كما فرضت العولمة حضورها وهيمنتها الاقتصادية والصناعية والسياسية على كوكب الأرض , مهددة الدولة الوطنية , أيضا فرضت العولمة قسرا حضورها وهيمنتها الثقافية والمعرفية بوسائل عديدة ووسائط متعددة, وأحكمت سيطرتها متنوعة الجوانب والأبعاد على العالم كله. وكان من الطبيعي أن تؤدى العولمة إلى نقائضها, فظهرت الأصوليات القومية والدينية والعرقية التى تقاوم الصفات الوحشية للعولمة. في مواجهة ذلك النمط الثقافي الذي تسعى العولمة إلى فرضه على شعوب كوكب الأرض , ظهرت الدعوة لنقض هذا النمط الثقافي الأوحد ومواجهته بنمط ثقافي مضاد يقوم على التنوع الخلاق الذي يحترم الخصوصيات الثقافية والهويات الحضارية. في كتابه " النقد الأدبي والهوية الثقافية " يطرح الدكتور جابر عصفور تصورا مفاده أن طريق التنوع الثقافي الخلاق هو السبيل الواعد للخروج من بين شقي الرحى: العولمة الوحشية والأصوليات المناقضة لها. ثم المضي في طريق واعد للإنسانية التى أصبح من الحتمي على مثقفي العالم الثالث أن يعيدوا طرح الأسئلة الجذرية عن الهوية الثقافية والغزو الثقافى والاستشراق والاستغراب ومفهوم الثقافة الوطنية وعالمية الأدب. يؤكد الدكتور عصفور أن معنى الخطابات النقدية التى أدت إلى تقويض نزعة عالمية الأدب لا يكتمل إلا بوصلها بخطاب التنوع الخلاقالذي يؤسس لعالمية مغايرة, عالمية تؤكد الاختلاف والتباين والتعدد وتتيح للبشرية كلها امكانات لا حد لها من الثراء الابداعى الذي يتمثل في أعمال إبداعية تنطلق من كل قطر بلا حواجز أو قيود ويستقبلها كل قطر بلا تحيز مسبق أو تعصب مركزي, واصلة الخاص بالعام, كاشفة في المحلي عن جذره الانسانى, صاعدة إلى العالمي بوساطة الغوص عميقاً فى المشكلات النوعية للقطري. فى رأى المؤلف أن هناك درساً بالغ الأهمية يمكن أن نتعلمه في الخطابات النقدية التى أدت إلى تقويض نزعة عالمية الأدب سواء في علاقاتها بنزعة المركزية الأوربية القديمة أو نزعة العولمة المعاصرة ويتلخص هذا الدرس في أن القضاء على هيمنة الآخر والتخلص من التبعية له لا يعنى رفضه دون دراسة عميقة ولا يعنى الهرب من سطوته بالتقوقع في الذات والانغلاق على ما يسمى بالهوية الثقافية الوطنية بمعناها العصابى فكلا الأمرين لا يؤدى إلى تعميق هوة التبعية لهذا الآخر والغوص فى شباكه حتى تحت زعم البعد عنه والرفض المطلق له. إن الخلاص من الهيمنة يبدأ بمواجهة مصدرها والكشف عن الآليات التى يستخدمها الآخر المهيمن في الإبقاء على التبعية موصولة بالإتباع. والمواجهة كالكشف تبدأ بوضع الانساق الفكرية المضادة موضع المساءلة التى لا تختزلها في صفة واحدة أو بعد واحد والتي تمتلك القدرة على التحليل النافذ وإعادة تركيب العلاقات التى تضيء معنى الظاهرة التى لا يمتلكها العقل إلا بفهمها عميقاً على اعتبار أن الفهم تملك للمفهوم وسيطرة علية على حد قول الناقد الراحل " محمد مندور" ويضيف الدكتور عصفور أن جذرية المساءلة فى هذا النوع من المواجهة لا تقتصر على الآخر الذي يغدو موضوعا لها وإنما لابد أن تمتد إلى" الذات" التى يجب أن تغدوا بدورها موضوعاً للمساءلة بالقدر نفسه , ويعنى ذلك وضع قضايا الهوية الثقافية وميراث الثقافة الوطنية فضلاً عن حاضرها موضع المساءلة التى لا تتعصب بما يعميها عن إدراك ما يمكن أن يعيبها ولا تنفى التاريخ الذي تتكون به مراحل الهوية سواء فى بعدها عن الثبات المطلق أو تصارع تياراتها أو تباين مكوناتها الذي لا يقل عن تباين مكونات ميراث الثقافة الوطنية الذي ليس ميراثاً وحيد البعد بأي حال من الأحوال. فى تصور مؤلف كتاب " النقد الادبى والهوية الثقافية" أيضا أن ذلك الموقف المعرفي الجذري لابد أن يفرض نفسه علينا أو ننطلق من الوعي به ونحن نناقش قضية الأدب والعالمية وذلك أمر يفضى فيما يرى إلى ترابطات عديدة منها حتمية النظر إلى موضوع عالمية الأدب فى سياق تحولات العالم الأخيرة على اعتبار ان أدب المركز الأوروبي الامريكى نفسه لم يعد على ما كان عليه من قبل , خصوصاً بعد ان تعددت أصواته وجاور بين المهجرين والمولدين والأصليين وبعد ان زاحمته فى التأثير الهوامش التى فرضت نفسها عليه وفى موازاتة ولولا ذلك ما استطاع الأدب العربى أخيرا ومنذ حصول نجيب محفوظ على نوبل سنة 1988 أن يحفر لنفسه ثغرة فى جدار أدب العالم الذى ظل صلداً غير قابل للاختراق طوال عقود طويلة . ويختتم الدكتور جابر عصفور كتابه بقوله : واحسبني فى حاجة إلى تكرار القول بأننا لن نكون طرفا فاعلاً فى هذا العالم الجديد إلا أذا اقتحمناه بوعينا النقدي الذى لا يتردد فى مساءلة نفسه قبل غيرة مدركاً أن مبدأ المشابهة لا معنى له إلا في أطار مبدأ الاختلاف وأن لا احد يستطيع أن يفرض نفسه على غيره أو يفتح أبوابه المغلقة إلا أذا كان لديه حقاً ما يضيفه إلى هذا الغير وما يسهم في تحريره من شروط الضرورة ووخم الآلفة والعادة وحذر الاستنامة إلى ثبات الفكر أيا كان هذا الفكر.