سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.
صناعة 11 أيلول سبتمبر من خلال كتب خمسة : 11 أيلول في ميزان ثلاثة من أبرز المفكرين الاميركيين الحركات الأصولية في مقدماتها الأيديولوجية وصِيَغها التعبيرية 1 من 3
تسبب 11 أيلول سبتمبر بصدور كتب غدت تشكل مكتبة بسائر لغات العالم. فإلى الوجه البوليسي والملغز للحدث، هناك أبعاده التي يمكن القول، من دون مبالغة، انها أبعاد الوجود الانساني نفسه. ف11 أيلول، الذي شاهده الكون بأسره وسقط نتيجةً له ضحايا من العالم أجمع، عنى دول المعمورة وثقافات مجتمعاتها من دون استثناء. فهو حدث سياسي، سجالي وتحليلي في وقت واحد، يطاول دواخل البلدان كما العلاقات في ما بينها، أصاغتها الديبلوماسية أم صاغتها الحرب. ذاك أن 11 أيلول حدث في علم الحرب، وحدث في علوم الديبلوماسية. لكنه أيضاً حدث اقتصادي ونفطي ذو معانٍ جيو-استراتيجية. وهو حدث فلسفي وفقهي يتصل بمفاهيم الحداثة والفردية اتصاله بالأديان والاصلاح الديني، تماماً كما هو حدث ديموغرافي وسكاني وثيق الصلة بعمليات الاصلاح الزراعي والتمديُن والتصنيع، وبالنسل والانجاب. وهو حدث ثقافي وتعليمي واعلامي يطاول الكتب التي تُدرّس، والمقالات التي تُكتب، والمثالات التي تعمّ. الا أنه، كذلك، يتعلق بالتنمية والعلاقة بين الغنى والفقر، وبين مُصدّري العمالة المهاجرة ومستقبليها. وهو حدث هندسي لجهة اتصاله بالعمارة وناطحات السحاب، وحدث سينمائي في حركته واحتلاله موقعاً في تاريخ السينما، أو لاحتواء السينما عليه قبل وقوعه. والمؤكد أن 11 أيلول حدث تلفزيوني في ارتداده على حركة الاقبال على التلفزيون، وعلى السياسة من خلاله، كما في انعكاسه على طرق التناول ونظام الأوليات والأولويات فيها. وهو حدث للرواية، الخرافي منها والواقعي على السواء، فيما هو، بالطبع، حدث أمني بامتياز زادت الادارة الأميركية الحالية في جعله هكذا. والكتب التي اختيرت، هنا، عن 11 أيلول الذي "تغير بعده كل شيء"، لا يسعها ان تصف الا القليل من ملامحه الكثيرة. وفي السعي وراء هذه الملامح كان من الطبيعي الاغفال عن أوجه عدة تنطوي عليها الكتب المذكورة، كما غُضّ النظر عن جوانب مختلفة تناولتها هذه الكتب فاستحقت النقد على بعضها والتثمين على الآخر. ليس الكاتب البريطاني ماليس روثفن قليل الدراية بالنص القرآني وتاريخ الاسلام. هذا على الأقل، ما يدل اليه كتاب "غضب في سبيل الله" وكتب اخرى سابقة اهمها "الاسلام في العالم". وهو من معرفته هذه، يرفض كل تعميم او تنميط في ما خص الاسلام كما يرفض حصر العنف السياسي والديني فيه وفي حركاته. فهو اذ يتناول "الجهاد" واقعاً ومفهوماً، لا تفوته تجربة السيد احمد خان في الهند الذي ساجله جمال الدين الافغاني وهاجمه، أو تجربة الحبيب بورقيبة في تونس، وهما من أوّلا "الجهاد" بطريقة لا تمتّ بمطلق صلة الى التأويل النضالي. فالأول المتأثّر بتردي أوضاع المسلمين في مقابل التحسّن الذي طال الهندوس المتعاونين مع بريطانيا، ركّز على التعليم والمسالمة بصفتهما الجهاد. كذلك اعتبر أن الجهاد لا يجوز ضد البريطانيون الا متى منعوا المسلمين من ممارسة عباداتهم وأداء فرائضهم. وبدوره ذهب بورقيبة الى أن الخروج من التخلف هو الجهاد لأن "العيب" الأكبر هو في البقاء في التخلف. وما دام المجاهدون يُعفون ديناً من فريضة الصوم، جاز اعفاء العمال منها لأنهم إنما يخوضون الجهاد في سبيل تحسين الانتاج والانتاجية. ولم يفت الكاتب التذكير بأن شريف مكة، الحسين بن علي، لم يأخذ بإفتاء المرجعية العثمانية حين رأت أن الحرب ضد البريطانيين جهاد، فحالف الانكليز في ما عُرف ب"الثورة العربية الكبرى". وأهم من هذا ربما أن الحركات الجهادية الكبرى في التاريخ الاسلامي الحديث توجّهت في أغلبيتها الساحقة ضد مسلمين آخرين. وربما كانت المهدية أبرز الحركات القليلة التي أطلقت الجهاد ضد غريب أجنبي. لكن سيد قطب، ومعه مولانا أبو الأعلى المودودي، هو من يُعدّ مُلهِم 11 أيلول تبعاً لتأثيره الضخم على الجماعات الاسلامية والراديكالية اللاحقة. ودائماً، وعلى ما فعل جون كالفرت وجيل كيبيل وغيرهما، يمكن الرجوع الى إقامة سيد قطب في الولاياتالمتحدة واعادة بناء تلك التجربة بما فيها من عزلة وعقد جنسية. فهي تسلّط الضوء على عناصر الكراهية لأميركا لدى الاسلاميين، بوصفها مواد ثقافية تفيض عن السياسة بقدر ما تغذّيها. لكن القيادي المصري الذي مقت الثقافة الشعبية للاميركان، بما فيها موسيقى الجاز حيث يعبّر السود عن "غرائزهم"، هو من اكتملت صناعته في التعذيب المديد للسجن الناصري، قبل ان ينتهي به المطاف الى المشنقة. هذه التمييزات هي المفاتيح في رسم البروفيل الاصولي. فالاسلام الذي زعمه الاسلاميون اقرب الى تأويل المسيحية مفهومَ الألوهية ما قبل كانط، أي ميتافيزيقياً وحَرْفياً، مع اشتقاق الممارسة العملية على نحو آليّ ومتعجّل. لذا رأى الاصوليون، منذ قطب، في الآيات تعاليم للتنفيذ الفوري مُسقطين عنها الظلال الرمزية واحتمالات المجاز والكناية، وعازفين عن الغنى الدلالي وفُرص التفسير الفردي والحر. واذا أمكن هؤلاء، او بعضهم، إحراز خلفية علمية تقريرية وآحادية الوجهة فيزياء، رياضيات الخ، بقي مستحيلا عليهم تحصيل خلفية مماثلة في الثقافة والفنون المتعددة الأبعاد والمتضاربة تضارباً لا يؤول الى وجهة او مهمة للتنفيذ. والحال ان جماعات التكفير اقلية اقلوية بالضرورة. فما دامت تكفّر في سرّها كيما تستمر على عيشها في المجتمع، وما دام الشيوخ التقليديون الذين تصلي وراءهم هم في عداد مَن تكفّرهم، فإنها مدعوّة حكماً الى تطوير تقنيات التقية الحزبية، الماتحت-أرضية. اما الذين ينقطعون بالكامل عن العالم "الجاهلي"، رافضين حتى الصلاة في الجامع، على ما كانت مجموعة شكري مصطفى المصرية، فانقطاعهم عَلَم على هامشية مطلقة تجعلها ممارسات جنسية وكوميونية مجتمعاً مضاداً ومغلقاً. وفي مصادرها الثقافية، تبدو الاصولية السنية اكثر بكثير من الشيعية اعتداداً بأصالة فكرها. ففيما اعترف الايراني علي شريعتي بديون ماركس وفانون وسارتر وماسينيون عليه، لا نجد هذه الرحابة لدى نظرائه السنة، ما خلا استشهادات ايجابية اوردها المودودي وقطب بأليكس كاريل، الكاتب الفرنسي الثانوي والقريب من الفاشية. و"العناد الثقافي" هذا وثيق الصلة بتغليب الوحي على العقل، وهو ما تُردّ أصوله الى هزيمة المعتزلة العباسيين. فبعد ذاك ارتبط كل تطور علمي/ عقلاني بتصادمه مع الكثرة، ما جعل الفلسفة تنمو مُحاصَرة، والأخذ من الآخر الغربي مرفوضاً الا متى كان المأخوذ من طينة العلم "الحيادي". ولذا قاد مراجع الفقه الأصوليون الشيعة الحركات التي قاد مثلها عند السنّة ذوو الثقافة الدينية الحَرْفية، فضلاً عن طلاب التعليم التقني و"العلمي" الحديث. وما تسميه فاليري هوفمان "الانسلاخ النفسي والاجتماعي" هو ما يراه روثفن أصحّ من التحليل الاقتصادي بانسداد فرص العمل امام الشبان. فأيمن الظواهري جرّاح أطفال، ومحمد عطا مهندس معماري وخبير في تخطيط المدن، وكان يسعهما ايجاد والانضمام الى نخبة بلدهما، او الهجرة والعمل في الخارج. لكن الحاسم، في المطاف الأخير، هو التمزق بين ماضٍ تقليدي وتعليم عالٍ وعلماني مضمونه غربي ومديني. وهنا تلعب الهوية دورا محوريا فيما تتركّز صدمة الغرب و"علمه" في المدن والجامعات، لا سيما الكليات التطبيقية. فاذا وسع طلاب الانسانيات ان يتعرضوا لنقد الثقافة الغربية، وان يقعوا على مواطن ضعفها، فطلاب العلوم والتكنولوجيا يرونها واحدة متماسكة تنحو الى الهيمنة. لذا وصفوها بالخلو من القيم قياسا بثقافة اسلامية لم تعد تزوّد، في زحمة المدن والتباسها، الا القيم الاخلاقية. ويحتل الجنس موقعا ملحوظا في موضوعة الهوية. فالغرب يتبدى "غاوياً" والشيطان غاوٍ بامتياز، وهو ما ينطبق خصوصاً على مسلسلات التلفزيون الاميركية. فهي بصفتها تسليةً تؤكد القيم الأخلاقية عبر مسْرَحَة الاخفاقات الاخلاقية، لا تستطيع ثقافةٌ حَرْفية بالغة الأدْلجة والتعبوية الا ان تراها تمثيلات دقيقة للحياة الاميركية او "الغربية" عموماً، وهي نظرة يعززها ضعف التقليد الدرامي في الثقافات غير الأوروبية. لكن في ظل هُجاس النقاء الجنسي، تتحول المرأة رمزاً للهجوم الغربي بقدر ما تتحول المرأة المسلمة هدفاً له، ما يجعل موضوع النساء احد اهم شواغل الاصوليات. وهي عملية يفاقمها الاقتلاع السكاني والتمديُن وضمور العائلة التقليدية: فهنا، خصوصاً، يكمن عداء الأصولية للحداثة. ولما كان العمل "الحديث" يدعو النساء اليه، يناط بالفصل الجنسي وبالزي الاسلامي ان يردعاه حمايةً للمرأة. ثم اذا قامت الحداثة على "مأسسة الشك" بحسب انتوني غيدنز، فهذا ما يطرح على الاصولي إشكالاً معقّداً، خصوصاً ان الشك الممأسس انجب للغرب نتائج مادية صلبة يستحيل إنكارها. ولتلافي المأزق لا يلجأ الأصوليون، على ما فعل القوميون العرب الطامحون الى حداثة ما، الى التغني بنجاحات العرب والمسلمين العلمية في حقب سابقة، إذ تغنٍ كهذا لا يعني الا التسليم بقياسات تؤكد تفوق الغرب الآن. بل يلجأون، في المقابل، الى اتهام الغرب بالانحطاط جملةً وتفصيلاً، مع تأكيد ان الحقائق العلمية محتواة اصلاً في النص المنزل. وهذه كلها عناصر إفقار ثقافي لا تكف عن التداعي والتكرار. الا ان ذلك لا ينفي تأثراتٍ عَرَضية موعاة او غير موعاة. فبعض جماعاتهم الأولى، كمجموعة صالح سرية في مصر، تأثرت بتنظيمات فوضوية ويسارية ارهابية كشلّة بادر - ماينهوف الالمانية. ذاك ان الطرفين على خلافاتهما الكثيرة، تربطهما نظرة أممية، ولو بمعنى سلبي، مفادها العداء لأميركا واسرائيل. وهما رومنطيقيان في التعامل مع السياسة التي يُخضعانها الى طوبى هي، عند الاصوليين، بعث ماضٍ ذهبي للاسلام، وعند بادر - ماينهوف إدراك مستقبل اشتراكي لا يقل ذهبيةً. بل ثمة شَبَه بين أولريك ماينهوف التي لم تنضج عاطفياً، بعدما آمنت في صغرها وتأجج حسها العدالي ورغبتها في الانتقام من اللاعدالي، وبين محمد عطا في صلته بوالديه، خصوصاً أمه، وعلاقته بالجنس والعواطف، ومن ثم ارتباط تديّنه البالغ بطهرانية جنسية سعى اليها قطب قبله. ولم يكن مستغرباً أن يتعاظم انشداد عطا الى طهرانية كهذه في هامبورغ، حيث عدد المواخير أعلى منه في أية مدينة ألمانية. هكذا لم يكن 11 ايلول بالنسبة الى هؤلاء تعبيراً عن بطولة إسلامية بقدر ما كان تعبيراً عن يأس نيتشوي. فهم غاضبون في سبيل الله، كما يقول عنوان الكتاب، يذهبون في غضبهم بعيداً حتى لكأنهم يستجيبون الشعار الشهير لبادر - ماينهوف: "لا تجادل، دمّر". أما أفغانستان فلم توفّر لمن صاروا "الأفغان العرب" غير تكريس هذا الإدقاع. فتثقيفهم السياسي هناك لم يشبه مثيله لدى شيوعيي حروب العصابات، خصوصاً الفيتناميين منهم المهتمين ب"كسب القلوب والعقول". فقد اقتصرت تعبئتهم على العداء ل"الشيوعية الملحدة" من دون التعرف الى ايجابيات حليفهم الأميركي يومذاك، كالديموقراطية وحكم القانون وسائر القيم المنتمية الى المستوى التاريخي نفسه. وفيما لُقّن الفيتناميون، ولو بفجاجة وابتذال، تثمين كتابات ماركس وانغلز ولينين وماو، فأيٌ من المجاهدين لم يسمع ببنجامين فرانكلين او توماس جيفرسون. وكان من نتائج الاكتفاء الذاتي بالخام، معطوفاً على التفاعل مع بلد مجزأ اثنياً وتنظيمياً على نحو فاقمه الحلفاء الباكستانيون، عدم التأسيس لأي وعي عابر للحدود الصغرى. ثم ان افغانستان اختلفت عن فيتنام التي عرف مجتمعها، ومن ثم كوادر حزبها ممن صاروا حكامها، تحولا عميقا وضخما على مدى حربهم. فالمجاهدون لم يكونوا غير أدوات لصواريخ "ستينغر" الاميركية العاملة بموجب نُظُم توجيه الكتروني، حتى قال أحمد شاه مسعود مرة: "على الافغاني ان يمتلك شيئين فقط: القرآن وصواريخ ستينغر". هكذا فالانضباط الثوري، الضروري لتطوير المهارات الحربية، وهو ما عمل ماو وجياب ومفوّضوهم السياسيون على بثه في كوادرهم، وبالتالي في الفلاحين المقاتلين، اقتصر عند الأفغان وحلفائهم على استخدام السلاح، فلم يكن تأهيلهم ليتعدى يومين من التدريب! ولئن صدر الأفغان العرب عن بيئات متخلفة، فمخيمات اللاجئين في باكستان حيث تطويع الأنصار و"تسييسهم"، لم تعرف شيئاً عن الديموقراطية وحقوق المرأة والقانون. لا بل بدت هذه القيم مُعادية ترتبط ب"العدو" الشيوعي الذي يقاتلونه، او بحضارة "غربية" لا يراد منها الا الصواريخ. هكذا سجّلت هذه البيئة حالات رهيبة كموت نساء رفض أزواجهن ان يطببهن رجال، ووفاة مقاتلين أبوا بتر بعض أعضائهم المسمومة خشية الظهور، يوم الحساب، في مظهر غير لائق. لكن الأصولي الفلسطيني الذي أسس "الافغان العرب"، عبدالله عزّام، ربما كان أول من طبّق مفهوم "الطليعة" او "النخبة" القطبية. فالانتقال الى افغانستان ولبس زيّها هما بذاتهما عمل تحويلي لخدمة انشاء جيش طليعته من العرب، يبعث "الأمة" ويحرر أراضيها "السليب" في فلسطين وبخارى واسبانيا. فأفكار قطب في هذا الشأن تكييف غير منظور لأفكار مبعثرة في البلشفية والفاشية. ذاك ان البحث عن العدل الاجتماعي وإحقاق الحق يدين بالكثير الى الماركسية والمثالات الاشتراكية، مع ان شريعتي هو وحده من بين الاصوليين، مَن اعترف بهذا الدَين. الا ان التشابه مع الفاشية يبقى اكبر، ومصدره ان الطرفين يشربان من ماء العداء للتنوير الذي تنتمي الماركسية اليه. فالطريقة التي يستحضر الاصوليون بموجبها الدين، كثيراً ما تذكّر بطريقة استحضار النازية انماطَ التفكير الميثولوجي ورموزه تعبئةً للجماهير سعياً وراء السلطة. واذا انطوى اختزال الاصولية الراديكالية الى "فاشية اسلامية" على تلخيص للمعاني، جاز ان عناصر الاشتراك لا يخطئها البصر. صحيح ان ظروف الحركتين متباينة، اذ فاشية العشرينات والثلاثينات الاوروبية تعرضت لدرجات من الفكر الحديث والتصنيع في جوارها، كما ان اياً من البلدان التي اعتنقتها لم يعرف الاحتلال او السيطرة الكولونيالية. لكن الصحيح ان الأساسين الايديولوجيين لهما ليسا ابداً متباعدين. فالفاشية ردت على الغموض والقلق اللذين اثارتهما الليبرالية، وعلى التحديث القسري الذي هددت به البلشفية، باللجوء الى النوستالجيا ورفض الإقرار بطابع العالم المعاصر. وبرفضها، مثلاً، مفهوم الصراع الطبقي، زوّرت الفاشية وجهها بصفتها ممثلاً لكل الطبقات مُصاغةً في "الأمة". واذا طبّقنا هذه المعادلة على أفغانستان واضعين الاثنية والقبيلة محل الطبقة، والاسلام محل الأمة، انتهينا الى نتائج مماثلة. اما "الثورة"، في الحالتين، فأقرب الى حرب لاستعادة ماضٍ ما والاستحواذ عليه، فيما تتحلل السياسة من التاريخ عند الحركتين لتمتلئ ب"الطبيعة" لدى الفاشيين وب"الدين" لدى الاصوليين. والراهن ان هذه النوستالجيا تربط الاصوليين بعموم الحركات القومية والاثنية، على رغم الخلاف السياسي العميق مع القوميين والاثنيين، كما يربطهم بهم الميل الى تقسيم العالم مانوياً الى "نحن" الأخيار، و"هم" الأشرار. وهذا، بدوره، موضوع يتخلل كتاب فريد هاليداي "ساعاتان هزّتا العالم" تُرجم الى العربية الذي ربما استوحي عنوانه من عنوان الصحافي الأميركي جون ريد "عشرة أيام هزّت العالم" عن ثورة أكتوبر الروسية. فالباحث البريطاني ذو الإسم المألوف لدى القارىء العربي منذ كتابه "جزيرة العرب من دون سلاطين"، يرى أن الحركات الأصولية كلها، لا الاسلامي فحسب، معادية للحداثة والديموقراطية تعريفاً. ف"الآخر" عندها مرفوض مبدئياً، وحيث تتشابك الهويتان الدينية والاثنية في احداها، يتكامل العداء للآخر حتى يصير اقرب الى العنصري. يصح هذا في نظرة الهندوس واليهود المتعصبين الى الاسلام بقدر صحته في نظرة المسلمين والعرب المتعصبين الى اليهود. أما المجتمع الذي يسعى الأصوليون اليه فلا يتمتع الآخر فيه بأية مساواة فعلية. وبعدم التسامح حيال المختلف ومعتقداته تنضح أدبياتهم، علماً أن المختلف قد لا يكون دائماً خارجياً: فالعلماني البروتستانتي والاندماجي اليهودي و"المتغرّب" المسلم هم الآخر الكريه في نظر الأصوليين من أبناء دياناتهم. بيد ان الهجومية العدوانية هذه غالباً ما تقلبها الأصوليات ضجيجاً مُبالغاً حول مؤامرات الآخرين عليهم، وحول كونهم ضحايا. والحق ان الحركات الأصولية كائناً ما كان تأويلها، ذات بُعد سياسي حاكم هو الاستيلاء غير الديموقراطي على السلطة. وهذا هو الهدف الذي تتشارك فيه مع حركات حرب عصابات غير دينية قومية ويسارية. من هنا فعداء بن لادن يستهدف في الشرق الاوسط نظام الدولة القائمة قبل استهدافه الولاياتالمتحدة. ثم ان صعود الاصوليات هو بذاته وثيق الصلة بطابع الدول وتركيبها. ففي بلدان كإيران ومصر والجزائر وتركيا، اتخذ الصعود شكل التمرد على الدولة. ولأن الأخيرة مُحدّثة نسبياً، تمثّل خصمها الأصولي في معارضات اجتماعية وسياسية. لكن الأمر اختلف في دول أضعف عوداً. وهنا، تحديداً، يكمن احد الصفات النوعية لتنظيم "القاعدة" الذي نما حيث حضور الدولة وتقليدها واهٍ. فلأن هذه البلدان لم تعرف الاستعمار فعلاً فهي لم تعرف الحداثة بالتالي. وأفغانستان والشطر الشمالي من اليمن مثالان صالحان: ففيهما لم يكن الأمر تمرداً على دولة تحديثية، بل تمرداً على وضع افتقر تاريخياً الى الدولة. وما دام أن الأصوليين سُلّحوا ومُوّلوا من دول أخرى، فهذا ما أتاح لهم التحول الى قوى فعلية في بلدان كاليمن وأفغانستان، لا بل نجحوا في عقد تحالفات مهمة مع سلطات هذه الدول ذات المركز الضعيف. فالأخيرة التي لم يسعها السيطرة على أريافها، ولا على الأصوليين بالطبع، إئتلفت معهم كما استخدمتهم ضد منافسيها. ففي افغانستان، استعمل "طالبانُ" "القاعدةَ" ضد "تحالف الشمال"، بعدما استُخدم الأصوليون الأبكر ضد الشيوعيين. وفي اليمن وظّف نظام علي عبد الله صالح الميليشيا الاسلامية ضد "الحزب الاشتراكي" خلال 1990-1994. وهؤلاء الذين استُخدموا هم أنفسهم مَن ربطتهم بالنخبة الحاكمة صلات الولاء والمصاهرة، بل هم الذين هاجموا في وقت لاحق 1999 السيّاح الأجانب وفجّروا 2000 مدمّرة "كول" الأميركية في ميناء عدن. لكن هاليداي لا يفوته التذكير بأحد ملامح الأصوليات، وهو ما سها عنه الباحثون اليمينيون، أو المأخوذون بالعداء الأميركي - الاسلامي الراهن، أو المدهوشون بصمت اليسار عن بعض الأصوليين وتحالفهم مع بعضهم الآخر. والملمح هذا ليس الا العداء الاسلامي لليسار الذي انقلب، في بعض الحالات، الى وراثة له. فالحرب الباردة أسهمت، بالتأكيد، في تأسيس الأزمة التي كانت الأصولية ترجمةً لها، وهو ما اتضح خصوصاً مع عملية تدمير افغانستان ابتداءً ب1978. ذاك ان الحرب الباردة خلّفت "مزبلتين للتاريخ" لا واحدة: فإذا ترك الانهيار السوفياتي وراءه ركاماً لا سيطرة عليه من السلاح النووي والبيولوجي والكيماوي مصحوباً بمشكلات إثنية معلّقة ومتفاقمة، فالانتصار الغربي ترك عدداً من العصابات البطّاشة والفاسدة من "الاتحاد الوطني لاستقلال أنغولا التام" يونيتا والمنفيين الكوبيين في ميامي والكاريبي الى المجاهدين الأفغان. والعلاقة لا تخطىء بين صعود الإسلاميين المسلحين وبين هزيمة اليسار الساحقة في الحرب الباردة. وقد تجسّدت الصلة بأوضح أشكالها في اليمن وأفغانستان اللذين حكمهما يسار تجاورت تحديثيته وقسريته. ولا ننسى أن كابول حين استولى عليها طالبان، وعلى رغم السنوات الكالحة للمجاهدين، كان لا يزال فيها 150 ألف امرأة يعملن في الدولة والادارة والتعليم. فالميليشيات الاسلامية العابرة للحدود اشتركت مع بن لادن ضد قوى اليسار المحلية في البلدين، بصفتها "غربية" بمعنى ما، قبل سنوات على صدامها بالغرب: ففي كابول استهدفت "حزب الشعب الديموقراطي"، أي الشيوعي، وفي عدن "الحزب الاشتراكي اليميني" الشيوعي أيضاً. وفي مطالع التسعينات أطيح الحزبان هذان: أولهما، هو الذي استولى على السلطة في 1978، سقط في 1992، والثاني الحاكم من 1967 الى 1990، هُزم في الحرب الأهلية عام 1994. لكن هذا لا يُفهم منه ما روّج له بعض الغربيين وبعض الاسلاميين من أن الاسلام غدا، بعد سقوط الشيوعية، خصم الغرب. فالأخير خاض مواجهات كبرى في البلقان من موقع التحالف مع المسلمين. ثم ان تهديد الشيوعية للغرب، بغض النظر عن المبالغة فيه واساءة استخدامه اليمينية في الحرب الباردة، يبقى أكثر جدية بكثير من أي تهديد اسلامي. فعلى رغم الحجم الصارخ والمدوّي ل11 أيلول، يبقى أن الشيوعية طرحت على نفسها الوصول الى أبعد زوايا المعمورة، وكانت هناك ترسانة نووية من 45 ألف صاروخ فضلاً عن عدد من الجيوش الجبارة يتقدمها الجيش السوفياتي. والأصوليون، وعلى رغم ما نُسب اليهم، لا يبدون مهتمين لا بالعولمة ولا بالتنمية في العالم الثالث أو أي من القضايا النظرية الشائكة. انهم، ببساطة، يكرهون حكامهم لكنهم أيضاً يكرهون الفساد والمرأة والشيعة وغير المسلمين، وبالطبع يكرهون "الغرب". والصراع، كما قال بن لادن، يعود الى ثمانين سنة خلت حيث المقصود، على الأرجح، تفتت السلطنة، وما ترتب عليه من أحداث: كفرض الانتدابات على العالم العربي، والغاء الخلافة التركية، والهجرة اليهودية. وثمة اشارات أخرى الى أن ذاك الصراع بدأ مع احتلال العراق للكويت وما رتّبه من حضور عسكري أميركي مباشر. لكن كائناً ما كان، يبقى أن أزمة الأصوليين فكرية تنبع من نقص التعليم العصري والافتقار الى الثقافة الديموقراطية، وهو ما تغذّى ويتغذّى على ضعف حساسية البلدان الغنية حيال التخلف والقهر في البلدان الأفقر. وهذه جميعاً من مسائل الحداثة وتقارُب بعض العالم من بعضه الآخر، ولو تلصصاً تلفزيونياً، على نحو قد يثير التباعُد ويتسبب في توترات وانفجارات. فالعداء للحداثة، أعبّرت عنها الدولة أو الديموقراطية "الغربيتان" أو اليسار "الملحد"، لا يلغي اضطرار الأصوليين الى استعارة أوجه كثيرة منها. فهم، أساساً، لا يمكن الا أن يرددوا الحجج النقدية ضد نظامٍ ما يقاتلونه، فيستشهدون بفساده وسوء أدائه الاقتصادي والتعليمي أو إسكانه. وهذا ما أوردته أدبيات الاصوليين الايرانيين ضد الشاه "المستكبر"، والجزائريين ضد "جبهة التحرير"، فضلاً عن حزب "بهاراتيا جاناتا" الهندوسي ضد "المؤتمر". فالحركات هذه لا يسعها ألاّ تستجيب العناصر التي ساهمت، مهما تباينت الدرجة، في نشأتها: التمديُن، البطالة، نظم التعليم، الخضوع للأجنبي. ولهذا فهي لا يمكنها ان تصدّ التأثّر بأدبيات قومية أو عالمثالثية مناهضة للامبريالية حتى لو أنكرته. واذا ابتذل راديكاليو الإيمان كل ما مسّوه من أفكار بأن أحالوه اجاباتٍ بسيطة وضئيلة العدد، بقي أنهم ينبثقون هم أنفسهم من سياق تصنعه الحداثة ممثّلةً بالدولة - الأمة وجهازها المُحدّث وسلطتها على مواطنيها. وحتى حين يحكمون بلداً، كما إيران، تحتل "المصلحة" الوطنية حجماً لا يوحي به العداء الايديولوجي المعلن لها. لذا غالباً ما تحتفظ الحداثة بحضورها لا في لغة الأصوليين فحسب، بل أيضاً في ايديولوجيتهم المعادية لها أصلاً. فعلى رغم الاستحضار الدائم للماضي والرموز التقليدية، الا ان الاستحضار كثيراً ما يستخدم الموضوعات القديمة او الكلاسيكية لأغراض راهنة، مثلما يستعير انتقائياً من الايديولوجيات العلمانية. والجسم الفكري الذي تتمخض عنه الاتجاهات هذه لا يصفه مصطلح كما تصفه "الشعبوية". وهي، بدورها، ايديولوجيا عريضة عابرة للطبقات، تؤكد على "فضائل" الشعب توكيدها على فساد الحكام "الطغاة". ومما هو مركزي فيها، وهو ايضاً اختصاص أصولي احتكاري، شكل من الكره للغريب وولع بنظرية المؤامرة التي تحمّله مسؤولية ما يجري وما لا يجري. ولما كان التحليل الليبرالي يستبعد المؤامرة من جهة، وغربي المصدر من جهة، استحق لدى الأصوليين كل الاحتقار الممكن. على أن هاليداي يتوقف عند التجربة الايرانية بوصفها العلامة الفارقة بمعنى مزدوج: فهي تؤشّر الى الانتصار بقدر ما تؤشّر الى حدوده ومحدوديته. ففي البداية بدا ان الخمينية نجحت في تصدير ثورتها لا الى بعض الشيعة اللبنانيين والافغان والعراقيين فحسب، بل الى نُخب ومجتمعات سنية ايضاً. لكنْ، وعلى رغم حرب دامت ثماني سنوات مع العراق، تبدى ان المهمة فشلت هناك. وما ان اشتد عود الاصولية السنية في بلدان أخرى حتى استقلت تماماً بنفسها، لا بل حجّمت أنصار إيران الشيعة في بلد كأفغانستان. وفقط في لبنان، حيث تطابقت الأصولية الشيعية مع مقاتلة الاحتلال الاسرائيلي، لاح أن "حزب الله" قد يتمتع بوضعية معقولة، الى أن أدى انسحاب اسرائيل في تموز يوليو 2000 الى خلط الأوراق. لا بل يعود هاليداي الى بداية الثورة في 1979. صحيح أنها ضجّت بالشعارات والعناوين الدينية، لكن ما حدث فعلاً كان سيناريو واهي الصلة بالدين: ثمانية ملايين شخص نزلوا الى الشوارع مطلقين أكبر التظاهرات المعارضة في التاريخ ومتسببين في انهيار جيش من 400 ألف جندي. أما الشعارات التي رفعها رجال الدين فاثنان منها كانا علمانيين، أو زمنيين: "الاستقلال" و"الحرية"، فيما الثالث، "الجمهورية الاسلامية"، خليط من الزمني والديني. وهذا ما يعني أن الأولوية في فهم الظاهرة تعود الى الحياة نفسها، هي التي يستحيل ان لا تعكس ذاتها على الأصوليين، لا الى النص الذي يزعم الأصوليون ونقّادهم الجوهرانيون أنه المقرّر والحاسم. فالأصوليات تتماهى، في بعض الحالات، مع فئات اجتماعية تتعرض للانحسار وتعاني التهميش، كما في حالات أخرى مع جماهير مدينية حديثة التشكّل أو، كما حالة أفغانستان بعد 1978، مع جموع ريفية يهددها توسّع رقعة السلطة المركزية. وما تقوله بدايات التجربة الايرانية تُعيده سنواتها الأخيرة: فعقدان من سوء الادارة الاقتصادية والقمع والتذمر من الفساد، أحدثا تحولاً بارزاً في الرأي العام داخل البلد. وحركة الاحتجاج الراهنة لا تكتم تعلّقها بتطلعات اقتصادية وتأثّرها بعالم غربي بات يُرى عبر الفيديو والمجلات فيما جعلته الدياسبورا الضخمة لما بعد الثورة أليفاً. فالشعارات القديمة للخمينية كفّت عن الاشتغال، والاقتصاد مُعاق، والبطالة متضخّمة، فيما الكثيرون ممن أثارت الثورة حماستهم وحاربوا العراق، تنتابهم اليوم خيبة أمل عارمة. غداً: "جهاد" جيل كيبيل.