تستهدف مقالتي هذه تجاوز السجال الذي دار على صفحات جريدة "الحياة" قبل أشهر حول مراجعة الرؤية السياسية للحركة الإسلامية دفعة واحدة، الى سجال آخر مستحدث نقيض للأول في مضمونه ومحايث له في خطوطه المنطقية الموسّعة. لقد فجّر السجال الأول الإسلامي صالح كركر داعياً الى مبارحة الاحزاب الإسلامية للنشاط السياسي العقائدي الدعوي المركب، لصالح نشاط حزبي مجرّد من الأبعاد الدعوية الإسلامية، أي ما يشبه الأحزاب العلمانية المخلاّة من الأبعاد الدينية ومقصده في ذلك تجاوز "المصائر الفاشلة" للحركة الإسلامية يعيد أكثر من سبعة عقود من أسلمة المجتمعات والدول القائمة. إني أتجاوز السجال المذكور الى دعوة غير الإسلاميين، أي طوائف العلمانيين من ليبراليين وقوميين وشيوعيين الى تبني ما يختزل في الرؤية السياسية للحركة الإسلامية، وهي غير الدعوة الى تبني الشريعة الإسلامية، ذلك ان الرؤية الأولى تتسم بالنسبية والارتكاز على مقومات الفقه الإسلامي المعاصر المسمّى بالفكر الحركي، بينما تعتمد الدعوة الثانية على "وليمة مقدّسة" أساسها نصوص الوحي وقطعيات الدين من عقيدة وشريعة. وأعلَمُ ابتداءً ان دعوتي هذه قد تكون مستفزة الى حد بعيد لغالب النخبة العلمانية التي تعوّدت على ثقافة "التعالم" على الآخرين، لا على ثقافة "التثاقف" مع الآخرين، ونزعت مع الأيام الى شكل سكوني قاحل من أشكال الأصولية، كانت سبباً في الأصوليات الأخرى، لا سيما الدينية منها عبر منطق ردود فعل الميكانيكي. وعليه، فإن الأصولية العلمانية كانت ولا تزال - مع الأسف - سبباً لكل الأصوليات الأخرى الأقل خطراً في بلداننا العربية الإسلامية بما فيها الأصولية الدينية. ولكنني على كل حال لا أستهدف استفزاز هؤلاء بقدر ما أستهدف دعوتهم الى المشروع الحضاري الإسلامي الذي يتقصد استئناف دورة حضارية جديدة للمسلمين، ومن خلال قراءة المناضلين الإسلاميين نفسها لهذا المشروع، وهي القراءة المنزّلة في الواقع العياني المعاش عبر رؤية، أو قل بدائل سياسية واضحة وفي متناول الجميع. وتستند دعوتي على منطق مخصوص يخاطب العقول لا العواطف، ويستثير الحجة والبرهان، لا الكشف والعرفان. وعليه، فلا داعي لمقابلة طرحي بتعسف في الفهم، أو التأويل البعيد عن المقصد الذي صيغ أول مرة. ومقصدي الأساس الذي لا أحيد عنه هو البحث عن سبل فضلى وناجعة للخروج بالأمة من مأزقها الحضاري المأزوم، الذي فشلت كل القوى السياسية، لا سيما تلك التي ذاقت حلاوة السلطة، في تجاوزه مثقال ذرة من تقدم أو رقيّ. وأريد - بالمناسبة - التنبيه الى ان هذه الدعوة بقدر ما هي عامة للجميع، فإنها ليست خفيفة أو عابرة، فلا داعي البتة لأن تصوّر على نحو كاريكاتوري هزلي، كأن يتسلل الإخوة العلمانيون زرافات ووحداناً، في العلم أو تحت جنح الظلام الى "المكاتب السياسية" للأحزاب والحركات الإسلامية لغاية طلب العضوية وتسجيل الأسماء في خانة المناضلين المنظّمين. فليس هذا هو المطلوب، ولا اعتقد ان الحركة الإسلامية في حاجة الى تكثير سوادها بواسطة هذا الإجراء الشكلي، إذ هي تغصّ بالمنظّمين، والمتعاطفين والمناصرين. ويكفيها ما فيها. وإنما المطلوب هو تبني النخبة المثقفة للبديل السياسي الإسلامي الشامل - أو حتى الجزئي - والنضال على أساسه وإن عبر قاطرات حزبية اخرى محايثة أو مساندة، أو عبر النضال الفردي المستقل. إن تبنّي الرؤية السياسية للحركة الإسلامية لا يعني بالضرورة تبني الشريعة الإسلامية، من حيث هي شمول معرفي لكل مناحي الحياة القانونية منها والعبادية الروحية، فضلاً عن منطق الاشتغال المعرفي العام المعبر عنه بالعقيدة أو الإيديولوجيا. وإنما يعني البرنامج الإسلامي المقدّم من لدن النشطاء الإسلاميين في خصوص المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية من اجل تغيير المشهد السياسي العربي الى مشهد أقل سوءاً، إن لم يتسنّ المشهد الأكثر مناعة ورقياً وجمالاً... والحق ان البرنامج الإسلامي - النموذجي - لم ينل حقه في التجريب والتطبيق مثلما تسنّى ذلك للبرامج الاشتراكية والليبرالية. وعليه، فمن الموضوعي والطبيعي ان يمتلك الإسلاميون الحق كاملاً في تجريب طرحهم السياسي، أو قل تنزيل برنامجهم الإسلامي في الاجتماع العربي عبر آليات مشتركة بين الجميع هي الديموقراطية والتداول السلمي على السلطة والتعددية الحزبية، وذلك فضلاً عن حقهم المشروع - بداهة - في تقديم بدائلهم والنشاط الحزبي الشامل على أساس تلك البدائل. ويدعم الطرح الإسلامي في معركته الشريفة من اجل تبوّء مسؤوليات التغيير السياسي والاجتماعي، عبر حكومات إسلامية جزئية ائتلافية أو كلية، جملة من المؤشرات القوية الدلالة على الزخم والحيوية الكامنان في طيات البرنامج الإسلامي الذي استطاع الصمود في معاركه الشرسة - غير العادلة - منذ أكثر من سبعة عقود، كما استطاع النفاذ الى قلوب الجماهير العربية الغفيرة، ونال شرف الفوز برضاها، حتى غدت الحركة الإسلامية - بلا منازع - حركة الأغلبية داخل الأمة. بيد ان هذا التوصيف الابتدائي لحالة الحركة الإسلامية التي نراها غير فاشلة، وغير عاجزة عن تحقيق روزنامتها في التغيير، بالمعنى التقليدي للفشل. ينقد نقداً مضمونياً معتبراً من خلال شبهات ستة: - أولاها ان الحركة الإسلامية جرّبت بالفعل، واستهلكت في برامجها وسياساتها في مستوى السلطة فأظهرت عجزاً واضحاً في التغيير، كما ضاقت صدور الساسة الإسلاميين بمخالفيهم في السودان أو ايران، فضلاً عن جزّ رقابهم لو تسنّى ذلك، مثلما تسنّى عند طالبان أفغانستان. - الشبهة الثانية هي الطبيعة المتطرفة للبرامج الإسلامية في التغيير، والشواهد على ذلك كثيرة أبرزها الحروب الأهلية التي سببها الإسلاميون في أكثر من بلد، وما مثال الجزائر ومصر عنا ببعيد. - ثالثاً، لم يقتصر الانحراف عن الوسطية نحو العنف على الممارسات السياسية، بل تعداه الى المواقف الفكرية، والتبنّيات الفقهية الراديكالية التي تنزع منزع التمامية والإطلاقية، وهي المواقف التي تتضمن التكفير، كما تهدّد المخالفين بالقتل حداً للردّة أو بالسجون والمنافي الصحراوية ساعة تسلّم السلطة. - رابعاً، ان النتائج الحاسمة التي سجلها إسلاميون آخرون قد يوصفون بالاعتدال والوسطية - في مجالات الانتخابات التشريعية والنقابات المهنية، وتزعّمهم لغالب مناشط المجتمع المدني. هي نتائج شكلية ظرفية بنت محيطها - المتسم بالتخلف الاجتماعي - وتحكمها ردود فعل، وهيمنة "التطرف" على عقول الجماهير. - خامساً، إن البرنامج المزعوم للإسلاميين، غير واضح حتى في أذهان أصحابه، ولا سيما في المجالين الاقتصادي والإجتماعي. - سادساً، فشل الحركات الإسلامية طيلة عقود طويلة في التغيير، وهو ما يعترف به حتى الإسلاميون أنفسهم مثل صالح كركر، وهذا الفشل قد يدفع المحللين الى توقع الفشل الكلي للحركات الإسلامية بعد فترة من الزمن وإن طالت نسبياً، ذلك انها تحمل في طياتها بذور فنائها. أقول: لقد انقشع ضباب عقد التسعينات، أي العقد الذي تلا التحولات الكبرى في الأمة العربية الإسلامية، الناجمة عن حرب الخليج الثانية، ليسفر عن واقع سوسيولوجي معقد، ذي عوالم ظاهرة للمحللين الاجتماعيين، شريطة توسّلهم آليات التحليل الاجتماعي الفاجعة التي تفي بالغرض وتشكل مجهراً دقيقاً، فتفضي الى تحليل عميق موضوعي غير منحاز ولا متشنّج. وعند انتخابي لأفضل هذه الآليات المجسّدة للواقع والمشددة للفكر، اعتمدت على ما أسميه بآلية "تحقيق المناط العام" والمناطات هي العلل الدافعة الى التغيرات الاجتماعية، والتحولات الكبرى في مجتمع ما من المجتمعات. وتستند هذه الآلية على آليات منطقية أصغر منها، تكون بمثابة الخطوات المنهجية المقدمة والممهدة لآلية "تحقيق المناط العام"، وأبرزها آلية الاستقراء، وهي نوع من الاستقراء الموسّع للظواهر الاجتماعية في اتجاه إعادة ترتيبها وتصنيفها وفقاً لمعايير معينة. ثم آليات التفكيك، وإعادة التركيب، والتحليل، والاستنتاج أو تعميم القواعد. وهي جميعها آليات معروفة ويحتاجها حتى المواطن العادي في خاصة نفسه، فضلاً عن الباحث الاجتماعي. وبفضل هذا التحليل - وهو ما يطول شرحه - توصّلت الى الخلاصات التالية: 1- ان شعبية الإسلاميين في التسعينات تزايدت على نحو غير مسبوق في العقود الماضية بما فيها عقد الثمانينات الذي تلا انتصار الثورة الاسلامية الايرانية. وان هذه الشعبية غدت بلا منازع من بقية التيارات السياسية والإيديولوجية المنافسة، التي تقهقرت بدورها الى أقصى درجات النخبوية، والتقوقع حول الذات والتغني بأمجاد الماضي الانتصارات الموهومة للناصريين - مثلاً - أو المواقف الجذرية والأممية للراديكاليين الشيوعيين في الستينات، وتتلهّى نخبة اخرى من الليبراليين شديدي البراغماتية والقدرة على التكيف مع المستجدات التي تعاكس قناعاتهم، إما في تبرير المقولات التوتاليتارية الغربية العالمية، أي التي تتقصد استمرارية نهب خيرات الشعوب ومقدراتها وإن وفق أساليب جديدة، وذلك مثل تبريرهم لمقولات "النظام العالمي الجديد" ثم "صدام الحضارات" و"نهاية التاريخ" وأخيراً وليس آخراً ما يسمّى بالعولمة، وإما في مساندة الأنظمة الشمولية في حربها الضروس ضد معارضيها ومعظمهم من الإسلاميين حتى على مستوى معارضة النظام الدولي وتبرّر ذلك بمقولات وصيغ جهنمية مثل "تجفيف المنابع الأصولية" ونحوها. 2- وإن شعبية الإسلاميين لا تخفى على عين متابع، سواء في المناشط السياسية، أم المناشط التربوية والعمالية. والحق ان مشكلتهم التي تحد من فاعلية هذه الشعبية كانت ولا تزال، هي الاستبداد والسلوكيات البوليسية في قمعهم ومتابعتهم أمنياً وإعلامياً، وهو ابتلاء عام لدى الاسلاميين الذين بالكاد يخرجون من محنة حتى يدخلوا في اخرى، أو من مأزق أو مقلب حتى يستقبلوا مخططاً آخر للوقيعة بهم وتشويه صورتهم. والصور حول هذا الواقع الهش من حيث مقادير الحرية والعمل في ظل الانفتاح والهدوء، هي أكثر من ان تحصى عداً. ونستطيع ان نجزم بأن الحركة الإسلامية لم تهزم في كل البلدان العربية في معركة انتخابية عادلة خالية من الضغوط والقيود والمنغّصات، أقول هذا مع التحفظ المذهبي على بعض الحالات المتسمة بتناقضات طائفية مستحكمة ونحوها. 3- من العيب المنهجي والأخلاقي ان نرد أسباب فوز الإسلاميين في الانتخابات التي فازوا فيها، أو اسباب شعبيتهم في شكل عام الى ردود فعل الجماهير أو جهلها بعواقب الأمور، أو لقلة الثقافة واضمحلال معدلات الوعي. والحال ان الجماهير العربية في التسعينات التي ساندت الإسلاميين هي الأكثر انفتاحاً على مكتسبات الحداثة والتقدم العلمي والتقني وثورة الاتصالات، فضلاً عن التنامي الجذري لنسب المتعلمين وخريجي الجامعات، مقارنة بالجماهير العربية التي ساندت الزعيم جمال عبدالناصر يوم من الأيام، أو قدمت الولاء للبرامج اليسارية والقومية في انتخابات الستينات والسبعينات. 4- إن الشعوب العربية أحست بنكسة لا تضاهى بالنكسات الستينية، وهي نكسة حرب الخليج، وشعرت بعمق الغبن والجور الذي لحق بها من النظام الدولي بزعامته الأميركية، واتهمت بموجب ذلك كل الأنظمة التقليدية الحاكمة، كما اتهمت قسماً من النخبة التقليدية بالوقوف الى جانب اعدائها، وتسويغ الجور اللاحق بها. ويعبر عن هذا الاتهام الثنائي: الأنظمة الرسمية والنخبة الرسمية، بالتظاهرات والثورات الشعبية المتاحة، وإلا عبر الحديث الهامس المشبع بالتذمر ولعن الانظمة، ليستتبع كل ذلك باحتضانها الحار للإسلاميين باعتبارهم آخر قلاع الوطنية والروح التحررية، ورموزاً للبطولة والمعارضة للحيف المحلي والدولي. 5 - ويلاحظ على صعيد آخر ان الإسلاميين هم أكثر التيارات السياسية التصاقاً بالحداثة، واستفادة من المنجزات الايجابية للتقدم العلمي والاجتماعي الذي حققه الغرب من دون عقد في ذلك وإنما ظلت مشكلتهم مع الحداثة الغربية محصورة في منظومة القيم التي تبشّر بها تلك الحداثة، كما نلاحظ من خلال الاحصائيات ان قيادات الإسلاميين هم الأكثر تحصيلاً ثقافياً وتعليمياً مقارنة بقيادات بقية الاحزاب العلمانية، كما ان القواعد الحزبية عند الاسلاميين أكثر ثقافة من قواعد بقية الاحزاب المترهلة. ولا يخفى على احد حصيلة الانتخابات الطلابية ونقابات الاساتذة الجامعيين والاطباء والمهندسين في مصر وفي غيرها من البلدان التي استحصلت على مقدار من الحرية يسمح بمثل تلك الانجازات. 6- ان الحديث عن دول إسلامية ناشئة كمثال لتحقق البرنامج الإسلامي في الواقع هو حديث غير مستوف لشروطه المنهجية اللازمة، إذ ان التجربة الإيرانية غير ملزمة لإسلاميي الوطن العربي لاختلاف المذهب الفقهي، كما ان تجربة "طالبان" في العمل الإسلامي - وهي تجربة ضحلة - لا تمكنهم من تقديم برنامج إسلامي فضلاً عن إدارة نظام إسلامي، وان التجربة السودانية على علاّتها، وعلى رغم المآخذ المنهجية في برنامج ثورة الانقاذ مقارنة له بالبرنامج الإسلامي الوسطي الذي يقدم من طرف الاخوان المسلمين في العالم العربي، تمثل بالفعل نواة نموذجية الى حد كبير للنظام الإسلامي المنشود، وإنما يرجع ضعفها في المردود التغييري الى عوامل الحصار الخارجي، والفقر وانعدام الموارد، والحرب الاهلية المستنزفة للمقدرات. وعلى رغم التشويهات الإعلامية الدولية - غير البريئة - فيما يخص انتهاكات حقوق الإنسان، فان السودان يجسد اليوم فلتة من بين مثيلاته من الدول، ذلك انه يستجدي المعارضة - حتى ولو كانت مسلحة أي ارهابية في اصطلاح أنظمة أخرى - لكي ترجع الى الوطن. وهو ما أحسب انه يصب في مصلحة هذا النظام لا ضدّه. والدولة الإسلامية التي يحلم بها الإسلاميون وفق البرنامج الإسلامي الوسطي، هي دولة ذات جغرافية قوية وموارد غير محدودة، فضلاً عن التجانس البشري في خصوص الاثنيات والمذاهب، وهو ما يفتقده السودان فضلاً عن أفغانستان ونحوها. 7 - إن إشاعة أن الإسلاميين هم بالضرورة متطرفون، ميّالون بطبعهم الى الاستئثار بالسلطة، هي إشاعة مغرضة تكذبها تجربة الناس والاحزاب والنخب مع هؤلاء، إذ تفيد التجربة ان الجميع قد يضيق صدره بالديموقراطية الا الإسلامي فإنه متعطش لها آناء الليل وأطراف النهار، إذ يتيقن ان برنامجه السياسي لا يمكن ان يتحقق الا في ظل أجواء سلمية تداولية على السلطة. أما غلاة الإسلاميين وهم قلة، فلا يعتد بتطرفهم وحملهم للسلاح في وجه خصومهم وتكفيرهم لمخالفيهم، إذ ان تطرفهم عارض وموقت، ومعظمه رد فعل على تطرف الانظمة وأصولية العلمانيين الذين يلعنون الإسلاميين في بادىء الأمر، أي يطردونهم من "جنات" التعددية ورحمة التعايش السلمي للأفكار والبرامج. لو قدّر للتنمية الديموقراطية ان تأخذ مداها في البلدان العربية المختلفة، فلا بد وان يضمحل التطرف ويسود الاعتدال، فهذه بتلك وفق أرجح التقديرات. 8 - أما الشبهة المتعلقة بالبرنامج الإسلامي نفسه الذي أدعو الجميع الى تبنيه ومساندته، وهي توصيف هذا البرنامج بالضبابي واختزاله في الخطوط العريضة والمبادىء الأخلاقية التي تحكم السياسة والاقتصاد لا غير مثل مبادىء الشورى، العدل، المساواة، التعددية، تحريم الربا، حرّية المبادرة الاقتصادية، والكسب الحلال ولو بشكل تراكمي في ظل نظام الزكاة. وهذا تقويم خاطىء مئة في المئة، إذ أنني لم أعلم ان حزباً سياسياً قدّم بدائل في السياسة والاقتصاد أو طرح فلسفات للحكم والسياسة والاجتماع مثلما فعل الاسلاميون، فالمكتبات ودور النشر والمعارض تغص بمنتوجاتهم المتخصصة، كما ان كتبهم تحقق أرقاماً قياسية في المبيع واسألوا أصحاب الدور التي تطبع لهم في بيروت والقاهرة، فضلاً عن مئات وربما آلاف الرسائل الجامعية التي سجلت ونوقشت في مواضيع السياسة الشرعية والاقتصاد الإسلامي، والاجتماع الإسلامي، والقانون الفقهي. وجميع هذا الإنتاج في الفكر يمثل خلفية هائلة للبرنامج الإسلامي، يُدعم بالكنوز التي لا يمكن التشكيك في موسوعيتها وريادتها - كماً وكيفاً - في العالمين، وأعني بها كنوز الفقه الإسلامي الموروث. أما عن التقنين أو التدوين الفني لهذا البرنامج في شكل قوانين ضابطة جامعة مانعة، فهي عملية غير معقدة وعادة ما تقوم بها مجالس الشورى والهيئات التأسيسية للدساتير، ولجان وضع القوانين الاجرائية المختلفة بعيد تسلم حزب ما أو قوة تغييرية ما للسلطة، ولا معنى البتة لوضع مثل هذه التفاصيل قبل ذلك، أو بمعزل عن السيادة الشعبية ممثلة في البرلمان أو الشورى. وتجدر في هذا المقام الملاحظة ان أغلب ما يستند اليه العلمانيون بمختلف طوائفهم وانتماءاتهم من أنظمة وقوانين وبدائل إنما هي مستوردة من الغرب ولهم في إنتاج البدائل كسل معلوم. 9 - أما الحديث عن فشل حركات التغيير الإسلامية في تحقيق أهدافها الثورية فهو صحيح بمنطق الحساب الظاهري للنتائج، ومردّه الى الاستبداد المحلي المدعوم بالنصير الدولي، وهو الحلف المقدس الذي يستميت في سبيل منع الاسلاميين من الوصول الى السلطة. ولا أرى بمنطق سنن التاريخ في هذه الظاهرة فضلاً في البرنامج من حيث هو برنامج، لا سيما مع الأخذ بعين الاعتبار بالملاحظات السوسيولوجية آنفة الذكر. كما لحظ التقدم المنتظم في شعبية الإسلاميين، مما اضطر معه أحد المحللين الاسرائيليين الى ان يصف تقدمهم "بالزحف الذي لا يلين نحو السلطة". 10 - بقيت مسألة ان الحركة الاسلامية تمثل تجديداً أصيلاً لفكر الأمة ومنهجها في المزاحمة الحضارية للشعوب الاخرى والأمم غربيّها وشرقيها. وهو تجديد يمكن ان يثرى ويتقوى زخمه، وتنشط حركيته وينفتح أكثر فأكثر على العالم لو انضم إليه غير الإسلاميين، ودعموه بالفكر والخلاف والدليل. كما يذكر ان هذه الحركة التجديدية دعمت بأكثر من مائتي ألف شهيد ضد الحيف والاستعمار، والعطالة السياسية، مما يجعل البرنامج السياسي أكثر صلابة وجاذبية وواقعية، لانه يتغذّى من الواقع التجديدي في الفكر، كما يتغذى من الواقع العاطفي المشحون بالوفاء للشهداء والتضحية من أجل الأمة. إنها دعوة كريمة للبرنامج الإسلامي، فتأملوا، وهي دعوة برسم الحوار في كل حال. * كاتب مغربي