"بوابة الحرية... بوابة الموت" دار المدى، 2003، هو عنوان المجموعة القصصية الجديدة للكاتب العراقي عبدالإله عبدالقادر، ولعلّه قصد الى اختيار العنوان لأنه يشكل مفتاحاً لولوج معظم قصص المجموعة. ذلك ان الموت وما يتعلق به من مفردات العجز والفراق والوحدة والرحيل والتصحّر والحاجة والفقر والتشرد والشلل والنفي والاعتقال ... هي الحقل المعجمي الذي تفتح عليه "بوابة" عبدالقادر القصصية. كان الكاتب يرصد الجانب المظلم من الواقع بناسه وتحولاته ولحظاته وأحداثه، ويثبت هذا المتحرك الذي يرصد في قصة او اقصوصة. وهذا الجانب يتبدى في شخصيات القصص او احداثها او نهاياتها الفاجعة او فيها مجتمعة، فتعكس القصة او الأقصوصة الظلمة في الشخصية والحدث والنهاية، وتشرع بواباتها على الموت بأسمائه المختلفة. ومن اللافت ان عبدالقادر لا يرى من الكأس سوى نصفها الفارغ. فعالمه المرجعي هو عالم التعساء والبؤساء، الضحايا الذين يتشابهون فيما يختلف الجلاد في كل مرة، فما يعنيه هو فتح بواباته القصصية على المآسي الإنسانية، الفردية غالباً، التي يزخر بها هذا العالم. وهو يفعل ذلك بنوعين من القص إذا صح التعبير: القصة القصيرة التي تبدأ بصفحتين ولا تتعدى بضع صفحات، والأقصوصة التي تشغل بضعة اسطر او صفحة واحدة على ابعد تقدير. يشغل النوع الأول عشرين قصة، والنوع الثاني احدى عشرة قصة من المجموعة، وفي النوعين كليهما يثبت الكاتب قدرة على التكثيف والإيجاز واعتماد لغة قصصية مناسبة، العبارة فيها على قياس المعنى، ليست بالفضفاضة هي ولا بالضيقة. وبمثل هذه اللغة يرسم احلاماً مجهضة وأمنيات موؤودة ونهايات حزينة. وهو بذلك يعيد الى الأدب القصصي وظيفته التطهيرية التي فقدها من زمان، وإذا بنا نتعاطف مع شخصيات المجموعة، نشفق منها او نرثي لها او نحزن عليها. وهكذا، يفتح عبدالقادر القلب على مشاعر انسانية ظننّا انها تبلّدت على الأيام. ففي "موت نخلة عجوز" رجل عجوز ينوء تحت همومه، ويحلم بتزويج ولده، لكن ضيق ذات اليد يحول بينه وبين تحقيق الحلم. ومع هذا، لا يضعف، ويصمد كالنخلة في صحن داره، يتماهى بها فيموت وعيناه مسمّرتان عليها. وفي "باقة الياسمين" لقاء لا يتم. تهرع الحبيبة إلى حبيبها المريض، فتصل بعد فوات الأوان لتضع باقة ياسمين على مخدته الخالية في المستشفى. وهذه القصة ترهص بدايتها بنهايتها، فيكون قلب الحبيبة دليلها، وتتشح بمسحة رومانسية، تطالعنا ايضاً في قصة "الحلم" حيث الشاب المكافح يعود من غربته لتحقيق حلمه في الزواج وبيت الزوجية ليجد فتاة احلامه صورة في اطار ذهبي محدد بشريط اسود. وإذا كان القدر اجهض احلام البطل في هذه القصة، فإن الحرب في "احتراق الياسمين" تتكفل هذه المهمة، فالعريس المنتظر يصل ليجد عروسه مصلوبة على الرصيف وطرحة العرس موشاة بدمها. الانسان والوحدة وإذا كان ابطال القصص السالفة الذكر هم ضحايا الأحلام المجهضة بفعل الحرب او الفقر او القدر، فإن قصصاً اخرى ترصد تأثير الوحدة وفعلها في الإنسان، تلك التي قد يختارها بملء إرادته او تفرض عليه فرضاً. فالرجل الخريفي يقمع الطفل الذي اطل برأسه في داخله، ويؤثر الوحدة على الارتباط بشابة ربيعية، فيغدو وحيداً إلا من رنين هاتفها، كما في "وحدة". والرجل الآخر في "جمرة الظهيرة" يتألّب عليه المكان والزمان ويمتد الزحف الصحراوي إليه بعد ان شمل كل ما حوله إلا انه يعجز عن روحه، فيوصي حفيده بالرقص والغناء من بعده علامة على استمرار الحياة. والمغني الذي ينفضّ عنه الصحب في قصة "المغني"، ويتألب عليه الزمن لا يبقى له سوى عوده يعزف عليه في حانة شعبية، وذات صباح ينال منه غضب الطبيعة، فيسقط مع عوده في حفرة ويموت... غير ان صبيّاً يأخذ العود وتستمر الحياة، وهكذا. وعلى رغم انطواء بعض القصص على الموت، فإن نهاياتها تومئ باستمرار الحياة من خلال حدث صغير يرمز في معناه ودلالته الى هذا الاستمرار. وقد تنفتح بوابات المجموعة على نوع آخر من الضحايا والجلادين، هم ضحايا الفقر والتشرد. ففي "الرغيف الأخير" يموت الفقير المنتظر طويلاً في الطابور تحت شمس لاهبة قبل حصوله على الرغيف. وفي "الرجل الكلب" عجوز قلّ اصدقاؤه حتى كلبٍ يتدفأ به على قارعة الرصيف، وضاق عالمه حتى حدود بطانية كانت حمراء يتكوّر على نفسه تحتها، وحين يموت تغدو البطانية نعشه ولا يبكيه سوى الكلب، وفي "طيارات سوهانوك" يفشل في بيع طائرة ورقية يسد بها رمقه ثم تذهب طائراته ضحية الاحتفال بعيد الماء، ويبني المحتفلون سعادتهم على بؤسه. على ان الفقر قد يتفاقم في بعض القصص ليضع ضحاياه امام خيارات قليلة احلاها مر، كما نجد في "سقوط" التي تقول الصراع بين القيم والحاجة، فتضطر المرأة الى بيع جسدها لتطعم اطفالها، غير ان الثمن البخس الذي تناله يجعل خسارتها مضاعفة، وتكون ضحية مرتين. ومواجهة الخيارات الصعبة تتكرر في "قلق" مع زيادة الخيارات هذه المرة، فيكون على الأرملة الوحيدة في عالم مجنون ومجتمع متوحش ان تختار بين الموت مع اطفالها جوعاً او بيع جسدها او تشغيل ابنها ذي العشر سنوات، وتختار هذا الأخير، غير ان عاطفة الأمومة تتغلب فيها على تأمين لقمة الخبز، فتسارع الى سحبه من العمل غير عابئة برحلة الآلام التي تنتظرها. ونقع في المجموعة على ضحايا للقمع كما في "بوابة الحرية... بوابة الموت"، فالرجل البغدادي الذي تقطّعت به السبل فباع ما يملك وقصد عمان طلباً للعمل والأمان والحرية، يصرف ما بحوزته ويتشرد، وإذا بوابة الحرية بوابة للموت. وفي "المسبحة" يهرب صالح حسون من بلاده خوفاً من الاعتقال تاركاً والديه العجوزين. وإذ يزوّده والده المسبحة التي ورثها عن اجداده، يدرك ضياع ابنه، فضياع المسبحة ضياع صالح، ولا يعود يرى سوى الظلمة التي ابتلعت ابنه. وفي "البحث عن الظلال" الحاجّة صبرية التي فقدت زوجها، تبحث مع ام لعيبي عن ابنها المعتقل، فتتحول بدورها الى مفقودة. إنها حكاية السلطة القمعية التي تخفي معارضيها، فيغدو البحث عنهم بحثاً في الظلال. الى ذلك، ثمة ضحايا للعجز الجسدي كسعيد كامل، الرجل المشلول الغارق في الشراب حتى الموت، فيما اصدقاؤه يغرقون في ملذاتهم ولياليهم الحمر. وهنا، تقوم البنية الفنية للقصة على المفارقة. وحدها قصة "الحمار الذكي" تشذّ عن هذه المناخات المأسوية. إنها قصة خرافية غرائبية، فالحيوانات ترفض سعي المالك لتعليمها القراءة، حين تحقّق له ذلك تنفق جميعها، ويتحول هو الى حمار. فالمقدمات غير الطبيعية تؤدي الى نتائج غير طبيعية. وهذه المناخات الحزينة نفسها تنسحب على الأقاصيص الإحدى عشرة في المجموعة، فتنتهي معظمها بنهايات حزينة، والأقصوصة التي تقع بين بضعة اسطر وصفحة واحدة قد تنطوي على لقطة سريعة او حادثة صغيرة لكنها معبّرة. ولأن المقام لا يتسع لعرض هذه الأقاصيص، فلا بد من وقفة سريعة عند حركة السرد فيها. فبعضها ينطلق من نقطة معينة ويمضي قدماً الى النهاية. وبعضها يبدأ من النهاية/ النتيجة ويعود القهقرى الى البداية/ السبب. والبعض الأخير يسلك مساراً متكسّراً فينطلق من نقطة معينة ثم يعود الى الوراء فإلى الأمام ثانية حتى النهاية.