حين يشتد الحصار على شعب معين فيتناوله في غذائه ودوائه وحليب أطفاله وكل ما له علاقة بالجسد، هل يستطيع أن يقتل فيه الروح، تلك التي لا وجود لها بمعزل عن هذا الجسد؟ وحين يحاصَر المبدعون في كتبهم ودفاترهم وأقلامهم، هل تخبو جمرة الإبداع فيهم أم تزداد توهجاً كلما اشتد الحصار؟ وهل يستطيع المبدع المحاصَر أن ينتج ابداعاً يخترق الأسوار وينتزع الاعتراف به ويمتلك شرعيته وحقه في الحياة؟ راودتني هذه التساؤلات وغيرها، وأنا أقرأ المجموعة القصصية العراقية "حين يحزن الأطفال تسقط الطائرات"، الصادرة حديثاً عن دار عشتار القاهرة في اطار سلسلة "ثقافة ضد الحصار"، في خمس وعشرين قصة لأربعة وعشرين قاصّاً يعيشون داخل السور المضروب على العراق ويحول بينهم وبين العالم الخارجي، فيعكفون على ذواتهم ينقبون فيها عما يخرق السور، وهذا ما يكسب المجموعة أهمية خاصة باعتبارها إطلالة على القصة العراقية المحاصرة، وجسّاً لنبض الإبداع المسوَّر بالقرارات الدولية الجائرة. على أن الحصار قد يكون خارجياً تمليه ارادة خارجية هي تعبير عن موازين القوى القائمة، وقد يكون داخلياً تجسده السلطة أو المجتمع أو المرض أو الفقر. وأيّاً يكن نوعه، لا بد للحصار من أن يترك بصماته على المبدع والإبداع، وهو ما نراه بوضوح في القصص التي بين أيدينا، فكيف ينعكس فيها الحصار على مستوى الشخصيات والأحداث والخطاب القصصي؟ وما هي آثاره المباشرة أو غير المباشرة على قصص المجموعة؟ وللإجابة عن هذين السؤالين نشير الى أن القصص تتوزع على أنواع شتى من القصص القصيرة، غير أنه يمكن الحديث عن نوعين أساسيين يستقطبان المجموعة هما قصة الشخصية، وقصة الحادثة. وفي الأول تتناول القصة شخصية معينة، ترصدها من الخارج أو الداخل أو من الحيزين معاً، وتتوقف عند تفاصيل الشخصية وقسماتها. وهنا، يقتضي القول أن معظم الشخصيات في المجموعة من ضحايا الحصار بأحد شكليه الخارجي أو الداخلي، فهي شخصيات محاصرة، مقموعة. وغالباً ما نجح الكتّاب في اثارة تعاطفنا معها. ويندرج تحت هذا النوع قصص عبدالخالق الركابي، جليل القيسي، عائد خصباك، خضير عبدالامير وجاسم عاصي، حيث يرسم كل من هؤلاء شخصية معينة هي ضحية نوع معين من أنواع الحصار والقمع" فالركابي في قصته "غرف أشجان" يقدم فتاة تقع بين العيون المدققة، المتفحصة، الشبقة، المنتقدة، وبين القيم والعادات والتقاليد المتزمتة. وإذ يضيق الحصار عليها، يصغر عالمها المادي. فتهرب من السوق الى النزل الى الغرفة الى جسدها، وتختلط عندها الحقيقة بالوهم. وهكذا، تقع البطلة بين فكي كماشة" مجتمع متفلّت وأسرة متزمتة، يضغطان عالمها المادي فيصبح مجرد جسد متوارٍ خلف حجاب. وإذا كان الحصار في "غرف أشجان" يختزل العالم المادي للبطلة، فإنه في "صباح الخير يا قلبي" لجليل القيسي يطاول البطل في عالمه النفسي، فنراه، وهو المثقف الناقد، مصاباً بانفصام الشخصية، يتماهى مع أبطال الروايات التي يقرأ، ويمزج بين الواقعي والروائي، بين الحقيقي والخيالي، يهذي، ويعاني اضطراباً في صحته النفسية. وعلى العكس منه بطل "ربيع في منطاد" لعائد خصباك، المصاب بمرض عضوي موسمي مع كل ربيع هو العطاس، ما يؤدي الى ابتعاد الأصدقاء عنه، فيغدو ضحية الطبيعة والناس في آن. وهكذا، فالحصار المباشر في هاتين القصتين هو المرض نفسيّاً كان أو عضويّاً. وما ينهض به المرض هنا، يقوم به الفقر في قصتين أخريين، فتتناول إحداهما، وهي قصة "الشبيه" لخضير عبدالامير، شخصية معقب معاملات من خلال رصد شكله الخارجي وتصرفاته وتحليل شخصيته. وتتناول الأخرى، وهي "إلفه الغوريلا" لجاسم عاصي شخصية رجل مسن يعمل في حديقة حيوانات، فيتقمص دور الغوريلا ويتقنه في سبيل الحصول على لقمة الخبز. ولئن دارت القصص الآنفة حول شخصيات إنسانية مقموعة محاصرة، فإن قصة "السيرة الذاتية للألم" لحسب الله يحيى، تتناول شخصية معنوية هي الألم، القامع، المحاصر. يتحدث القاص عنه وإليه، وفي الحالتين تقدم القصة صورة الفقر والجوع والألم، ولعله أراد الكلام على حالة عامة حين لم يحدّد المتألم. والنوع الثاني الذي يستقطب معظم قصص المجموعة هو قصة الحادثة" والأحداث هنا نوعان: واقعية هي نتيجة مباشرة للواقع القائم وإعادة تشكيل له، وغرائبية لعلّها نتيجة غير مباشرة لهذا الواقع ومحاولة لتجاوزه بواسطة المخيلة التي تجترح الغرائب. وقد تكون الغرابة محاولة لفتح ثغرة في جدار الحصار الذي يمثله الواقع المر. على أن الأحداث بنوعيها الواقعي والغرائبي حزينة سوداوية، والشخصيات التي تفعلها أو تنفعل بها مقموعة" فمن قصة "عين كبيرة لاقطة" للؤي حمزة عباس التي يرسم فيها تفاصيل بائسة حزينة، فيبدو الحدث فيها مجرد مشهد لا يقول شيئاً محدّداً سوى تفاصيل يفيد فيها القاص من تقنية التصوير السينمائي والمشهدية نفسها نقع عليها في قصة "بورتريه" لمهدي جبر، الى قصة "الصدى" لمهدي عيسى الصقر التي تطمر فيها الزوجة تحت أنقاض بيتها المقصوف قبل أن تبوح لزوجها بسرٍّ مفرح، الى "رغيف النهر" لعبد الستار البيضاني حيث يؤثر البطل الغرق في النهر على العودة الى المدينة حيث القمع السلطوي والاجتماعي. وهذه القصة تعكس جانباً من المعتقدات الشعبية الغيبية، الى قصة "وليس على سلوى حرج" لهدية حسين التي يدفع فيها الفقر البطلة الى التضحية بكرامتها، فتمنح جسدها الى أحد الأثرياء لتحصل على ما تملأ به هذا الجسد أو تزينه به، الى قصة "على جسدك يطوي الليل مظلته" لمحمود عبدالوهاب التي تصور حادثة أخذ مريض ميت في ساعة متأخرة من الليل من ردهة تعج بالمرضى، الى "صعود القمر" لطاهر عبد مسلم حيث تعاني امرأة آلام الحيض، فتتداخل الصور في رأسها وتفقد الخط الفاصل بين الواقع والوهم. وإذا كانت الأحداث المذكورة تعتبر نتائج غير مباشرة للحرب والحصار، فإن قصصاً أخرى تتناول نتائج مباشرة كما نرى في الأقصوصة الجميلة التي حملت المجموعة اسمها لصلاح زنكنه، فالطفل فيها يبحث عن جثة أمه خلال الحطام الذي أحدثه القصف الجوي، ويروح من خلال حزنه يسقط الطائرات بنظراته الحزينة، فيحقق في عالم الوهم ما يتمناه في عالم الواقع. والنتائج المباشرة للحرب تظهر أيضاً في قصة "الطريق السريع" لسهيلة داود سلمان حيث يستفيق الموظف المصاب الذي شهد القصف وسقوط الأشجار العملاقة في المستشفى. وفي مقابل الأحداث الواقعية التي تنطوي عليها قصص معينة، ثمة أحداث غرائبية في قصص أخرى. فمن الحرب التي تشنها القنافذ والقوارض على المدينة وتصل الى مخدع حبيبين في لحظة وصال فينجحان في قتل احدها والثأر من الكل، كما نرى في "حرب القنافذ" للطيفة الدليمي، والتي تنطوي على دلالات رمزية واضحة، الى تحوُّل الكابوس الى حقيقة كما نرى في "الذئاب" لعلي خيون، الى الرجل الذي يتقمص شخصية أبيه الميت بمجرد ارتدائه ثياب الأب مدفوعاً بالحاجة والغلاء والفقر كما في "رجل يكتب سيرته" لعبدالإله عبدالرزاق، الى الاستعانة بالغيب في مواجهة الواقع القاسي كما في "أوان الغريب" لأحمد خلف، الى اللقاء الغرامي المتوهَّم بين عالمة الآثار والملك الذي تنقب عن آثاره كما في "ميثولوجيا معاصرة" لنعيم عبد مهلهل، الى التماهي بين حياة البطلة والخبر الصحفي كما في "ولع قديم" لميسلون هادي، الى التوأمين الغريبين اللذين يخدعان رجلاً تقيّاً كما في "النعل الكبير" لمحمد شاكر السبع، الى إطالة الموسيقى حياة رجل يحتضر كما في "أقاليم قصية" لغازي العبادي. غير أن القصة الأكثر تعبيراً عن الآثار المباشرة للحصار الاقتصادي هي قصة "في البستان" لابتسام عبدالله، ومن هذه الآثار الجوع والكآبة والهجرة وتقنين الطعام وسوء التغذية ونتوء العظام واصفرار الملامح والعمل الإضافي، والقصة تقول هذه الآثار من خلال أم تعلّل ولدها الجائع بالصبر وانتظار نضوج الطعام بغية كسب الوقت بحيث يكتفي الولد بطبقٍ واحد هو الأخير في البيت، وما أن ينضج الطعام حتى يهرع الولد والكلب الجائعان اليه، فينقلب على الأرض ويختلط الرز بالتراب، وتكون دهشة الأم كبيرة حين ترى ابنها يقلد الكلب في التقاط حبات الرز المتناثرة على الأرض. وإذا كان الحصار قد ترك بصماته الواضحة على قصص المجموعة أحداثاً وشخصيات، فتعددت اسماء الحصار والمحاصر المقموع واحد هو الانسان، فهو فشل في التأثير على البنية الفنية للقصة العراقية، وإذا بنا أمام بنية فنية ناضجة لم يخلخلها الحصار. إنها جمرة الإبداع لا تخبو وروحه المتوهجة رغم كل محاولات قتل الجسد.