لا معنى لشجاعة الخيال التي تستلزمها مواجهة العولمة بعيدا عن النظرة العقلانية الموضوعية التي تضع "العولمة" في سياقها العالمي الذي يواجهها بما ينقضها ويكشف عن تخييلاتها في البلدان التي انبثقت منها لتغزو الكوكب الأرضي كله. ولعل أهم هذه النقائض الاتجاه الذي تتبناه دول العالم الثالث وتدعمه داخل الأممالمتحدة تعميما، وداخل اليونسكو تخصيصا، وهو الاتجاه الذي وجد صياغته الواعدة في تقرير اللجنة العالمية للثقافة والتنمية الذي أصدرته الأممالمتحدة منذ ثلاثة أعوام بعنوان "تنوعنا الخلاّق" تحت إشراف الأمين العام الأسبق للأمم المتحدة خافيير بيريز ديكوييار. وهو التقرير الذي قام بترجمته المجلس الأعلى للثقافة في مصر ضمن المشروع القومي للترجمة، وصدر منذ أشهر معدودة في القاهرة، تأكيداً للأخطار التي تهدد التنوع البشري الخلاّق، وإبرازاً لتحديات العولمة التي تتطلب تحالفات جديدة. وربما كان أبرز ما تؤكده نزعة التنوع الخلاق التي ينطوي عليها ذلك التقرير احترام الهويات الثقافية للشعوب، ومراعاة خصوصية كل تجربة تاريخية من دون محاباة لتجربة على حساب غيرها، والتخلي عن مركزية النظرة أو أحادية التوجه، والإيمان بالحوار بين القوميات والمعتقدات والمذاهب والأنظمة والأفكار على أساس من قيمة التسامح واحترام حق الاختلاف. ومن هذا المنطلق فإن نزعة التنوع الخلاق تؤكد العلاقات المتكافئة بين الأمم والثقافات، اقتصاديا وسياسيا ومعرفيا، وذلك من المنظور الذي يضفي على الاعتماد المتبادل معنى يناقض المعاني القديمة للتبعية والاتباع، ويضيف دلالة جديدة إلى مفاهيم الاستقلال التي تتأكد بالتفاعل بين الحضارات والثقافات والدول لمواجهة المشكلات العالمية التي لا يقدر قطر واحد على حلها دون غيره. ويترتب على ذلك الإسهام في تأصيل نوع واعد من الأخلاق الإنسانية التي تجمع بين الشعوب بعيدا عن احتمالات الاستغلال والتمييز، والبحث عن إمكانات تأصيل الأبعاد المدنية للمجتمعات المختلفة بما يؤكد التفاعل لا الصراع، والتسامح لا التعصب. وأحسب أن هذه النزعة تواجه هيمنة العولمة بنوع معارض من القيم التي تنقض المركزية والتسلط بكل أشكالهما، وتتصدى لإمكانات "الأمركة" السياسية التي تصاحب بعض توجهات العولمة بما يؤكد أهمية العلاقة المتكافئة بين الأمم من منظور التنوع الخلاق. وتسعى إلى أن تستبدل بالحركة وحيدة الاتجاه لرأسمال الشركات متعدية ومتعددة الجنسية حركة مغايرة من الاعتماد المتبادل الذي ترعاه منظمات دولية لا تسعى إلى زيادة الفقراء فقرا أو الأغنياء غنى. ولا يفارق الوعي بهذه النزعة منطق المساءلة الذي يضع لوازم العولمة موضع البحث، كاشفا عن إمكاناتها واحتمالاتها المتعارضة، لا من المنظور الذي يرى بعدا واحدا من الظاهرة، وإنما من المنظور الذي يلمح التناقض داخل الظاهرة نفسها، ومن ثم يكشف عن إمكانات أن تنقلب بعض الوسائل على غاياتها الأولية ومقاصدها الاستهلالية، فتؤدي وظائف مغايرة ومناقضة في حالات دالة. ولا شك في أن ثورة المعلومات وتقدم تقنيات الاتصال الملازمة لعمليات العولمة يمكن أن تؤدي إلى نقيض الهيمنة لو تم توظيفها بعيدا عن الاستغلال، ومن ثم إدراكها وإخضاعها لشروط مغايرة من علاقات الاعتماد المتبادل للتنوع البشري الخلاق. ولكن لا يمكن أن يتحقق ذلك إلا بنوع جديد من الوعي الذي يفارق حدِّية النظرة وحيدة البعد، ونوع واعد من العلاقات بين الشعوب التي يجمع بينها رفض التلازم بين العولمة والأمركة. وكلا النوعين يفرض تحديات جديدة في تناول العولمة على مثقفي أقطار العالم الثالث الذي تهدده سلبيات العولمة أكثر من غيره بحكم ظروفه المرتبطة بتاريخ طويل من الاستغلال. وانطلاقاً من هذه التحديات، وإعمالاً للعقل الذي يطرح أسئلة جديدة بدل الركون إلى أجوبة تقليدية، كان انعقاد مؤتمر "العولمة وقضايا الهوية الثقافية" الذي انعقد في القاهرة ما بين الثاني عشر والسادس عشر من نيسان ابريل الماضي، وذلك في سياق مؤتمرات سبقته إلى تناول مشكلات العولمة، وأهمها ف يما أعلم خمسة مؤتمرات متعاقبة في أقل من ثلاثة أعوام، أولها ندوة "اتجاهات عولمة الاقتصاد وأثرها على الشركات والمؤسسات العربية" التي أقامتها المنظمة العربية للتنمية الإدارية في القاهرة أيلول/ سبتمبر 1996 وثانيها مؤتمر "صراع الحضارات أم صراع الثقافات" الذي أقامته منظمة تضامن الشعوب الإفريقية الأسيوية في القاهرة 10 - 12 آذار/ مارس 1997. وبعده، مباشرة، ندوة "التطورات العالمية والتحولات المجتمعية في الوطن العربي" التي أقامها مركز البحوث العربية في القاهرة بالتعاون مع الجمعية العربية لعلم الاجتماع 13 - 15 آذار 1997. ورابعها دورة "العولمة والهوية" التي انتظمت حولها بحوث أكاديمية المملكة المغربية في الرباط أيار/ مايو 1997. وخامسها ندوة مركز دراسات الوحدة العربية في بيروت كانون الأول/ ديسمبر 1997 عن "العرب والعولمة". والدلالة الأولية لإلحاح موضوع العولمة على هذه المؤتمرات المتصاعدة في إيقاعها المتكرر، ولم أذكر منها إلا ما أعرف، هي دلالة لا تفارق توتر الهوية الثقافية إزاء ما تتخيله نقيضا لها، وتشعر بأنه يتضمن معنى التهديد المباشر أو غير المباشر، أو على الأقل يتحدى حضورها الخاص بوضعه في علاقة غير متكافئة مع حضور أعم أكثر غواية وتأثيرا. ولم يكن هدف مؤتمر المجلس الأعلى للثقافة تكرار ما قيل في المؤتمرات أو الندوات السابقة، وإنما تأكيد أهمية الوعي النقدي بنواتج العملية الشاملة للعولمة، ودراسة جوانبها المختلفة دراسة بينية، تقوم موضوعيتها على الحوار المتكافئ بين الاتجاهات والتيارات والأجيال والتخصصات المختلفة التي تجمع بين الباحثين المعنيين بالظاهرة في جوانبها المتباينة. ولم يسع المؤتمر إلى تقديم توصيات أو إجابات نهائية بقدر ما سعى إلى طرح الأسئلة الجديدة المرتبطة بالمتغيرات الجذرية في عالم العولمة الذي نعيشه بالفعل، وفتح الباب على مصراعيه لتعدد الاجتهادات والتخييلات والرؤى، ودفع الأذهان إلى البحث عن تعريفات وصياغات عقلية تساعد في دعم احتمالات خطط تفكير جديد، تفكير يمتلك الشجاعة التي يضع بها قضايا الهوية الثقافية موضع المساءلة بالقدر الذي يضع به ظواهر العولمة وعلاقاتها موضع المساءلة نفسها. ويلزم عن هذا النوع من السعي استخدام القدرة النقدية للوعي الذي لا يتوجه بفعل المساءلة إلى اتجاه واحد بل إلى اتجاهين اثنين في آن، وذلك بقصد مناقشة قضايا العولمة بالصراحة نفسها التي تناقش بها قضايا الهوية. يؤكد ذلك إدراك أن الظاهرة الواحدة في تعقدها وتعدد علاقاتها يمكن أن تتضمن نقيضها أو تفضي إليه، وأن الفارق كبير بين نقد الثقافة الوطنية والتهوين من شأنها. والأمر الأخير بالغ الأهمية في مواجهة بعض الحذرين من دعاة الثقافة الوطنية، أولئك الذين ينتهي بهم الإفراط في الحذر إلى التصلب الذي يؤدي إلى رفض وضع هذه الثقافة موضع المساءلة كما لو كانت كيانا متعاليا لا يقبل النقد. وإزاء الأثر السلبي لإفراط هؤلاء وخوفهم البالغ على الثقافة الوطنية ينبغي أن يؤكد المرء الفارق بين فعل نقد الثقافة الوطنية واتهامها. فعل النقد هو الحركة الجسورة للعقل الذي يضع خطابات الثقافة الوطنية موضع المساءلة في تعددها وتعارضها، وعلى رأسها الخطاب الأصولي التسلطي أيا كان مسماه الذي ينغلق بالثقافة الوطنية على نفسها، وينظر نظرة الأعلى إلى الأدنى لكل ما يغايره، متوهما امتلاك اليقين المطلق: ماركسيا أو قوميا أو دينيا. والخاصية البارزة في هذا الخطاب الأصولي هي خاصية رد الفعل الدفاعي الذي ينقلب إلى عصاب يلوذ فورا بوهم المؤامرة التي يتخيلها تسعى إلى تشويه النقاء الخالص للهوية والنيل منها، فينتهي الأمر بهذا الخطاب إلى الرفض المطلق لكل ما يأتي من خارج الثقافة الوطنية بزعم الدفاع عنها. وإذا كان الوعي النقدي قادرا على أن يضع نفسه موضع المساءلة، كي يحرر نفسه من أوهامه الذاتية، فإنه قادر على نقد خطابات العولمة والتمييز بينها في الوقت الذي ينقد خطابات الثقافة الوطنية ويمايز بينها، تحريرا للهوية الثقافية من احتمالات الاتباع، وتحريرا للواقع من مخاطر التبعية. وإذا كان عنوان مؤتمر "العولمة وقضايا الهوية الثقافية" يضع الخصوصية إزاء العمومية، والهوية القومية في موازاة العولمة من حيث هي نسق شامل من العلاقات الاقتصادية والسياسية والمعرفية المتشابكة، فإن الدافع إلى ذلك لم يكن التسليم المسبق بثنائيات متعادية متصارعة على نحو مطلق، وإنما بحثاً عن الممكنات والاحتمالات والتوقعات، وكشفاً عن التعارضات الواقعة داخل كل طرف من أطراف الثنائية: العولمة/ الهوية. وفي الوقت نفسه، تعريفاً بالعملية التاريخية التي أصبحنا طرفا فيها، وإبرازاً لنتائجها التي أخذت تؤثر فينا، وتسليطا للضوء على ما يؤكد خصوصيتنا الثقافية التي لا تتعارض مع انتمائنا إلى ثقافة العالم الإنسانية كلها. والقصد في ذلك هو تأكيد الهوية الثقافية في موازاة العولمة أو مواجهتها، ولكن بما لا يقصر النقد على العولمة دون الهوية، أو العكس، وبما ينطلق من منظور الإبداع الذاتي الذي يؤسس مقاومتنا لشروط الاتباع التي هي الوجه الفكري من التبعية، كما يؤسس رفضنا لشروط التبعية التي هي المعادل الاقتصادي السياسي للاتباع الفكري. وأتمثل في ذلك ما قاله مفكرون آمنوا بالتنوع البشري الخلاق، من أمثال جاك ديلور الذي ذهب إلى أن العالم قريتنا التي إذا شب الحريق في أحد بيوتها، تعرضت الأسقف التي تظللنا جميعا للخطر، وأنه إذا حاول أحدنا أن يبدأ في إعادة البناء فلا معنى لجهوده بعيدا عن التضامن الذي هو سمة العصر ودافع كل فرد منا على تحمل مسؤوليته العامة. وأتمثل كذلك ما دعا إليه المهاتما غاندي حين قال: لا أريد لبيتي أن تحيط به الأسوار من كل جانب إلى أن تسد نوافذه، وإنما أريد بيتا تهب عليه بحرية تامة رياح ثقافات الدنيا بأسرها، لكن دون أن تقتلعني إحداها من الأرض. وأضيف إليهما ما حلم به كارلوس فوينتس حين قال: أثبتت الرأسمالية والاشتراكية عجزهما المشترك عن إنقاذ أغلبية شعبنا من براثن البؤس... ولذلك فإن السؤال هو: هل هناك حل آخر، حل ينبع داخلنا؟ أليس لدينا من التقاليد والخيال والإمكانات الفكرية ما يمكننا من صياغة نماذج إنمائية خاصة بنا، تتوافق مع ماضينا وحاضرنا وما نتطلع إلى الوصول إليه؟ والشاهد في هذه الأقوال التي أتمثل بها أن الجذور العميقة المفتوحة فروعها على الريح هي أصول هويتنا التي نبدأ من نقدنا لها حوارنا مع التحديات المعاصرة التي تأتي العولمة على رأسها. ويعني ذلك أننا نبدأ من الهوية، لا على سبيل الاتباع أو التقليد وإنما على سبيل الإبداع والابتكار، واضعين إياها موضع المساءلة، سواء في علاقتها بالحركة المتحولة لحاضرنا أو الحركة الممكنة لمستقبلنا. يدفعنا إلى ذلك أننا نبدأ من مساءلتنا إياها تجديدنا لحضورها الذي يفترض أن يكون حضور صيرورة حيوية متواصلة تنطوي على إمكان المناقلة بين المتغيرات والثوابت، ولكن بما يبقي على الأصول المائزة للهوية نفسها ولا يتناقض مع حيوية تجددها أو تغيرها. فالهوية ليست كيانا دائم الثبات، متأبيا على التغير، معاندا التطور أو التحول، وإنما هي في حركتها التي تسمها بالإيجاب حال متجدد من الحضور العلائقي الذي لا ينغلق على نفسه أو يتحجر حول ثوابته. ويحثنا على هذا النوع من مساءلة الهوية الإيمان بالعقل الخلاق الذي يضع نفسه قبل غيره موضع المساءلة، والانحياز إلى المساواة التي لا تعرف التمييز المتعصب بين ثقافات الأمم بعامة أو ثقافات الشمال والجنوب بخاصة. ودليلنا التسامح الذي يؤسس للحوار بين الحضارات. وأملنا أن تنقضي أزمنة التسلط والتمييز وأشكال الاستغلال الجديد، خصوصا بعد أن تعلمت شعوب العالم الثالث الدفاع عن حقوقها في الوجود المتكافيء الذي تؤكده قيم التنوع البشري الخلاق. ويقيننا أنه ما من أمل في سلام البشرية ما ظلت حضارة من الحضارات أو ثقافة من الثقافات أو أمة من الأمم أو جماعة من الجماعات تمارس قهرا سياسياً، أو إرغاماَ فكرياً، أو استغلالاً اقتصادياً، على غيرها من الحضارات أو الثقافات أو الأمم أو الجماعات. فمستقبل البشرية الواعد مرهون بالاحترام المتبادل للاختلاف وتنوع الاجتهادات، والتخلي عن رواسب التمييز العرقي أو التعصب المذهبي، ومواجهة الأشكال العولمية الجديدة من الاستغلال الاقتصادي المرتبط بسطوة رأس المال التي تجاوز الجنسيات والأوطان، وتعصف بحدود الدولة الوطنية واستقلالها. وغير بعيد عن ذلك تأكيد أهمية التسليم بأن إنكار الخصائص الثقافية أو الحضارية لشعب من الشعوب، تحت أي شعار أو مسمى براق، إنما هو نفي لكرامة هذا الشعب وكرامة الإنسانية جمعاء. ويتجسّد الاقتناع العميق بهذه المبادئ في السعي إلى تأكيد عالم واعد بتنوعه الخلاّق وعلاقاته المتكافئة، عالم بشارة مستقبله هي المعرفة الإنسانية التي تعمر بالتسامح، وتتقدم بالتعاون، وترتقي بالاعتماد المتبادل، فلا تعرف الانحياز إلى الشرق أو الغرب، بل الانحياز إلى تقدم الإنسان في كل مكان وحرية العقل في كل ثقافة. وما أشبه تلك المعرفة في معناها الحضاري الذي يجاوز منبعه إلى مصبه بذلك "البرق" الذي تحدث عنه ابن عربي الشاعر الصوفي الأندلسي، في ديوانه "ترجمان الأشواق"، عندما قال منذ ثمانية قرون على الأقل: رأى البرقَ شرقيا فحنَّ إلى الشَّرْق ولَوْ لاَحَ غْربّيِاَ لحَنَّ إلى الغَرْبِ فإنَّ غرامي بالبروقِ َولْمِحها وليسَ غَرَامي بالأَمَاكِن والتُّرْبِ