من الصعب على المرء أن يقول اليوم ان الفكر العربي النهضوي لم يكن محقاً في اعتراضه على عدد كبير من المقولات، العنصرية أحياناً، التي جاء بها المفكر الفرنسي أرنست رينان خلال النصف الثاني من القرن التاسع عشر، والتي أنكر في بعضها على الفكر العربي أية عقلانية أو نزعة الى التطور واسماً إياه بأنه فكر غيبي يبني نفسه على الأساطير، ويضع سداً منيعاً بينه وبين أفكار الآخرين. ومع هذا لا يسع المرء اليوم أيضاً، إلا أن يقرأ بكثير من الإعجاب القسم الأكبر من صفحات أو فصول واحد من أهم الكتب التي وضعها ارنست رينان نفسه، ونعني به "ابن رشد والرشدية"، الذي نقله فرح انطون الى العربية وعلق عليه بكثير من الايجابية، بل خاض في شأنه سجالاً حاداً وعنيفاً مع محمد عبده، الذي أخذ على الكتاب ومؤلفه مآخذ كثيرة. والحال ان وقائع السجال بين انطون وعبده تعتبر من قمم الحوارات الفكرية في عصر النهضة. وقد تعود اليها هذه الزاوية يوماً. أما الموضوع هنا فهو كتاب ارنست رينان، الذي كان واحداً من النصوص الجادة التي عرّفت، غرباً وشرقاً، بإبن رشد في العصور الحديثة، بل أسهبت في الحديث عن فضل فيلسوف قرطبة الكبير على الفكر العالمي. طبعاً يمكننا القول هنا ان ارنست رينان لم يفته ان يستمر كتابه، والحديث عن محنة ابن رشد فيه كما عن مصير الرشدية نفسها في العالم العربي الإسلامي، للطعن في الحضارة العربية. غير ان هذا الجانب الايديولوجي، الذي يبدو في لحظة صفاء مقحماً على الكتاب من دون أن يشكل جوهراً فيه، لا يكاد يقلل كثيراً من شأن النص الآخر: النص الذي يعرض فيه رينان حياة ابن رشد وفكره وزمنه، واصلاً الى الإسهاب في الحديث عن مناوأة الكنيسة المسيحية له، وكيف ان عدداً كبيراً من مفكري العصور الوسطى الغربيين، ولا سيما في إيطاليا عشية النهضة، لم يأبه بموقف الكنيسة وهجومات الفكر المتزمت على ابن رشد، فاتبعه مفكرون في أفكاره وأقاموا من حول تلك الأفكار سجالات صاخبة كان همها أن تعيد، مثلاً، الى ارسطو - الذي شرح ابن رشد أعماله الكبرى وأحيا فكره في أوروبا في العصور الوسطى - اعتباره العقلاني ضد الكنيسة التي حاولت، من طريق توما الاكويني وبطرس الأكبر تأميمه وربطه بالفكر المسيحي. والحال ان قراءة منصفة لكتاب ارنست رينان تجعلنا نكتشف ان هذا هو في الحقيقة الجانب المهم الذي شاء الفكر الفرنسي أن يبرزه، إضافة الى اهتمامه بالطابع التراجيدي لحياة ابن رشد وفكره، إذ بدا في زمنه محاصراً، من التعصب الديني الإسلامي في الأندلس، ومن الكنيسة المسيحية في أوروبا. ومع هذا لا يفوت رينان ان يؤكد في ثنايا كتابه، ان ابن رشد لم يكن ملحداً، ولم يقف أبداً بالتعارض مع الدين الإسلامي أو مع الدين المسيحي، بل انه لطالما سعى الى التوفيق "بين الحكمة والشريعة". ولكن من الواضح ان جريمة الرجل الكبرى كانت اتباعه سبيل العقل، والتأكيد أن استاذه الكبير أرسطو من قبله اتبع العقل. ورينان يعرض لنا بالتفصيل هذا الجانب العقلاني في فكر ابن رشد، سواء أتى ذلك في نصوصه الخاصة أو في شروحه على نصوص أرسطو. تلك النصوص التي كانت أوروبا فقدتها - بل نسيتها - منذ زمن بعيد، فإذا بابن رشد يحييها ويترجمها ويفسرها، ويقدمها الى أوروبا معصرنة طازجة، قيد التبحر والاستخدام. وكان هذا ال"أرسطو" الذي قدمه ابن رشد عقلانياً يقف موقف الضد تماماً من "أرسطو" المثالي الذي حاول الفكر التقليدي تسويقه. وكان هذا، في حد ذاته كافياً، لإثارة الغضب الرسمي على ابن رشد، وليس في الأوساط الكنسية وحدها، بل في الأندلس أيضاً، إذ ان ابن رشد بعدما نال حظوة السياسيين القادة، عاد تحت ضغط الشارع وتحريض المتعصبين، يلقى عنفاً من لدن حماته أنفسهم، إذ وجدوا في اضطهاده مرضاة لشارع كان يصخب بالتعصب فيما الصراعات الكبرى والحروب تقترب. ولكن فكر ابن رشد، لم يغب على رغم غياب صاحبه - كما يؤكد لنا رينان - إذ ان عدداً كبيراً من المفكرين الأوروبيين، ولا سيما المنتسبون منهم الى مدرسة بادوفا الإيطالية، تلقفوا تلك الأفكار، وغالباً في ترجمات لاتينية وعبرية، وراحوا يبنون عليها فلسفة بدت شديدة القرب الى العقلانية، من دون أن تصل في ذلك الى أي تناحر مع الدين. أو هذا، على الأقل، ما أكده أرنست رينان في كتابه الرائد هذا. ومن المعروف ان رينان بذل جهوداً كبيرة خلال عمله على هذا الكتاب، وخصوصاً في مجال اكتشاف الكثير من المخطوطات العربية والعبرية واللاتينية التي كانت نادرة الوجود في زمنه. ومن هنا نظر تاريخ الفكر الى كتابه هذا، ليس فقط باعتباره نصاً جميلاً وإن كان مثيراً للسجال، حول مفكر عربي بجّله دانتي في الكوميديا الإلهية" ورسمه رافائيل بين شخوص لوحته "مدرسة أثينا"، بل كذلك وخصوصاً باعتباره كتاباً أساسياً في تاريخ الفلسفة وفي تاريخ فكر العصور الوسطى الأوروبية خصوصاً. وأرنست رينان، الذي كان الفكر النهضوي العربي محقاً في عدم استساغة كل أفكاره وهضمها كان كاتباً وفيلسوفاً ومؤرخاً فرنسياً متنوع المواهب موسوعي المعرفة والاهتمام. ومن أبرز كتبه اضافة الى "ابن رشد والرشدية": "مستقبل العلوم" و"مآس فلسفية" و"تاريخ جذور المسيحية"، إضافة الى دراسات مهمة حول اللغات السامية.