} أقام المجلس الأعلى للثقافة في مصر بين 12 و14 تشرين الثاني نوفمبر 2001 احتفالية بمناسبة مرور عشرين عاماً على وفاة الشاعر المصري صلاح عبدالصبور، وسبعين عاماً على ولادته. الناقد الأردني فخري صالح شارك بدراسة عن "استثمار اليومي في شعر عبدالصبور". يقترب شعر صلاح عبدالصبور، منذ مجموعاته الشعرية الأولى: "الناس في بلادي" و"أقول لكم" و"أحلام الفارس القديم"، مما يسميه النقد العربي في اللحظة الراهنة ب"القصيدة اليومية"، أي تلك القصيدة التي تعنى باليومي والبسيط والعادي فتجعله مدار بحثها الشعري لتقوم بتصعيده والعثور فيه على ما هو شعري ولافت ومثير للدهشة. ومع ان عبدالصبور يعد واحداً من رواد القصيدة العربية الحديثة الذين جددوا دم الشعر العربي من خلال استثمار عدد وافر من العناصر، ومن ضمنها استخدام الأسطورة والأسطوري واستثمار القناع لقول ما يتجاوزه، فإنه، على خلاف السياب والبياتي وأدونيس، ادخل الشعر العربي خلال خمسينات القرن الماضي عالم القصيدة الخفيضة الصوت التي تستثمر المفردات البسيطة والأحداث اليومية، وكل ما ينتسب الى العادي والمألوف والموقت والزائل. يمكن ان نعثر على الرؤية النظرية لعبدالصبور، في ما يتعلق بقصيدة التفاصيل أو قصيدة اليومي والعابر، في مواضع عدة من كتاباته النثرية وتأملاته حول الشعر العربي وكذلك حول تجربته الشعرية. فهو يفصّل الحديث في كتابه "حياتي في الشعر" عن اكتشافه ل تي أس إليوت في مطلع شبابه منوهاً أن ما استوقفه في شعر اليوت هو جسارته اللغوية لا الأفكار المبثوثة في شعره. يقول عبدالصبور: "كنا نحن - ناشئة الشعراء - نحرص على أن تكون لغتنا منتقاة منضدة، تخلو من اي كلمة فيها شبهة العامية أو الاستعمال الدارج، كنا قد خرجنا من عباءة المدرسة الرومانطيقية العربية، بموسيقاها الرقيقة، وقاموسها اللغوي المنتقى، الذي تتناثر فيه الألفاظ ذات الدلالات المجنحة، والإيقاع الناعم. وكنا قبل ذلك كله اسرى للتقليد الشعري العربي الذي يؤثر ان تكون للشعر لغته الخاصة، المجاوزة للغة الحياة، والبعيدة عنها في بعض الأحيان". ويقترب عبدالصبور، في كلامه عن موجودات غرفته وأسماء الأشياء التي يمكن استعمالها في الكتابة الشعرية عن الحياة اليومية التي يحياها المرء، كثيراً مما نعنيه الآن ب"قصيدة التفاصيل". "أنا أكتفي بأن أحدق في مكتبي، وفي الرف الذي أمامي، لأحدثك عن علبة السجائر والقداحة أو الولاعة، الصورة الفوتوغرافية" وإطار الصورة والمطفأة، والمزهرية والمروحة والقاموس ونوتة التلفونات وعلبة الأقراص المنبهة والمهدئة وتمثال فينوس وعشرات من تفاصيل هذه الأشياء". وهو في قصيدته "شنق زهران" يستخدم الكلام السائر بين الناس في القرية العبارات العامية المتداولة في صورتها الفصيحة، وموجودات القرية وعناصرها والصور الدالة على البيئة الريفية، وما يبدو تفصيلياً جزئياً في حياة شاب قروي ذاكراً الوشم على صدغ زهران وزنده. كان زهران غلاماً / أمه سمراء والأب مولد / وبعينيه وسامة / وعلى الصدغ حمامة / وعلى الزند أبو زيد سلامة إن عبدالصبور ينزل بالشعر العربي، في مرحلة مبكرة من ثورة الشعر العربي الحديث، من عليائه ويدخل الى القاموس الشعري ألفاظاً وتعبيرات كان الذوق السائد ينكر شعريتها وينسبها الى عالم النثر والحياة اليومية للعامة. لكن الشاعر يقتنص هذه العبارات "غير الشعرية" ليصنع منها قصيدة تحكي عن البطولي والوطني بلغة اقرب ما تكون الى لغة البسطاء غير المثقفين الذين ينتمي إليهم زهران، وبهذا المعنى تبدأ لغة الشعر، التي أرهقها الكلام المكرور والصور المستعادة من القاموس الشعري الموروث، في التحرر من النمطي والميت والمهجور وغير المعيش لتعيد الاتصال بالتفصيلي والحي وتعمل على "خلع الشاعرية" على "فتات الحياة النثرية". ويمكن ان نعثر كذلك على توليف لغة الحياة اليومية، وجدلها في سياق التعبير الشعري، في قصيدة "الناس في بلادي" حيث اللغة اقرب الى الركاكة، في صيغها النحوية والتركيبية لأن الشاعر يريد ان يكون ناقلاً محايداً لحكاية الموت والحياة. إن اللغة في القصيدة هي اقرب ما تكون الى مستوى اللغة الإخبارية، التي تصف وتلخص وتستعيد المشهد وتنقل ما يدور بين الناس العاديين من كلام. وعند باب قريتي يجلس عمي "مصطفى" / وهو يحب المصطفى / وهو يقضي ساعة بين الأصيل والمساء / وحوله الرجال واجمون ويرغب عبدالصبور، كما هو واضح في قصيدتي "شنق زهران" و"الناس في بلادي"، ان يقترب من تفاصيل الحياة اليومية للناس، وإضفاء الشعرية على هذه الحياة التي لا يلتفت إليها الشعر ويعدها موضوعاً غير شعري ويلحقه بعالم النثر. وفي سبيل تحقيق هذه الاستراتيجية يحقن الشاعر قصيدته بما يتفوه به الناس وما يجري على ألسنتهم من امثال وتعبيرات شعبية وكلام مكرور مستعاد وصفات نمطية، ويلجأ الى التعبير المباشر حتى تخلو القصيدة من الصور والاستعارات ويكتفي الشاعر بالتشبيه البسيط إذا اضطر الى لغة التصوير والتعبير الشعري المألوف. ان عبدالصبور يفعل ذلك واعياً بغاياته لتقليل منسوب الشعرية، بمعناها المتداول والشائع في سياق تطور الشعر العربي في خمسينات القرن الماضي، والوصول بالقصيدة الى لغة اليومي والدارج والعادي والتفصيلي والنثري والركيك الذي يتنكب البلاغة ويعزف عن الفصاحة ويستعين بالتعبير التقريري المباشر عن تراجيديا الحياة اليومية للناس في بلاده. ويبلغ الشاعر ذروة مشروعه في حقن قصيدته بلغة الحياة اليومية في قصيدته "الحزن"، التي أثارت الكثير من اللغط في النقد العربي المعاصر واستخدمت دليل اتهام ضد القصيدة العربية الحديثة، وسُخر منها بوصفها تمثل انحدار الشعرية العربية. لكن هذه القصيدة تمثل، من وجهة نظري، واحدة من افضل قصائد عبدالصبور التي تجدل ببراعة التعبير عن السعي اليومي للبشر، بكل ما يصادفهم من مصاعب وما يحركهم من رغائب، والرسالة التي تعمل القصيدة على صوغها في النهاية. إن السطور الأولى من القصيدة تبدو صادمة للذائقة الشعرية السائدة، لا في خمسينات القرن الماضي فقط بل في اللحظة الراهنة كذلك. لكن غاية الشاعر الجسور، الراغب في تغيير الذائقة وفتح سبل جديدة للكتابة الشعرية، هي توجيه ضربات متواصلة للوعي الشعري المتبلد الذي اصبح التكرار ديدنه والنقل طريقته في الكتابة. وبغض النظر عن تهمة الركاكة، وتنكب صيغ البلاغة والشعرية السائدتين، فإن كتابة عبدالصبور في تلك الفترة تمهد لوعي شعري مختلف بتأثير الاصطدام بالحياة اليومية وقراءات عبدالصبور وجيله في آداب الأمم الغربية واطلاعهم على انهدام الفاصل بين ما هو شعري ونثري في أشعار تلك الأمم. من الواضح ان عبدالصبور كان يسعى في قصائده الأولى الى التوصل الى أسلوب يتنكب من خلاله الدروب المطروقة للآخرين. وقد وجد ضالته، كما رأينا، في النزول بشعره الى الأرض وتطعيم لغته الشعرية بالمفردات والألفاظ المأخوذة من أفواه الناس وجعل الإنسان العادي بطل عالمه الشعري. لكن الإيغال في استخدام هذه الألفاظ والمفردات، الذي بلغ ذروته في قصيدة "الحزن"، لم يتواصل في تجربة عبدالصبور الشعرية. وإذا كانت قصائد الشاعر جميعها لا تخلو من هذا الصوت الخافت، الذي يهمل البطولي لصالح العادي والهامشي، فإن عبدالصبور يقيم توازناً في مجموعاته الشعرية التالية بين القاموس الجديد الذي أدخله الى مملكة الشعر، بكل ما فيه من عاميّ اللفظ وشائعه وأسماء الأشياء التي كانت مطرودة من قاموس الشعر، وبلاغة التعبير الشعري والصور والاستعارات المحلقة التي يحفل بها شعره. وتمثل قصيدة "البحث عن وردة الصقيع"، التي تضمها مجموعة "شجر الليل" تبلور عمل عبدالصبور على الإفادة من قاموس اليومي من دون ان يجري الشاعر بقصيدته مجرى الركاكة الذي يبدو ان الشاعر كان يسير معه قبل ان يعثر على خيط آريان ويحقق التوازن بين "الشعري" وغير "الشعري" في قصيدته. ففي هذه القصيدة نعثر على مفردات اليومي وتمظهراته جميعها، أي اللغة البسيطة والتقريرية والمباشرة واللغة العامية الدارجة وأسماء الأشياء الحميمة القريبة التي نستخدمها بصورة مستمرة من مقاعد وموائد وثياب ومعاطف شتائية ومصاعد ومرايا ومعابر ومحطات قطار وكتب ومحابر، وكل ما يحول المعاني المجردة الى كينونات ملموسة. لكن هذه التفاصيل والشجون والأشياء اليومية تذوب في الكيان الكلي للقصيدة، وتصبح عناصر تغني الكتابة الشعرية وتصعد بالمعاني المجردة من وجودها الذهني الى تحقق ملموس وتعبير عن حيوية العناصر والأشياء والكينونة المشخصة. ومن الواضح ان هذا التردد بين الحضور والغياب في القصيدة، بين المجرد والمتعين، بين اليومي والأثيري، يعود الى طبيعة الكينونة التي يخاطبها الشاعر فهي تارة امرأة وتارة اخرى روح هائمة أثيرية تعادل الحقيقة ولا تعادلها في الآن نفسه، ما يجعل حضور التفاصيل الصغيرة وذكرى الأشياء العابرة شبحياً غائماً، ويجري مجرى التعبير بالمجاز لا الحقيقة أو الدالة المباشرة. ولعل ذلك يتصل بمسار تطور تجربة صلاح عبدالصبور الشعرية التي بدا اليومي، والتفصيلي والعادي والعابر، في بداياتها ذا ثقل ضاغط على قصيدته، فيما اصبح حضور هذا اليومي اثيرياً، وجزءاً من بنية شعرية أوسع تعتمد اللغة التصويرية وتعتني بالاستعارة اكثر، وتحيل ما هو ملموس على المعاني المجردة للوجود، في تجربته الشعرية في ما بعد.