وضع المثقف العربي له خصوصية منفردة "فهو - في الوقت الذي يشعر بمسؤوليته عن متابعة التقدم في القرية الكونية التي تحيط به - مؤرق بمسؤوليته عن مواجهة التخلف الذي لا يزال قائماً في مجتمعه، والذي فرض عليه التصدي لمشكلاته والبحث عن حلول جذرية لأوضاع متقادمة، لا علاقة لها بإيقاع العصر الذي نلهب في متابعة تغيراته". هذا هو ملمح أولي من ملامح مأزق المثقف العربي الذي يرصده الناقد المصري العربي الكبير جابر عصفور، في "مفتتح" كتابه الجديد "أوراق ثقافية: ثقافة المستقبل ومستقبل الثقافة"، الصادر أخيراً عن "المركز المصري العربي" في القاهرة. وبين "وعي التقدم" و"وعي التخلف" ينقسم المثقف العربي على نفسه: ففي حين تفرض المسؤولية الأولى عليه أن يتفاعل مع قضايا التقدم العالمي، فإن المسؤولية الثانية تفرض عليه - في الوقت ذاته - أن يبحث عن حلول أكثر جذرية لقضايا التخلف التي تحيط به، معانياً ما لا يعانيه قرينه مثقف العالم المتقدم من ألوان القمع السياسي وأشكال التطرف الديني وضغوط الأزمات الاقتصادية والجمود الاجتماعي. على هذه الأرضية من "انقسام ذات المثقف" العربي تتحرك قضايا "ثقافة المستقبل ومستقبل الثقافة" وتتحرك معالجات الكاتب المثقف. ولأن جابر عصفور، الناقد الأدبي، لم يكتف بأن يحصر نفسه في "أدبية" النقد، متغافلاً عن "ثقافيته" الأوسع، التي تحتاج اليها مجتمعاتنا العربية الراهنة بصفتها مجتمعات غير ناهضة، فقد اختار أن يناقش مجموعة من القضايا الكبيرة والمشكلات الشاملة، سواء منها ما تعلق بمعوقات تطورنا الحضاري العربي وعي التخلف أو ما تعلق بإيقاع التطور العالمي المذهل وعي التقدم أو ما يتعلق بما يخلفه الاحتكاك بين التخلف والتقدم من تراجيديا: دامية أو خصيبة، كأنه يسعى - كمثقف عربي - إلى رأب انقسامه بين الوعيين. يقيم جابر عصفور مقالات هذا الكتاب - وغيره من كتب ودراسات سابقة - على ضرورة "المساءلة": مساءلة النفس والغير، ومساءلة الماضي والحاضر والمستقبل. وعليه، لم يعد ممكناً للمثقف العربي أن يظل منكفئاً على مقولاته القديمة كالنعامة التي تدفن رأسها في الرمل عند الخطر. وعليه، كذلك، تنبع أهمية الوعي النقدي الذي هو قرين فعل المساءلة الذي يتحرر من الثوابت الجامدة والعدسات المعتمة. ومن هنا، فإن الكاتب صاحب "قراءة التراث النقدي" يقدم لنا تفريقاً ناصعاً بين ثقافة التجدد وثقافة التجمد، منطلقاً من أن الثقافة كالواقع الاجتماعي الاقتصادي، الذي تجسده بالقدر الذي يصوغها، كيان لا ينطوي على التجانس، ويعكس بقدر ما يوازي أو يجسد الحركة غير المتجانسة لعناصر الواقع الفاعلة والمنفعلة في زمنها التاريخي الذي لا يمكن ان يكون زمناً مطلقاً للتحول والتغير، أو زمناً مطلقاً للثبات والجمود. الحاسم، إذاً، هو الصفة الغالبة أو القيمة المهيمنة، او العلاقة المحركة. وعلى ذلك، فإن ثقافة التجدد هي التي تصنع حاضرها من منظور مستقبلها، فيما ثقافة التجمد هي التي تتصور مستقبلها بصفته استعادة لعصر ذهبي، كما لو كان غدها احياء لأمسها الذاهب، حيث يغدو المستقبل ماضياً والماضي مستقبلاً. في ثقافة التجمد، فإن الوعي الثقافي العام وعي ماضوي تقليدي، أصولي، نقلي، استرجاعي يحاول أن يشد الحياة الى الوراء نافراً من الرؤى التي تشغل نفسها بسؤال المستقبل، وأداة هذا الوعي الماضوي في المعرفة هي "النقل" الذي يعني الغاء "العقل". وفي ثقافة التجدد فإن الوعي الثقافي العام وعي مستقبلي استشرافي، يقيس على الحاضر في حركته الى المستقبل. وأداة هذا الوعي المستقبلي في المعرفة هي "العقل" الذي يدرك أهمية العلم في التقدم الانساني، ويشيع رغبة الكشف التي تظل مرهفة كالسؤال، ومعنى النسبية التي تظل مرفوعة كالشعار. وفي تفريقات حاسمة كهذه، تبرز علامة مائزة في الفصل بين الثقافتين، هي الموقف من الآخر، حيث "تقبل الآخر" عنصر جوهري في ثقافة العقل والتجدد والمستقبل، في سياق من الايمان بالحوار والتسامح والتنوع. بينما "نفي الآخر" عنصر جوهري في ثقافة النقل والتجمد والماضي، في سياق من اليقين بالصواب المطلق والواحدية والاكتفاء المنعزل، على نحو يؤكد "أن تخلف الثقافة هو الوجه الآخر لانغلاق وعيها الذي يستبدل بحق الاختلاف صرامة الاجماع، بالمغايرة حتمية المشابهة، وبالتسامح التعصب". وصحيح أن ناقدنا صاحب "آفاق العصر" قدّم لنا هذه التفريقات الجلية في صورة نظرية صافية، من غير أن يصرح بأن ثقافة التجمد هي ثقافتنا العربية، القديمة والراهنة، لكن يمكننا أن نفهم تفسير ذلك بأمرين: أولاً، هو يريد لقارئه ان يستخلص هذه النتيجة بنفسه، سيما وأن الكاتب يأمل أن تكون فطنة القراءة موازية لفطنة الكتابة، التي تبارح - في غير موضع - تقريرية النقد الجافة لتتماس مع ايحاء الشعر الشفيف، علماً أن ناقدنا يرى أن الزمن ليس زمن الشعر. وهو، ثانياً، لا يريد ذلك الجزم القاطع، لأنه يدرك وهو داعية العقل" النقدي ان الجزم المطلق غير صحيح. فالثقافة الأوروبية، التي ينصرف اليها الذهن ساعة الحديث عن ثقافة التجدد ليست خلواً من نفي الآخر ومن التعصب ومن صعود النقل والواحدية والطغيان ولعل في العدوان على العراق أخيراً مصداقاً دامغاً لحضور عناصر عدة من ثقافة التخلف، كما أن الثقافة العربية ليست خلواً من تقبل الآخر والاستنارة والعقل والتنوع، عبر فئاتها المتجددة وتياراتها العقلانية المنتمية الى التقدم، التي تخوض معاركها الدائمة مع الأنساق الفكرية والاجتماعية المنتمية الى الثبات والماضوية والتوحش. أي زمن نعيش؟ "نحن نعيش زمن الما قبل والما بعد". هذه كانت اجابة جابر عصفور عن سؤال: "أي زمن عربي نعيش؟"، محاولاً فضّ التعارض بين اجابة هاشم صالح التي ترى أن العرب يعيشون زمن ما قبل الحداثة، بحيث يصير غير مجد أن نتحدث عن أفكار ليوتار وديريدا وفوكو بينما كل شيء حولنا تسوده نزعة بطريركية قبلية، ويهيمن عليه الاستبداد السياسي وتغمره موجات الفكر الخرافي والرجعي، وبين اجابة سيد ياسين التي ترى أننا نعيش في زمن ما بعد الحداثة شئنا أم أبينا وأن منهجيات ما بعد الحداثة تخصنا مثلما تخص الانسان الغربي. ولأن جابر عصفور صاحب "هوامش على دفتر التنوير" لا يميل الى الاجابات الواحدية التبسيطية المريحة، فقد تساءل: هل نستطيع أن نبعد عن أذهاننا ونحن نتحدث عن الزمن الذي نعيشه، أولئك الذين قتلوا الأبرياء في الأقصر باسم الاسلام، وفرقوا بين نصر حامد ابو زيد وزوجته باسم الدفاع عن العقيدة؟ وهل سقطت الانساق الشمولية المغلقة - كما تقول ما بعد الحداثة - أم أنها تزداد شمولاً وانغلاقاً وتسلطاً وتخلفاً في أوطاننا العربية؟ زمننا العربي، إذاً، هو زمن أزمة تختلط فيه أزمنة الرؤى المتولدة عن الأزمة والباحثة عن حل لها، زمن يجاور ما بين أقصى مظاهر التقدم وأقسى درجات التخلف. خصوصيته ماثلة في المتعارضات المتصادمة أفقياً ورأسياً في أبنية الثقافة والمجتمع والاقتصاد والدولة بكل مسمياتها العربية. "لا أريد لبيتي ان تحيط به الأسوار من كل جانب الى أن تسد نوافذه، وإنما أريد بيتاً تهب عليه بحرية رياح ثقافات الدنيا بأسرها، لكن من دون ان تقتلعني احداها من الأرض". هذه هي جملة غاندي العميقة التي استعان بها جابر عصفور صاحب "مفهوم الشعر" في حديثه عن "العولمة والهوية الثقافية" وفي اجابته عن سؤال: كيف نواجه العولمة؟ وفي حواره الجاد مع "حوار الحضارات": اذا كانت "العولمة" تنحو الى تأكيد العام الذي يقلل من أهمية الخاص، وتضع قيمها الثقافية الكونية موضع الصدارة بالقياس الى قيم الثقافات الوطنية أو القومية. فإن ذلك يطرح إشكال الخصوصية ويفرض سؤال الهوية في علاقتها بمتغيرات العولمة. وهو ما يستلزم تجاوز المكرور من الاجابات التي لم تعد صالحة، كما يستلزم شجاعة الخيال الذي يكتشف خرائط عقلية جديدة. شرط ذلك كله، عند عصفور، النظرة العقلانية الموضوعية التي تضع "العولمة" في سياقها العالمي الذي يواجهها بما ينقضها ويكشف عن تخييلاتها في البلدان التي انبثقت منها لتغزو الكوكب الأرضي. ثمة، في هذا السياق، ضرورتان: الأولى هي الإيمان "بالتنوع الخلاق" الذي يؤكد العلاقات المتكافئة بين الأمم والثقافات، اقتصادياً وسياسياً ومعرفياً، على النحو الذي يضفي على "الاعتماد المتبادل" أحد شعارات العولمة معنى يناقض التبعية، الأمر الذي يواجه هيمنة العولمة بنوع معارض من القيم التي تنقض المركزية والتسلط، وتتصدى لإمكانات "الامركة" السياسية التي تصاحب بعض توجهات العولمة. والثانية هي وجوب نقد "الهوية"، بالصراحة أو الشجاعة نفسها التي يتوجب بها نقد العولمة، انطلاقاً من الايمان الصحي بأن الهوية ليست كياناً دائم الثبات، متأبياً على التغير، معانداً التطور أو التحول، ذلك ان نقد العولمة مفتاح الخروج من التبعية، ونقد الهوية مفتاح الخروج من الاتباع. في هذا الضوء يبني جابر عصفور صاحب كتاب "ضد التعصب" رؤيته الشاملة التي ترى أن التنوع البشري الخلاق هو الأساس العادل الذي يجب أن ينهض عليه "حوار الحضارات"، لأنه يشكل نقيضاً كاشفاً لنزعتين اصوليتين متزمتتين: نزعة الأصولية اللاهوتية المنغلقة على ذاتها، المعتدة بنقاء أصلها الموهوم وتميزها المطلق، ونزعة العالمية التي تتحدث عن وحدة العالم كله، لكن من خلال مركز مهيمن هو الأعلى. في النزعة الاولى أصولية دينية تتخفى تحت ستار الاسلام، تستبدل التعصب بالتسامح، ووحدة الاجماع بوحدة التنوع، وبالديكتاتورية السياسية السائدة في العالم الثالث، ديكتاتورية جديدة تبرر نفسها بتأويل ديني. وفي النزعة الثانية أصولية تنهض على المركزية الأوروبية - الاميركية. ولعل ذلك ما جعل البعض يتحدث عن "صدام الاصوليات" أو "صدام الحضارات"، مثل فوكوياما وهينتغنتون وطارق علي وإدوار سعيد وغيرهم من مفكرين. من هنا، فإن عصفور يفضح الاصوليتين معاً: الدينية التي تسترجع أبشع لحظات تراثها التأويلي العنصري المنغلق، والامبراطورية العولمية المدججة المتوحشة، التي اكتوى بنارها المسلمون في العواصم الاسلامية العربية، وتساقط منهم آلاف الضحايا، قبل ان تمتد الأصولية الدينية بعدوانها البشع على برجي مركز التجارة العالمي، متحدية الدولة التي تحالفت معها من قبل أميركا واستعانت بها للقضاء على ما سمته "الخطر الشيوعي في العالم الاسلامي". توغّلنا في المساحة ولم تنفد مقالات ذلك الكتاب القيم، فلنتوقف، ولنقفز الى سَوق ثلاث ملحوظات موجزة مستجيبين فيها لدعوة جابر عصفور الى ضرورة المساءلة: الأولى: هل يطابق كاتبنا بين "المثقف" و"المستنير أو الثوري"؟ فالشاهد ان تصويره لمحنة المثقف المنقسم بين "وعي التخلف" في وطنه "و"وعي التقدم" في الخارج، إنما ينطبق فحسب على المثقف المستنير أو الثوري، ولا ينطبق مثلاً على مثقف السلطة الذي يزين الواقع السياسي والاجتماعي، ولا على مثقف التطرف الديني الذي هو أحد منتجي "التخلف" وأحد مُنكري "التقدم". الثانية: هل يغيب "العدل النقدي" بعض الشيء اذا افرطنا في نقد المقهور النخبة المثقفة والتيارات السياسية وقَتّرنا في نقد القاهر الدولة والنظام السياسي والاستبداد؟ الثالثة: أين موقع "الناس العادية" لن أقول: الجماهير من هذه المآزق والأزمات؟ هل هي منقسمة على ذاتها مثل المثقف، أم هي متوائمة منسجمة؟ أليس "للناس العادية" مكان ونحن نناقش مأزقنا الحضاري المركب؟ "أوراق ثقافية" كتاب ضروري لكاتب ضروري يصدر في لحظة ضرورية، ودليلي هو أن مقالات الكاتب كُتبت على مدار سنواتنا العربية المنفجرة الأخيرة: بعد التدمير الاميركي الأول للعراق 1991، بل وبعد ايلول سبتمبر 2001، وقبل وأثناء التدمير الاميركي الثاني للعراق ونظامه وتراثه 2003. ويغلب على تقديري ان العرب لو قرأوا مقالات هذا الكتاب قبل أو بعد أي كارثة من هاتيك الكوارث، لوجدوا بعض اجابات أساسية لبعض اسئلة أساسية، أو لوجدوا - على الأقل - بعض صوغ صحيح لبعض اسئلة. وكثيراً ما يُشكل الصوغ الصحيح للسؤال نصف الطريق الى الجواب الصحيح. أما واقعنا المرعبُ الحالي فيدفعنا الى القول: لا ثقافة للمستقبل ولا مستقبل للثقافة. مع الاعتذار لهذا الكتاب الجريء ولهذا الكاتب الجريء، الذي ما برح يعلمنا الثقة في الثقافة والثقة في المستقبل.