مركز الملك سلمان للإغاثة ينظّم منتدى الرياض الدولي الإنساني الرابع فبراير المقبل    بلسمي تُطلق حقبة جديدة من الرعاية الصحية الذكية في الرياض    وزارة الداخلية تواصل تعزيز الأمن والثقة بالخدمات الأمنية وخفض معدلات الجريمة    "مستشفى دلّه النخيل" يفوز بجائزة أفضل مركز للرعاية الصحية لأمراض القلب في السعودية 2024    وزارة الصحة توقّع مذكرات تفاهم مع "جلاكسو سميث كلاين" لتعزيز التعاون في الإمدادات الطبية والصحة العامة    أمانة جدة تضبط معمل مخبوزات وتصادر 1.9 طن من المواد الغذائية الفاسدة    نائب أمير مكة يفتتح غدًا الملتقى العلمي الأول "مآثر الشيخ عبدالله بن حميد -رحمه الله- وجهوده في الشؤون الدينية بالمسجد الحرام"    السعودية تستضيف الاجتماع الأول لمجلس وزراء الأمن السيبراني العرب    المياه الوطنية: خصصنا دليلًا إرشاديًا لتوثيق العدادات في موقعنا الرسمي    ارتفاع أسعار النفط إلى 73.20 دولار للبرميل    وزير العدل: مراجعة شاملة لنظام المحاماة وتطويره قريباً    سلمان بن سلطان يرعى أعمال «منتدى المدينة للاستثمار»    المملكة تؤكد حرصها على أمن واستقرار السودان    أمير الشرقية يرعى ورشة «تنامي» الرقمية    كأس العالم ورسم ملامح المستقبل    أمير نجران يدشن مركز القبول الموحد    رئيس جامعة الباحة يتفقد التنمية الرقمية    متعب بن مشعل يطلق ملتقى «لجان المسؤولية الاجتماعية»    وزير العدل: نمر بنقلة تاريخية تشريعية وقانونية يقودها ولي العهد    اختتام معرض الأولمبياد الوطني للإبداع العلمي    دروب المملكة.. إحياء العلاقة بين الإنسان والبيئة    البنوك السعودية تحذر من عمليات احتيال بانتحال صفات مؤسسات وشخصيات    ضيوف الملك من أوروبا يزورون معالم المدينة    توجه أميركي لتقليص الأصول الصينية    استعراض أعمال «جوازات تبوك»    إسرائيل تتعمد قتل المرضى والطواقم الطبية في غزة    ماغي بوغصن.. أفضل ممثلة في «الموريكس دور»    متحف طارق عبدالحكيم يحتفل بذكرى تأسيسه.. هل كان عامه الأول مقنعاً ؟    العلوي والغساني يحصدان جائزة أفضل لاعب    مدرب الأخضر "رينارد": بداية سيئة لنا والأمر صعب في حال غياب سالم وفراس    القتل لاثنين خانا الوطن وتسترا على عناصر إرهابية    جمعية النواب العموم: دعم سيادة القانون وحقوق الإنسان ومواجهة الإرهاب    الجاسر: حلول مبتكرة لمواكبة تطورات الرقمنة في وزارة النقل    الجوازات تنهي إجراءات مغادرة أول رحلة دولية لسفينة سياحية سعودية    "القاسم" يستقبل زملاءه في الإدارة العامة للإعلام والعلاقات والاتصال المؤسسي بإمارة منطقة جازان    ليست المرة الأولى التي يخرج الجيش السوري من الخدمة!    شكرًا ولي العهد الأمير محمد بن سلمان رجل الرؤية والإنجاز    ضمن موسم الرياض… أوسيك يتوج بلقب الوزن الثقيل في نزال «المملكة أرينا»    الاسكتلندي هيندري بديلاً للبرازيلي فيتينهو في الاتفاق    لا أحب الرمادي لكنها الحياة    الإعلام بين الماضي والحاضر    استعادة القيمة الذاتية من فخ الإنتاجية السامة    منادي المعرفة والثقافة «حيّ على الكتاب»!    أوروبا تُلدغ من جحر أفاعيها !    ولادة المها العربي الخامس عشر في محمية الأمير محمد بن سلمان الملكية    الطفلة اعتزاز حفظها الله    إن لم تكن معي    أداة من إنستغرام للفيديو بالذكاء الإصطناعي    أجسام طائرة تحير الأمريكيين    أكياس الشاي من البوليمرات غير صحية    قائد القوات المشتركة يستقبل عضو مجلس القيادة الرئاسي اليمني    ضيوف الملك يشيدون بجهود القيادة في تطوير المعالم التاريخية بالمدينة    سعود بن نهار يستأنف جولاته للمراكز الإدارية التابعة لمحافظة الطائف    نائب أمير منطقة تبوك يستقبل مدير جوازات المنطقة    الصحة تحيل 5 ممارسين صحيين للجهات المختصة بسبب مخالفات مهنية    «مالك الحزين».. زائر شتوي يزين محمية الملك سلمان بتنوعها البيئي    لمحات من حروب الإسلام    وفاة مراهقة بالشيخوخة المبكرة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



لا يزال على موقفه من قصيدة النثر . أحمد عبدالمعطي حجازي : صلاح عبدالصبور تأثر بي مثلما تأثرت به
نشر في الحياة يوم 16 - 03 - 1998

لا يزال الشاعر المصري أحمد عبدالمعطي حجازي على موقفه من قصيدة النثر، فهي في نظره لا تنتمي الى الصنيع الشعري. فالشعر يجب ألا يتخلّى عن الإيقاع والقافية، ويمكن القصيدة أن تضمّ بعض المقطوعات النثرية داخل بنيتها ولكن لا يمكنها أن تتخلّى عن الأوزان نهائياً. لكنّ شاعر "مدينة بلا قلب" لا ينكر الشعراء الذين كتبوا قصيدة النثر ولا يلغيهم بل يسعى دوماً الى محاورتهم. ولئن بدا السجال بين الشعر الموزون وقصيدة النثر قديماً ومنتهياً عالميّاً فهو لدى حجازي لا يزال قائماً.
أحمد عبدالمعطي حجازي رائد من رواد الشعر الحرّ وصاحب سبع مجموعات شعرية استطاع من خلالها أن يفرض صوته الخاص ولغته وعالمه. ولئن انطلق من الشعر الكلاسيكي والرومانطيقي فهو سرعان ما خاض غمار الشعر الحرّ القائم على نظام التفاعيل ليكتب قصيدة ترتقي بالواقع الى مصاف الغنائية الصافية.
الشاعر يجيب على أسئلة طرحناها عليه بغية مواصلة النقاش حول تجربته عموماً وحول قصيدة النثر خصوصاً.
ولدت قصيدتك إبّان المدّ القومي في الخمسينات وكانت موئلاً لتلك المواقف القومية التي لم تخلُ من الحماسة: لو عدت الآن الى بداياتك فكيف تراك تستعيدها؟
- أعتقد بأنني حتى في بداياتي الأولى حرصت باستمرار على أن أجعل القصيدة التي أستوحي بها حدثاً قومياً مستقلة الى حدّ ما عن هذا الحدث. حاولت باستمرار ألا أكتب شعر مناسبات. وإذا كنت نجحت على الأقل نجاحاً جزئياً فأنا أستطيع الآن أن أقرأ بعض ما كتبت في الخمسينات والستينات بثقة، أي كما لو أنني لا أزال أقرأ شعراً وأن الذين يقرأون تلك القصائد سينظرون إليها باعتبارها قصائد. لا شك في أن أي قصيدة تتصل من قريب أو من بعيد بواقعة أو بحادثة معيّنة لا تصل بنظري الى القارئ إلا إذا تذكّر تلك الحادثة. وفي رأيي هذا ليس دائماً رديئاً وإنما على العكس، فكرة الاستقلال الكامل للشعر من التاريخ فكرة مدمّرة تماماً مثلها مثل التصاق الشعر الكامل بالتاريخ أو تطفّله عليه. ينبغي أن نحافظ على تلك العلاقة الحيّة بين الشعر والتاريخ، وعندما نحافظ عليها فكأننا نحافظ على العلاقة القائمة بين الشعر والقلب الإنساني. فليس التاريخ في النهاية إلا ما يصنعه الإنسان.
من المعروف أنك جاورت الحركة الناصرية وكتبت عن عبدالناصر ولكنك لم تنخرط في مسار هذه الحركة: كيف ترى الآن الى تلك المرحلة؟
- أظن بأني كنت على حقّ في الموقفين. كنت على حقّ في أنّي انخرطت في الحركة الناصرية إذا اعتبرنا الحركة الناصرية هي الصورة المثلى التي وصلت إليها الحركة القومية في معنى حركة تحرّر الشعب العربي واندفاعه نحو بناء مستقبله. وكنت على حقّ أيضاً في أنّي كنت دائماً بعيداً عن الحركة الناصرية كتنظيم لأني عشت في ظل نظام الرئيس عبدالناصر وكنت أحسّ حتى في سنوات الشباب بأنّه نظام فردي لا يقوم على المؤسسات الشعبية وفيه كل عيوب النظم الديكتاتورية. وقد أثبت التاريخ هذا الأمر وكذلك الحوادث، وأظن بأن الإنذارات كانت تتوالى منذ انفصال سورية عن الجمهورية المتحدة العام 1961 الى أن وقعت الهزيمة الكبرى في العام 1967 وهي هزيمتنا من دون سبب كاف ومن دون مبرر بل من دون كرامة. وهذا يدلّ على أن البعد الذي كنت حريصاً على أن يقوم بيني وبين هذا النظام كان صحيحاً. ولا أزال أكتشف حتى هذه اللحظة أنني لم أخطئ في خياري. ماذا بقي من هذا كلّه؟ كلّ ما بقي هو أنني ما عدت أثق في أي نظام يقوم على الطغيان والإستبداد، وفي معنى آخر أصبحت لا أثق إلا في نظام ليبرالي مع إلمامي بعيوب مثل هذا النظام لكني أعتقد بأن فضائله هي الطريق الوحيدة لمكافحة رذائله ومساوئه. ومن ناحية أخرى ما زلت أؤمن بأن العرب لن يستقيم مستقبلهم إلا إذا وصلوا الى حال من الإتحاد على غير الأسس التي كان المفكرّون القوميون يتحدثون عنها في الأربعينات والخمسينات. مثلاً ما عدت أؤمن بالوحدة الاندماجية ولا أؤمن بفكرة التسوية بين الأقطار... ولا أؤمن بفكرة أن العروبة تقوم بما قبلها وكأنها دين. فالفكر القومي الذي كان يشترط على شخص مثلي أن يتبرأ من حضارته الفرعونية ومن حضارته القبطية هو فكر ساذج وهو سبب الكارثة. وهذا الفكر الذي كان يزعم أن مصر لا تختلف في أمر عن المغرب أو عن السودان والعراق وبلاد الشام لم يكن محقّاً. هناك قواسم مشتركة كثيرة بين مصر وبقية البلدان العربية. نحن لم نكن نعرف مثلاً الى الخمسينات أن نصف أهل المغرب يتكلّمون البربرية وأن هناك أقليات عرقية وطائفية. صحيح أن هذه القضايا لا تحول دون تحقيق الوحدة ولكن يجب عدم نكرانها وتجاهلها ولا بدّ من اعتبارها. والاعتبار لا يتمّ إلا عبر الديموقراطية.
غالباً ما تتحدث عن صدمة "القاهرة" التي حدثت لدى هجرك الريف ونزولك الى العاصمة: ماذا تحدثنا عن تلك الصدمة؟ وهل هي القاهرة تلك المدينة التي بلا قلب كما يقول عنوان احدى مجموعاتك؟
- القاهرة كانت مزيجاً من الخيلاء والعظمة والثروة والقوة في مواجهة شاعر في العشرين من عمره مهاجر من الريف. نعم كانت القاهرة "مدينة بلا قلب" في هذا المعنى. نحن أحياناً نشتم مَن لا يحبّنا، من لا نستطيع أن نفوز بقلبه. لم تكن القاهرة تحبّني في فترة من الفترات، لم تكن تمحضني عواطفها أو حبها. وكان لا بدّ أن أشعر إزاءها بما يشعر به عاشق شاب أمام امرأة رائعة الجمال وأكثر تجربة منه بكثير وقادرة على الاستغناء عنه لأنّها محاطة بعشاق أجمل وأوسم وأغنى. لذلك حمل عنوان كتابي شيئاً من الهجاء لكنّه لم يخلُ أيضاً من بعض الشكوى. هكذا تغيّر الموقف حتى في الديوان. في القصيدة الأولى التي هجوت فيها القاهرة وعنوانها "الطريق الى السيّدة" أقول: "يا قاهرة / أيا قباباً متخمات قاعدة / يا مئذنات ملحدة / يا كافرة / أنا هنا لا شيء / كالموتى كرؤية عابرة / أجرّ ساقي المجهدة / للسيّدة للسيّدة...". هذه القصيدة من أوائل شعري الحر وكتبتها في العام 1955. وفي المجموعة نفسها تجد قصيدة أخرى هي "حب في الظلام" وفيها أقول: "أحسّ كأنّ المدينة / تدخل قلبي / كأنّ كلاماً يقال / وناساً يسيرون جنبي / فأحكي لهم عن حبيبي...". هذا التطوّر هو تطوّر العلاقة بين وافد مجهول ومدينة عظيمة. وحين يتحوّل هذا الوافد المجهول الى شاعر معروف وله مكانته في منتديات القاهرة تتغيّر العلاقة. وهذا حدث بسرعة. لم تكد تمرّ سنة حتى أصبحت شاعراً من شعراء القاهرة تحتفي به المدينة وهو يحتفي بها... وإذا نظرت الآن الى العلاقة يصبح الأمر مختلفاً. أشعر الآن بأني مسؤول عن القاهرة أنا الأب الآن والقاهرة هي بمثابة الإبن أو الإبنة التي تلوذ بأحضان أبيها.
يقول بعضهم أنك بدأت رومانطيقياً وانتهيت واقعياً وأعتقد انك ما برحت ذلك الشاعر الذي يستهويه الغناء. ماذا عن رومانطيقيتك وعن واقعيتك؟
- لا شك في أنّني رومانطيقي بل متأثر بالشعراء الرومانطيقيين، لكنّ هؤلاء الشعراء أنفسهم الذين تأثرت بهم هم موضع سؤال. فعن أيّ رومانطيقية نتحدث عندما نتحدث مثلاً عن محمود حسن اسماعيل أو الياس أبو شبكة أو ميخائيل نعيمة أو علي محمود طه أو ابراهيم ناجي أو أبو القاسم الشابي؟ هؤلاء هم مصادري الأولى، هم أنفسهم رومانطيقيتهم تحتاج الى توضيح وتحديد وتمييز عمّا نفكّر به حين نفكّر في الرومانطيقية عموماً. وأعتقد بأن سؤالاً أكبر يطرح نفسه وهو: هل كان من رومانطيقية عربية أصلاً؟ ويعتقد بعض النقاد بأن لم تكن من رومانطيقية والأفضل أن يُسمّى هذا الشعر شعراً وجدانياً كما يقول مثلاً الدكتور عبدالقادر القطّ. وأنا أعتقد بأنه كانت هناك رومانطيقية عربية. وهذه الرومانطيقية مختلفة ولها خصوصيّتها لأن الرومانطيقية الأوروبية ليست واحدة أيضاً وهي انطلقت من ألمانيا وإنكلترا وفرنسا ووصلت الى وسط أوروبا وشرق أوروبا والى اليابان والى بلادنا. وقد استغرقت نصف قرن حتى وصلت مثلاً الى إيطاليا. واستغرقت قرناً حتى وصلت إلينا. ولا شك في انه توجد عندي آثار من هذه الرومنطيقية. أما الواقعية فهي اصطلاح لا يمكن أن نطلقه على الشعر أصلاً. في الغالب أنا لا أميل الى هذا الاصطلاح. فإذا كان المقصود هو عناصر الواقع التي تدخل القصيدة أو التي ننشيء بها الصور أو الحوادث التاريخية أو المناسبات العامة التي تدور حولها القصيدة فإن الشعراء السورياليين لديهم مثل هذه العناصر وكذلك الشعراء الرمزيون. إلا إذا قصدنا الواقعية في معناها الفلسفي الماركسي، في اعتبار الواقع المادي أو الموضوعي هو أصل المعرفة وأصل الوعي. وعموماً إنني أشكّك في مثل هذا الاصطلاح، اصطلاح الواقعية، وفي صحّته. نحن الآن نتحدّث عن امتلاء القصيدة بالأشياء. القصيدة الآن لم تعد تدور حول ذات ترى بل حول أشياء تتحرّك بنفسها مستقلّة عن ذات الشاعر الذي يرى. هل هذا إمعان في الواقعية؟ إنّك تجد حين تقرأ القصيدة خليطاً من الأشياء المادية والتفاصيل لا يربط بينها إلا حروف العطف. هل هذا الشعر أشد واقعية من الشعر الآخر؟ أنا لا أميل الى هذا الشعر وأعتقد بأن هذا الوصف بقية من نسبة القصيدة الى موضوعها لا الى لغتها. ولا بدّ من البدء من اللغة. وحين نبدأ من لغة القصيدة نعيد النظر في فكرة الغنائية.
ألم يكن للحركة السوريالية التي قادها جورج حنين وسواه في الخمسينات أي أثر فيك علماً أنّها كانت حركة طليعية وحديثة بل سبّاقة الى الحداثة في العالم العربي؟
- هذه الحركة ظهرت وأنا في نشأتي وانتهت عندما أصبحت قادراً على الاتصال بها. وصلت الى القاهرة واستقررت فيها العام 1955. جورج حنين أظنه ترك مصر العام 1956 وكان سبقه إلبير قصيري وأدمون جايبس في الهجرة الى باريس. وأعترف بأنني قرأت نتاج هؤلاء في فرنسا لاحقاً وعرّفني جاك بيرك رحمه الله بحفيدة أحمد شوقي وزوجة جورج حنين بولا العلايلي وكنت وصلت الى فرنسا العام 1974 وكان جورج حنين قد توفّي. وكانت هناك فرصة لأتعرّف على إدمون جابيس قبل وفاته وكان ساكناً قريباً منّي في باريس. وأعود الى هذه الحركة السوريالية التي عرفتها القاهرة وأقول إنّها كانت تحمل ميزتين: كانت أصيلة من ناحية اتصالها الوثيق بالأصول الفرنسية للسوريالية وكانت أصيلة أيضاً من ناحية وجودها في مصر لأنها كانت على سعي حثيث الى الإتصال بالثقافة العربية. كانت راغبة في أن تتعرّف الى الأدب المكتوب باللغة العربية، والرغبة هذه تظهر مثلاً في موضوعات إلبير قصيري في رواياته وقصصه، فموضوعاته هي من الشارع المصري. وتظهر الرغبة أيضاً في مجلة "التطور" التي صدرت باللغة العربية وكذلك في الترجمة التي كانوا حريصين عليها، وفي وفاء الحركة السوريالية لتلك العواطف الفيّاضة التي ظهرت في السوريالية الفرنسية وتتمثل في رفض الوعي أو الثقافة أو الفن في الحركة الثورية الشاملة. وقد اهتممت بالحركة اهتماماً خاصاً ولكن لاحقاً اعتبرت نفسي وارثاً لها وترجمت بعض قصائد جورج حنين على رغم أنّي لم أتأثر بهذه الحركة تأثراً مباشراً. وربّما لو رجعت سنوات الى الوراء لوجدت أن بعض ما كنت اقرأه مثلاً لبشر فارس كان من قريب أو بعيد له علاقة بالسوريالية. ولكن بشر فارس لم يكن سوريالياً طبعاً بل كان رمزياً ولكن علاقته بالشعر الفرنسي والثقافة الفرنسية عموماً وبهذا الوسط تحديداً كانت قوية. ولذلك أستطيع أن أقول إن بعض ما قرأت له في الشعر وفي النثر ربّما كان هو أول ما ربطني بالحركة السوريالية المصرية.
تدعو غالباً الى امتلاك لغة قومية يستطيع بها العرب أن يفكّروا ويكتبوا ويؤلفوا... ماذا عن هذه اللغة القومية؟ وهل من لغة قومية ولغة غير قومية؟
- طبعاً. اللغة القومية تعني اللغة المحمّلة بالتراث القومي، بذكريات القومية، بالخبرة القومية، أي خبرة جماعة بالذات. واللغة في الحقيقة ليست إلا هذه الخبرة. لأن البشر جميعاً يفكرون والبشر جميعاً يتكلّمون ولكن تتعدّد اللغات لأن طرق التفكير تتعدّد. ليست اللغة إلا طريقة خاصة في الكلام وفي التفكير كذلك. ولكن هناك استخدام للغة لا يتميز بهذا الوفاء وهو يحمل قدْراً من التفريط في الخبرة القومية. ونحن شئنا أم أبينا نتحدث عن لغة نتعلّمها، لغتنا القومية نحن نتعلّمها، وإن لم نتعلّمها لا نستطيع الكلام بها ولا نستطيع أن نفهمها وأن نكتب بها. وطالما نحن نتعلّمها فلا بدّ من وجود حاجز ووجود طرق متعددة لتعلّم هذه اللغة ولا بدّ أيضاً من وجود لغات مختلفة. فاللغة التي تستخدم في الصحافة، مثلاً في الصحف اللبنانية، تختلف عن اللغة التي تستخدم في الصحف المصرية وكذلك عن اللغة التي تستخدم في الصحف التونسية. إذاً أنا أطالب بأن تكون اللغة قومية في معنى أن تكون وفيّة للخبرة الخاصّة التي نكون بها عرباً أي مختلفين عن غيرنا من الأمم على رغم أننا مشتركون مع كلّ أمم الأرض بأشياء كثيرة.
تتحدث عن الشعر الراهن أي الشعر الجديد بإحساس من الخيبة وكأنك لا تؤمن بما يُكتب حالياً علماً أن الشعر الجديد استطاع أن يفرض نفسه ويحقق إنجازات مهمّة: من أين يأتيك الإحساس بالخيبة هذا؟
- أولاً أجد أنه لم يعد لدينا شاعر مهمّ في ما يُسمى بالاتجاه الكلاسيكي، بوفاة الجواهري وعمر أبو ريشة وبدوي الجبل وبشارة الخوري من قبل إضافة أيضاً الى بعض الشعراء المصريين والعراقيين وسواهم. ربّما لم يعد لدينا إلا شاعر كلاسيكي واحد هو الشاعر اليمني عبدالله البردوني. أما الشعراء المجدّدون فلم يبق منهم إلا عبدالوهاب البيّاتي. نازك الملائكة كفّت عن الكتابة وتعاني حالاً مرضية صعبة. أدونيس لا أرى أنّ له شعراً الآن. محمود درويش ينتمي الى جيل آخر وكذلك سعدي يوسف... أما الجيل الذي تلا هؤلاء فعندنا في مصر أمل دنقل الذي رحل، عندنا محمد عفيفي مطر وهو يعاني مشاكل صحية إلخ... ولم يبق إلا محمد ابراهيم أبو سنّة وفاروق شوشة. وفي لبنان هناك محمد علي شمس الدين الذي لا يزال يعمل بجديّة، وهناك المنصف الوهايبي في تونس. أما الأجيال التي تلت فبعض شعرائها يملك مواهب كبيرة: حسن طلب وعبدالمنعم رمضان في مصر. ولدينا الآن الأجيال الجديدة التي تكتب قصيدة النثر. هذا الحال طبعاً ليس ساراً جداً وفي ظنّي أنّه حين تكفّ الحركة الشعرية في بلد من البلاد عن أن تنجب شعراء من تيارات مختلفة فهذا في رأيي أولاً دليل قاطع على الفقر والعقم. وفي اعتقادي أنّ ممّا يشكل ضمانة أساسية لصحّة حركة التجديد التي أنتمي إليها أن يكون ثمّة شعراء كلاسيكيون ورومانطيقيون. حين نشأنا في مصر كان هناك عزيز أباظة وصالح جودت ومحمود حسن اسماعيل وغيرهم... ولكن عندما تكفّ الحركة الشعرية العربية كلّها عن أن تنجب شاعراً جديداً آخر يكتب شعراً موزوناً في أي نحو من الأنحاء فهذا في رأيي خراب. لو كان كلّ شعراء الأجيال الجديدة يكتبون قصيدة واحدة هي مثلاً القصيدة الكلاسيكية أو الحرّة فهذا أعدّه أيضاً فقراً. هذا هو مصدر موقفي: عدم التنوّع الذي يدلّ على انعدام وجود السؤال وانعدام وجود القلق. والقلق في رأيي هو شرط للإبداع. وإذا لم يوجد هذا القلق وإذا كان الشعراء كلّهم يكتبون قصيدة واحدة فهذا يعني أن الأمر مخيف.
تدافع دوماً عن الإيقاع في الشعر وتعتبر أن قصيدة النثر ليست شعراً والغريب أنّك تستشهد في كلامك أحياناً بشاعرين لم يكتبا إلا قصيدة النثر وهما سان جون بيرس ورينه شار! ألا تعتقد بأن قصيدة التفاعيل استهلكت نفسها ولم تعد تأتي بجديد؟
- لا. لا ينبغي أن نردّ عيوب الشاعر الى الشعر. فإذا كانت قصيدة التفعيلة قد استهلكت نفسها فليس الوزن هو الذي استهلك نفسه والدليل أن الوزن لا يزال موجوداً في الإنتاج الشعري العالمي وفي مختلف اللغات. ولا يمكن عقلاً أن نقول إن الوزن أصبح ضدّ الشعر. إننا ننتقل من قولنا إن الوزن شرط للشعر الى أن الوزن يمكن التخلّي عنه في مرحلة جديدة هي أن الوزن أصبح مضاداً للشعر... لا، لا... إنني لا أدافع عن شكل معيّن من أشكال القصيدة الموزونة، إنني أدافع عن هذا العنصر الذي أعتبره عنصراً أساسياً للشعر. إما أن نقول إن قصيدة التفاعيل استهلكت نفسها فلنعد إذاً الى القصيدة التقليدية، لنعد الى الموشح. وأعتقد بأن علينا أن نمزج بين القصيدة الموزونة وقصيدة النثر. إنني أستطيع أن أفهم وجود مقاطع نثرية في داخل قصيدة طويلة، لكنني لا أستطيع أن أفهم أن تصبح قصيدة النثر هي الشكل الوحيد الموجود في الحركة الشعرية العربية كلّها من الخليج الى المحيط. هذا هو الفقر وهذا هو الخراب.
ألا تعتقد بأن الشعر هو شعر سواء كان تفعيلياً أم نثرياً وأن المهم هو شعرية النص؟
- شعرية النص؟ إذاً الشعرية ليست جوهراً مستقلاً عن النص أي ليست جوهراً مستقلاً عن الأدوات. وما دمنا نقول ذلك فإن الشعرية تصبح مرتبطة بشروط في النص. ما الذي يميّز نصاً شعرياً عن نص آخر؟ لا شك في إن ممّا يميّز بينهما هو الإيقاع. الشعرية إذاً ليست مستقلّة بذاتها عن الإيقاع.
لكنّك في رفضك قصيدة النثر تلغي شعراء كباراً في العالم كتبوا قصيدة النثر؟
- لا ألغيهم بل إنني أعترف بشاعريّتهم. أنا لست من أهل اللغة الفرنسية لكنني أستطيع أن أقرأ سان جون بيرس مثلاً وأستطيع أن أترجم بعض شعره وقد فعلت. وهكذا أيضاً مع رينه شار على أنه صعب ووعر لكنّه مقروء خصوصاً قصائد النضج الأخيرة، القصائد القصيرة والممتعة الرائعة. فهي أشبه بالحِكَم والعِبَر التي نعرفها في اللغة العربية. ولهذه القصائد مرجعيتها الخاصة، ومرجعيتها قد تكون في الكتب المقدسة وفي الحكم القديمة. ونحن نستطيع أن نجعل القرآن الكريم نفسه مرجعاً لقصيدة النثر. ممكن. ولكن على أن نفعل ذلك على قدْر كبير من الاحتراس والحذر وأن نجتهد في إبراز العناصر الإيقاعية وفي بلورتها، وعلى الشعراء والنقاد أن يدلّونا من ناحية أخرى على الطريقة التي نستطيع بها أن نعوّض إيقاع الوزن المفقود بإيقاع آخر موجود ولكننا لا نعرف أين. أما سان جون بيرس ورينه شار فإني أضعهما في إطار علاقتي بالشعر الفرنسي وإنني أجد أن الشعر الفرنسي ككلّ ليس هو بيرس وشار فقط، هناك إيلوار وأراغون وهناك مالارميه وهو شيخ المجدّدين الكبار وشعره الحقيقي تلك التماثيل المرمريّة الموزونة والمقفّاة.
لكنّ مالارميه أنهى تجربته في قصيدة نثرية هي "ضربة نرد"...
- إنتاج الشاعر لا يقاس بالقصيدة التي أنهى بها تجربته. إن نتاج مالارميه الحقيقي هو الموزون والمقفّى. بول فاليري كذلك لم يتجلّ صنيعه إلا في شعره الموزون والمقفّى.
لماذا تصرّ على هذا السجال بين الشعر الموزون وقصيدة النثر وقد تخطاه الشعر العالمي ولم يعد مطروحاً عالمياً؟
- إننا لا نكتب الشعر موزوناً أو غير موزون أو على هذا النحو أو ذاك وفقاً لرؤية الأوروبيين وكتاباتهم. إننا نكتب لنلبّي حاجاتنا وحاجات قرائنا ونلبّي حاجات في لغتنا. فلغتنا هي التي ترشح لنا الأشكال الكتابية. وكلّ لغة تفرض عبقريتها وحاجاتها. والشاعر لا بدّ أن يستفتي نفسه، وهو لا يستطيع أن يستفتي نفسه إلا إذا كانت علاقته باللغة جيّدة وكذلك علاقته بأدوات التجربة الشعرية. وأنا في النهاية اتخذ هذا الموقف الصلب من قصيدة النثر لأن هناك طغياناً وربّما أستطيع أن أفهم وجود قصيدة النثر وجوداً في حدود المعقول. فهي كانت موجودة في كتابات بعض الشعراء والكتّاب من أمثال حسين عفيف في مصر وأمين الريحاني وجبران في لبنان. إنّما طغيان قصيدة النثر وما يشاع حولها اليوم وما يكتب عنها من كلام غير مسؤول فهذا ما لا أقبله. كأن يقال إن قصيدة النثر هي الأكثر حداثة والأكثر عمقاً والأكثر تحرّراً... هذا كلّه كلام فارغ.
لكن لقصيدة النثر نظاماً خاصاً وليست ناجمة عن حال من الفوضى! وقد حدّدت الناقدة الفرنسية سوزان برنار شروطاً لقصيدة النثر.
- سوزان برنار حدّدت نظاماً مأخوذاً من قصيدة النثر الفرنسية! أليست اللغة مجموعة أصوات في الأصل؟ إنّها مجموعة أصوات. اللغة ليست كتابة إنها أصوات في الأصل. وما دامت اللغة أصواتاً فإن لكلّ لغة إيقاعاتها الخاصة. وما يقال عن أي لغة في الإيقاعات لا يقال عن لغة أخرى. الفرنسيون مثلاً ينظمون أشعارهم على البحر الاسكندري. نحن ننظم على البحر الطويل والبحر القصير وسواهما... وما دامت المقاطع العربية مختلفة عن المقاطع الفرنسية فإن الأصوات هنا تختلف عن الأصوات هناك. تستطيع طبعاً أن تتحدث عن عناصر مشتركة هنا وهناك...
لأن الشعر هو شعر في أي لغة كان...
- طبعاً. تستطيع أن تتحدث عن الصورة الشعرية، عن المجاز، عن الاستعارة وكذلك عن الإيقاع في المطلق، عن الإيجاز... لكن في النهاية عندما تطبّق تجد أن عليك أن تراعي الاختلاف في اللغة.
أنت شاعر مقلّ نسبيّاً فدواوينك لا تتعدى السبعة: إلام تعزو هذا الإقلال؟ هل يعود الى طبيعة عملك على القصيدة؟
- ليس من سبب واحد. إنني من الذين يعملون على القصيدة ولا أكتب الآن بتلقائية. إني أعمل كثيراً على القصيدة وأشكّك في قيمة ما أكتب وأراجع ما أصنع. وأعترف أن لا وقت لديّ لإكمال المحاولة. لا أملك دائماً الوقت لأنهي محاولاتي التي ابدأها. ابدأ الكتابة ثم أجد نفسي مضطراً الى السفر أو الى كتابة المقالة الأسبوعية فأتوقف ثم أعود للمحاولة من جديد. وفي أحيان تقلّ حماستي وهكذا تضيع أشياء كثيرة وإذا اكتملت فهي تكتمل على مدى طويل.
إذا بحثت عن آثارك في الشعراء الذين توالوا من بعدك فهل تجدها؟ وفي أي الشعراء الجدد أثّرت شعرياً؟
- أعتقد بأن أمل دنقل مثلاً هو الإمتداد الأساسي لي وأعتقد بأنه من أهم الشعراء المصريين والعرب في جيله. وهناك جيل الستينات الذي لا يخلو منه شاعر لم يتأثر على نحو أو آخر بشعري. حتى صلاح عبدالصبور تأثر بي وأنا تأثرت به. وأستطيع أن أحدد أين تأثر بي وأين تأثرت به. وهذا يحدث بين الشعراء المتجايلين، فالحركة كانت واحدة ومشتركة وكنّا لا نفترق خصوصاً أنا وصلاح في فترة الخمسينات والستينات. آنذاك لم نكن تزوّجنا وأسسنا أسراً… وكنّا نعمل معاً في "روز اليوسف".


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.