قد يصعب القول إن أمل دنقل اختار الشكل العمودي لكتابة الشعر، لأسباب متعددة، هي نفسها الأسباب التي استند إليها بعض النقاد لتبرير الحكم باختيار أمل ذلك الشكل. فتوافر نماذج الشعر القديم ومستنسخاته لدى أكثر شعراء أبولو، البعد عن المناخ الثقافي المتجدد في القاهرة، هامشية حركة الشعر الحر، حتى أواخر الخمسينات، كل ذلك لا يعني سوى غياب بدائل الاختيار، واضطرار أمل من ثمّ الى التزام الوزن، كلياً في بداياته، وجزئياً حتى رحيله، ليكشف بذلك عن نمط من المحافظة الظاهرية، تتعارض، من جهة، مع تقدمية وعيه الاجتماعي، وتكبح، من جهة أخرى، تقدمية وعيه الإبداعي المختفية وراء الوزن المصطنع، تماماً كاختفاء الصندوق خلف غطاء الساحر. نعرف أن الصندوق موجود هناك، وأن الجميلة التي دخلته، ثم اختفت بطريقة ما، ستعاود الظهور. إنها مسألة وقت فحسب، ليرفع الساحر الغطاء بإرادته، لكن ظرفاً استثنائياً، كأن يموت الشاعر واقفاً، لا بد من أن يدفع واحداً من الحضور إلى رفعه. الصندوق هنا قصيدة النثر، أما الجميلة فهي تقدمية الوعي الإبداعي، أو تحرره من مترابطات الظرف التاريخي، تلك التي فرضت تحديداً بعينه للتقدمية، التزمه أمل فسحبه النقاد التقدميون على شعره المحافظ باحتفاء سخي، ما جعله يمعن في محافظته، ولا يجرؤ على الكشف عن تقدميته الباطنة، وإن ألمح في العام الأخير قبل رحيله إلى بدء قيامه بمراجعة فنية كبرى، نتيجة تراجع الاهتمام بالقضية الوطنية وانهيار المُثل القديمة. كان لدى أمل إحساس قوي بأهمية وجود تمايز لشعره عن شعر زملائه، إذ إن القضية الأساسية، قضية الثورة، كانت الهم الشاغل في شعر الجميع، كما أن اشتراكهم في وضعية المطارد - من السلطة السبعينية - دفع أكثرهم إلى اختيار أشكال فنية تبدو للوهلة الأولى انسحابية، كاللجوء الى التاريخ والعبث. الحرص على التمايز إذاً، بالأداء المضموني المتوهج، وعلى حفاوة النقاد والقراء، التقليديين والمجددين معاً، هو ما جعل أمل دنقل يتحول أولاً عن القصيدة العمودية إلى قصيدة التفعيلة، ثم يمضي بكتابته في إطار الممكن القديم، فيحافظ على شكل تم تجاوزه منذ عقدين تقريباً، ويقاوم ظاهرياً قصيدة النثر التي اتجه في البداية إليها وكان بالغها لولا ما اعترض طريقه من إشارات مشوشة. عندما ناوشت رغبة الكتابة أمل، في بداية شبابه، أراد أن يكون قاصاً أو روائياً، لكن التجربة العاطفية الأولى بمشاعرها الغامضة، وعدم اكتمال قصتها، دفعته مباشرة إلى الشعر. عرض أشعاره على أستاذه الشاعر، وكانت الاستجابة المحبطة من هذا الأخير سبباً في اندفاع الشاعر الصغير إلى تحد بالغ التأثير في فهمه الخاص لماهية الشعر ودوره. لقد نصح الأستاذ أمل بأن يترك الشعر، لأنه لن يكون شاعراً أبداً، فاعتبرها الشاب إهانة لكرامته، وسأل عن سبيل الشعر حتى عرف أن من يحفظ ألف بيت يصير شاعراً. لم يدخر جهداً في استنساخ الدواوين القديمة والحديثة، من أجل حفظ الوصفة المضمونة، وفي العام التالي عرض إنتاجه الجديد على الأستاذ، وشفى نفسه بزهو الانتصار عندما نال اعترافاً صريحاً بتقدم مستواه. وكان التشويش التالي عندما تردد أمل على بعض الندوات الأدبية، في القاهرة، إذ حاول أن يلفت الانتباه إلى نفسه، وشعر أن صوته غير مسموع، فانصرف عن الكتابة لمدة عامين عاد بعدهما منتسباً إلى مدرسة الشعر الجديد، متأثراً بمحمود حسن اسماعيل، وشديد الإعجاب بعبدالرحمن الشرقاوي وصلاح عبدالصبور، وظل إعجابه بهذين فاعلاً في شعره، نزوعاً درامياً وصبغة نثرية، حتى التقى في فترة متأخرة بأحمد عبدالمعطي حجازي، ليتأكد بذلك كلياً إحباط مسعاه الطبيعي إلى قصيدة النثر. لا شك في أن أمل قرأ قصيدة النثر العربية، وليس بعيداً أن يكون اطلع على مناوشة ألمع مجايليه في مصر لها، سواء في إطار القصيدة الموزونة عند محمد عفيفي مطر، أو في التجارب النادرة عند محمد إبراهيم أبو سنة. كما أن إخلاص إبراهيم شكر الله وعزت عامر وفاروق خلف لهذا الشكل الشعري لا بد لفت انتباهه، فإذا أضفنا إلى ذلك تكرار مواجهة أمل لشعره بالأسئلة الكبرى وانقطاعه عن الكتابة لشهور متواصلة وصلت أحياناً إلى أربع سنوات، يتأيد افتراض أنه كان واعياً بالضرورة المرحلية لوجود قصيدة النثر، وكتبها بغير وعي ثم أسدل الوعي الظاهر عليها غطاء الوزن. تحيلنا جملة التصورات المتعلقة بقصيدة أمل إلى قصيدة النثر، فالشعر في مفهومه بحث عما وراء الممكن، ثورة على القيم الشعرية لا أدوات التشكيل الشعري، اللغة والصورة والإيقاع والرمز، هذه الأدوات لازمة في تصوره لبناء القصيدة، لكنها لا تصنع الشعر، لذلك رأى أن مسرحية الزير سالم لألفريد فرج - النثرية - أكثر شعرية من المسرحيات الشعرية نفسها، وأن آلاف القصائد التفعيلية ليست سوى شعر أبوللوني قائم على علاقات مثالية وقيم رومانسية. يمكن أن نلمح تناقضاً بين تصور الشعر والمنجز الشعري في قول أمل إن رؤية الشاعر "لا تنفصل إطلاقاً" عن رؤيته الاجتماعية والظروف التي أنجبته وحددت ثقافته، إذ إن ربط الجمالي بالاجتماعي هنا دليل فادح على استسلام الشاعر للممكن، وعن إخفاق الاجتماعي التقدمي لديه في انتشال الجمالي من براثن المحافظة. غير أن انتزاع ملامح الاصطناع، أو الانسياق وراء ضرورات الظرف الاجتماعي والعلاقة بالجمهور، يقدم دليلاً مغايراً، فحواه مغادرة وعي أمل السياق القديم، والتصاق حلمه بما تهيأ مبكراً لتحقيقه، فوعيه بالمستقبل يعني أنه بلغ شرطه، لكن... من دون أن يدري. اعتبر أمل دنقل أحمد عبدالمعطي حجازي أباه الشعري، وكان هذا الإعجاب المفرط عائقاً رئيساً أمام الحركة الأخيرة التي تحرر قصيدة النثر، وإشارة طريق مضللة، حتى للشاعر نفسه، لأن نظرة ثانية لشعر أمل ستكشف انتماءه العميق الى صلاح عبد الصبور، وليس حجازي الذي يتميز شعره بإحكام البناء الصوتي وعضويته المفرطة بحيث إن حذف نظام التقفية يسقط القصيدة، وفي مستوى المجاز نجده أكثر إيغالاً وتفتيقاً للصور، لغته عالية، مفارقة لدائرة التفاصيل اليومية وللسردية عموماً. أما عبدالصبور ودنقل فيشتركان في اتجاه شعرهما الى السهولة والاهتمامات العامة، التحديد الواضح للمكتوب حرصاً على توصيله، مغادرة المجاز المركب واستخدام المسائل البلاغية، كالتقديم والتأخير، بصفتها مسائل عروضية خالصة لضبط الوزن، وفي شعرهما أيضاً حركة المعنى المتواترة في الزمن، السردية، والنزعة المسرحية التي برزت لديهما في الاستعانة بالمشاهد والأصوات المتعددة، الجوقة والرواة، الفضاء النفسي الرثائي والحس المأسوي الناتج من اختيار لحظات الهزيمة والانكسار في حياة الشخصيات الثورية. كان المشروع الشعري لأمل دنقل يتطور في اتجاه قصيدة النثر، ويمكن أن يُضاف الى ما سبق أن قصائده تولد نثرية، مثلما يدلل عليه تأمل مسوداته، وأنه حاول كتابة مسرحية، ولم يقف ضد قصيدة النثر مثل حجازي، غير أن أهم ما يدعم افتراضنا هو فهمه الناضج للعلاقة بين اللغة اليومية والتعبير عن السمو وحله إشكالية التعارض بينهما من جانب، وسهولة التخلص من غطاء الوزن المقيد بشبكة قوافي صاخبة من جانب آخر. لغة الشعر مجاوزة، تخالف القوانين المنظمة للغة الحياة اليومية والعلاقات الداخلية التي تحرك شكل تراكيبها وصيغها، وليس المقصود باليومية في قصيدة النثر أن يصف الشاعر أفعال يومه، بل أن يستخدم البنيات التركيبية المميزة للغة اليومية بوظائفها نفسها، مثلما نجده مثلاً في كثرة استخدام أمل دنقل بنية الجملة الاعتراضية، بكل ما تحمله من ارتباطات دلالية تتشعب من معنى الاعتراض إلى الاستطراد، التوضيح، نشاط العقل والذاكرة، إسكات الآخر أو إسماع صوت الذات، الرفض والعصيان، إلخ. أما الإيقاع المقيد فهو نص ثقيل يغطي بذاكرته الدلالية نص الشعر، وهو لا يصارع المعنى، ولا يضيف شيئاً للقصيدة، لأنه بحسب تقديري مجرد محاكاة لأنظمة قامت على أسس استبدادية. شرط المحاكاة أن يتبع الشاعر السنن، أن يحفظ ويروي آلاف الأبيات من شعر السابقين، فإذا روى "استفحل" عند أولي الأمر، لأن الحافظة تدربت على قيادة القول في طرق محددة، طرق مأمونة لا يفاجئ المتكلمُ السامع فيها بقول مبتدع. لكن أمل اضطر إليه، وظل متمسكاً به حتى النهاية، لأسباب نفسية واجتماعية، ويمكننا، إن نحن رفعنا هذا الغطاء الاضطراري، أن نرى ذروة من ذرى تطور شعرية أمل. استطاع أمل دنقل إخضاع الشعرية الكامنة في اللغة اليومية إلى عملية خلق، وعلى رغم حرصه التام على اكتساب جماهير لم يكتف بأن تكون ذاته خادمة لذواتهم أو نائبة عن حضورهم، وما كان يعنيه أبداً تعبير ذاته عن اهتمامات عامة ومشاعر منتشرة قدر ما كان حريصاً على تعبيرها عن سمو. لقد أدرك الشعر بصفته تعبيراً عن حقيقة وجود إنساني، اي لحدود قدرته على فهم الحياة. تعبير وكشف يهدفان إلى تصحيح الإحساس المشوه بالقيم، الى خلق وعي عام بالشروط الصحيحة للوجود، وبيان أن الدفاع عن هذه الشروط قيمة عليا ترقى بالحياة.