«لخولة أطلال ببرقة ثهمد / تلوح كباقي الوشم في ظاهر اليد». هذا هو مطلع معلقة طرفة بن العبد التي كان جابر عصفور يدرسنا اياها في حصة الأدب العربي، نحن طلاب السنة الأولى في كلية الآداب - جامعة القاهرة عام 1970. ولا تزال ترن في سمعي - بعد هذه العقود الطويلة – نبرات صوته الناصعة القوية، بلكنتها الفريدة التي ميزت أهل مدينة المحلة الكبرى، في قلب دلتا مصر. كان الرجل حينذاك معيداً في الكلية، حاصلاً على الماجستير قبل عام، ويعد للدكتوراه التي حصل عليها بعد ثلاثة أعوام (1973) في موضوع «الصورة الفنية في التراث النقدي والبلاغي»، وقد صدرت مطبوعة عام 1974. وبين تلك اللحظات البعيدة واللحظة التي فاز فيها جابر عصفور بجائزة الدولة التقديرية، قبل أيام قليلة، سنوات طويلة من الجد والكدح والإنتاج والإسهام المرموق. لقد تأخرت عليه الجائزة التقديرية طويلاً، بسبب موقعه في قيادة المجلس الأعلى للثقافة، الذي هو الهيئة التي تنظم جوائز الدولة وتعلنها. وما إن ترك المجلس أخيراً حتى هرولت إليه الجائزة التقديرية. ملمحان رئيسان في جابر عصفور: الأول هو الناقد، والثاني هو المنشِّط الثقافي (بعمله في قيادة المجلس الأعلى للثقافة). وهنا، سأخصص حديثي عن الملمح الأول: الناقد. لعل الاسهام النقدي البارز لجابر عصفور ينهض على خمسة أركان أساسية: الأول: هو خيط من الرؤية الماركسية للنقد. فناقدنا استوعب جيداً ما سمي في مرحلة من المراحل «علم الجمال الماركسي». لكن المنظور الماركسي للنقد عند عصفور متخلص من «الدوغما» العنيفة التي روّجها نقاد كثيرون، في صورة جافة متعسفة سماها أصحابها «الواقعية الاشتراكية». منظور عصفور أرحب وأكثر سعة من هذا الفهم الحديدي الذي يعلي من «البطل الايجابي» ويدين اليأس أو القنوط في الأدب، ويبحث عن «الفجر المشرق المقبل» في كل معنى أدبي. إن منظوره أقرب إلى منظور روجيه غارودي في «ماركسية القرن العشرين» الذي أدخل تحت إهاب الواقعية الاشتراكية كتّاباً مثل سان جون بيرس وكافكا ورسامين مثل بيكاسو، وهو الأقرب كذلك إلى منظور تيري ايغلتون الذي لا يحتقر الشكل الفني فيراه مجرد حامل للمضمون، بل يعلي من شأن الشكل الفني حتى يراه - هو ذاته - نوعاً من الأيديولوجيا أو المضمون أو الفكر. وتجلى ذلك في ترجمة كتاب «الماركسية والنقد الأدبي». وقد شن عصفور - من خلال هذا المنظور الرحب للفهم الماركسي للأدب - هجمات ضارية على «النقد الاشتراكي» الضيق، الذي رأى أنه زدانوفي (بائد) وفلول من بقايا النظرة الستالينية للحياة والفكر والمجتمع. الثاني: هو الخيط البنيوي، إذ اهتم ناقدنا بهذا الفكر وبأعلامه الكبار ومدارسه المتنوعة (شتراوس، ألتوسير، ريكور، جاك لاكان، رولان بارت، ميشيل فوكو). فقدم للحياة الثقافية ترجمته الرائدة لكتاب «عصر البنيوية» (1985) تأليف إديث كريزويل، متعرضاً لشتراوس أبي البنيوية، وللصلة بين الماركسية والبنيوية وبين التأويل والبنيوية، وللتحليل النفسي البنيوي، والعلاقة بين البنيوية والمعرفة. لكن ناقدنا في اتخاذه هذا الخيط البنيوي جزءاً من نسيج عمله النقدي كان يقظاً للثغرات الكبرى التي تكتنف هذه البنيوية (مما أشارت إليه كاتبة الكتاب) من مثل تحول البنيوية نفسها إلى «أيديولوجيا» لتصبح بمثابة وعي تبريري أتاح لمعتنقيه تجنب مواجهة المشكلات السياسية الحاسمة وشغلهم بالبحث عن أبنية كلية عميقة تكشف عن ميتافيزيقا خالصة. ومن مثل أنها تتيح لأتباعها فراراً فكرياً في مواجهة النظريتين السابقتين: الوجودية، والماركسية، ومن مثل: تحولها هي نفسها إلى نزعة متعالية تلغي التاريخ وتغترب بالإنسان في سجون «النسق» أو «البنية» أو «النظام». استفاد جابر عصفور من البنيوية في جوهرها الإيجابي بصفتها «محاولة منهجية للكشف عن الأبنية الكلية، العميقة التي تتجلى في أنظمة القرابة والأنسبة الاجتماعية الكبرى وغيرها من الآفاق التي تحرك السلوك الإنساني»، لكنه ذوبها في عمله هو: عمل الناقد الذي يكشف عن سياقات النص الداخلية، وعن السياقات المحيطة (اجتماعياً وثقافياً وجمالياً) التي أنتجت النص نفسه، في جدلية مضفورة واحدة. وأظن أن الأساس الواسع السابق من خيط علم الجمال الماركسي، في صورته المرنة الرحبة، هو الذي جعل ناقدنا يستفيد من هذا المنهج البنيوي الجوهري الكاشف من دون أن يقع في «النسق البنيوي المغلق»، كما أظن أن استفادته من المنهج البنيوي الكاشف للأبنية الكلية العميقة للنشاط الإنساني كانت أحد العوامل التي أفضت بناقدنا إلى الاتجاه للنقد الثقافي. الثالث: إذاً، هو «خيط النقد الثقافي» الذي يقوم على «فحص النص» وفحص «تاريخ أو تاريخية النص»، وفحص «السياق» الاجتماعي والفلسفي والطبقي والثقافي الذي يتحرك فيه النص. وهو النقد الذي يستمد وجوده من «الأواني المستطرقة» بين علم الجمال وعلم التاريخ وعلم الأنثروبولوجيا وعلم اجتماع الأدب. ومن البديهي أن يكون اتجاه عصفور إلى النقد الثقافي نتيجة للتمازج الحي بين أرضية علم الجمال الماركسي الواسعة السابقة وبين الجوهر المفيد الصحي للبنيوية الكاشفة عن الأنساق الكلية من ناحية، ونتيجة لاستهدائه بعميد الأدب العربي طه حسين الذي قدم محاولات مبكرة في هذا السبيل حين نظر الى النص في إطار البيئة الاجتماعية والثقافية والنفسية المحيطة بالنص وصاحب النص، من ناحية ثانية. ومعروف أن عصفور قدم دراسة ضافية عن طه حسين في كتاب «المرايا المتجاورة»، ونتيجة للنظرة الشمولية للنقد عند عصفور التي رافقته منذ البدء، وهي النظرة التي سعت إلى تجاوز الأحاديات النقدية السابقة والراهنة: أحادية النظر المغلق إلى النص وحده، وأحادية النظر إلى المبدع وحده، وأحادية النظر المغلق الى الواقع المحيط وحده، من ناحية أخيرة. الرابع: هو وضع القدمين راسختين في التراث النقدي العربي، ليكون أرضاً تأسيسية لكل ما سبق «الرؤية التقدمية في الأدب، الاستهلام البنيوي، النقد الثقافي الشامل»، حتى لا تكون هذه العناصر الثلاثة السابقة معلقة في هواء المطلق. على أن وقفة عصفور على أرض التراث النقدي لم تكن وقفة «الاندراج» في التراث القديم، التي ترى أن كل شيء قد تم في الماضي وأن الزمن الجميل هو الذي فات، كما لم تكن وقفة «الانخلاع» عن ذلك التراث، التي ترى أن كل ماض تخلف منها وعقم وخراب. كان منظور ناقدنا في الموقف من التراث، إذاً، منظوراً «نقدياً» لا ينزلق إلى «اغتراب» الغرق الكلي في الماضوية، ولا ينزلق إلى «اغتراب» نفي الماضي نفياً عدمياً. مدار هذه النظرة الناقدة هو إضاءة الجوانب الحية العقلانية الدافعة الى الأمام من التراث وتنحية أو نقد أو نقض الجوانب المتكلسة السلفية المعيقة فيه (هكذا فعل عصفور في: الصورة الفنية، مفهوم الشعر، قراءة التراث النقدي، استعادة الماضي، ذاكرة للشعر). الخامس: هو مد النظر إلى تحولات او تغيرات العصر، ليكون أرضاً تأسيسية أخرى لكل ما سبق (الرؤية التقدمية في النقد، الاستلهام البنيوي، النقد الثقافي الشامل، أرضية التراث العربي)، فإذا كان الوقوف «النقدي» على أرضية التراث القديم ضرورة الناقد الأصيل، فإن مواكبة حداثة العصر - بنظرياته المتحركة المتجددة - ضرورة كذلك للناقد الذي يريد أن يكون ابن لحظته التاريخية (يتجلى ذلك في كتب مثل: النظرية الأدبية العاصرة، الخيال الأسلوب الحداثة، نظريات معاصرة، رؤى العالم). إن هذه الأركان الخمسة التي يقوم عليها المسعى النقدي لجابر عصفور، هي أركان متصلة متواصلة متجادلة، لا متفاصلة متفرقة متبعثرة. إن كل ركن من هذه الأركان الخمسة يمكن أن يصنع «ناقداً» جيداً، لكن حضور هذه الأركان الخمسة مجتمعة متجادلة متكاملة هو ما يصنع الناقد الذي نعده علامة فارقة. هنا أريد أن أشير الى ثلاث إشارات سريعة: 1- إن التجوال النقدي لعصفور في التراث العربي، كشف له – ولنا – «تيمة» السجال والصراع في هذا التراث القديم بين بلاغتين: بلاغة القامعين وبلاغة المقموعين. تتصف بلاغة القامعين بالاستعلاء وسيادة الأوامر والنواهي واستخدام اللغة السمادية في إخضاع الآخرين، والاكتفاء بالذات، والخطاب الجمعي، والفخامة، والمطلقات، وتتصف «بلاغة المقموعين» بسيادة الأسئلة واستخدام لغة الأرض والمعاش والحياة الجارية، وبالرمز والتقية والثورية والحكائية وإعمال العقل وإعادة النظر في المسلّمات. 2- إن اتجاه عصفور إلى الكتابات الفكرية التنويرية راجع الى روحه المتفاعلة التي لم تكتف بدور الناقد الأدبي، بل رأت توسيع دائرة التأثير والفعل الى الفكر والحياة والمجتمع «وهذا هو الروح الجامعي الحق، الذي أدته الجامعة المصرية في عقود سابقة حيث لم يقتصر دورها على العملية التعليمية فحسب، بل بسطته إلى المساهمة في تطوير المجتمع. وراجع الى أن اهتمامه بالناقد الثقافي الشامل أفضى به – كبوابة طبيعية – إلى ضرورة الإسهام الفكري التنويري، من حيث إدراكه أن النص «واقعة» أدبية تقع ضمن سياق أشمل منها اجتماعياً وتاريخياً وجغرافياً، وراجع إلى عمله في قيادة المجلس الأعلى للثقافة في بداية تسعينات القرن العشرين، وهو العمل الذي زج به واقعياً وميدانياً في خضم حركة الثقافة العربية الموارة والمنقسمة بين التخلف والتقدم، فكان عليه أن يضيف دور «المثقف» – بكسر القاف المشددة – إلى دور «المثقف» – بفتح القاف المشددة – إلى جهده النظري والتطبيقي (يتجلى ذلك في أعمال: هوامش على دفتر التنوير، أنوار العقل، ضد التعصب، مواجهة الإرهاب، مقالات غاضبة، جامعة دينها العلم، نقد ثقافة التخلف). 3- في حياتنا العربية استبدادان: استبداد باسم الدين، واستبداد باسم السلطة السياسية، وقد درج بعض المثقفين على الاقتصار على نقد استبداد السلطة السياسية تحاشياً لعسف الجماعات الدينية، ودرج بعض المثقفين الآخرين على الاقتصار على نقد قمع الجماعات الدينية المتطرفة تحاشياً لعسف السلطة السياسية، نفر قليل قليل من المثقفين هو الذي نقد الاستبدادين معاً، وناقدنا من هذا النفر القليل. 4- لقد فضح عصفور – كما فعل هذا النفر القليل – «القنطرة» الخفية حيناً والمعلنة حيناً، بين الاستبدادين، فالاستبداد السياسي يتقوى بالاستبداد باسم الدين، والاستبداد باسم الدين يتقوى بالاستبداد السياسي، كما أوضح الكواكبي في «طبائع الاستبداد»، فكأن هناك حلفاً – ضمنياً أو صريحاً – بين «الدولة التسلطية»، و«الجماعة الدينية التسلطية»، وما قد يظهر على السطح أحياناً من خلافات أو نزاعات بين التسلطين ليس سوى نزاع على الملكية: ملكية الناس باسم أمن الوطن، أو ملكية الناس باسم أمن السماء. سنتغاضى – ونحن نهنئ جابر عصفور بجائزة الدولة التقديرية – عن خذلانه للشعراء وهو يعلن ويروج نظريته القائلة ان الزمن هو «زمن الرواية»، وعن قوله ان ليس في مصر شعراء بعد أمل دنقل، ونقول له: «اللي تشوفه يا جميل»! * شاعر مصري