفو في الثامن من كانون الثاني (يناير) الحالي للمشاركة في قمة تشمل رؤساء نصف يوغوسلافيا السابقة (كرواتيا ومقدونيا والجبل الأسود وكوسوفو) إضافة الى ألبانيا للبحث في «التعاون الإقليمي». وكانت العلاقات بين كرواتيا وصربيا قد توترت في الأسابيع الأخيرة بعد شهادة قوية لكرواتيا لمصلحة كوسوفو في محكمة العدل الدولية، أثارت المشاعر الصربية من جديد ضد كرواتيا والرئيس مسيتش بالذات لسجلّه غير المرغوب كآخر رئيس ليوغسلافيا التيتوية، ولم يكن ينقص سوى اقدام الرئيس مسيتش على زيارة كوسوفو للمشاركة في هذه القمة التي استثنيت منها صربيا فقط. ومن هنا يأتي هذا التقارب الصربي - الألباني الجديد ليوحي بأن صربيا لا مشاكل لها مع الألبان، على رغم موقفها من استقلال كوسوفو، كما أن ألبانيا لا تقيّد نفسها بكوسوفو وتحرم نفسها من علاقة طبيعية مع صربيا. ولكن التمعن في هذا الانعطاف يفضي الى أن رئيس الحكومة الألبانية صالح بريشا حقق بذلك فوزاً على المعارضة الألبانية التي تقاطع البرلمان منذ انتخابات حزيران (يونيو) الماضي لأن المعارضة (الحزب الاشتراكي) والتي كانت الأقرب الى محور أثينا - بلغراد لم تستطع خلال وجودها الطويل في الحكم (1997-2005) أن تحقق تقارباً كهذا مع صربيا. ومن ناحية أخرى فإن تطبيع ألبانيا لعلاقاتها مع صربيا يسمح لألبانيا في المستقبل أن تتوسط لحل بعض القضايا العالقة بين صربيا وكوسوفو. الأيام المقبلة كفيلة بتوضيح مغزى هذا الانعطاف الذي يتمثل في التقارب الألباني - الصربي بعد قرون من العداء التاريخي.