Gabriel A. Almond, R Scott Appleby and Emmanuel Sivan. Strong Religion: The Rise Of Fundamentalisms around the World. دين متطرف: صعود الأصوليات عبر العالم. The University of Chicago Press, Chicago and London. 2003. 281 pages. غالباً ما يبدو اعتبار الأصولية الدينية حالة كونية، متباينة المصادر الثقافية ومختلفة المواقع الإجتماعية والسياسية، وكأنه محاولة لدحض الزعم او الظن بأن الأمر محصور بمجتمع محدد او ملازم لثقافة بعينها. ومحاولة تعميم كهذه لا تعني، في كافة الأحوال، أن ليس ثمة بالفعل ظاهرة أصولية كونية، على الأقل، في حدود ما يجادل غابريال ألموند وسكوت آبلباي وعمانوئيل سيفان في كتابهم المشترك هذا. وعندهم فإن الحركات الدينية الأصولية من حيث عداؤها المشترك للحداثة والعلمانية، إن على صورة الثقافة او المؤسسات، هي حالة رفض كونية أخرى ل"عصر الأنوار" شبيهة بحالتي الرفض السابقتين عليها: ردة الفعل الكاثوليكية والمحافظة ضد الثورة الفرنسية، والحركات والنُظم التوتاليتارية، الشيوعية والنازية، في القرن العشرين. ولكن كيف لحركات يهودية ومسيحية، بروتستانتية وكاثوليكية، إسلامية، سنية وشيعية، وهندوسية وسيخيّة وبوذية، كيف لحركات على هذا التباعد الجغرافي والتباين الثقافي ان تكون قوام ظاهرة واحدة، حتى وإن كانت ظاهرة كونية؟ يجادل مؤلفو الكتاب بأن البحوث التي قاموا بها، والدراسات التي استشاروها، تبيّن ان ثمة أوجه شبه عائلية ما بين هذه الحركات تجيز الكلام على تشكيلها لظاهرة متصلة. وفضلاً عن اعتمادهم على مصادر أساسية ومتفرقة، إستند المؤلفون الى العديد من المقالات والبحوث الميدانية مما يتألف منه"مشروع الأصولية"، هو مشروع دراسة أكاديمية شاملة إنطلق مطلع العقد الماضي، وشارك فيه العديد من الأكاديميين والباحثين المهتمين من مختلف أنحاء العالم، ليثمر عشرات الفصول صير الى جمعها في خمسة أجزاء. بيد ان توافر مثل هذا الجهد التجريبي الشامل ليس وحده ما يسوّغ لمؤلفي كتاب "دين متطرف" تمييز أوجه شبه عائلية ما بين مختلف الحركات الأصولية، أكانت حركة "كاخ" او "حركة حماس" أو "إتحاد المتطوعين القومي" الهندوسي أو "البروتستانت الأميركيين"، وإنما المفاهيم والمقولات التحليلية التي استعانوا بها في عقلنة هذه الحركات بإعتبارها على قدر من التشابه يجعل اجتماعها صورة لحركة واحدة. وبمعونة مقولة شأن مقولة "المنطقة الأجنبية"، يقدم عمانوئيل سيفان مسحاً شاملاً لثقافة الحركات الأصولية، الإبراهيمية العقيدة، منذ ظهورها في مطلع القرن وحتى اليوم. فهي ثقافة "المنطقة الأجنبية"، لأن مؤسسي هذه الحركات شددوا منذ البداية على فكرة المنفى او الغربة التي تسم إقاماتهم في مجتمعاتهم وما بين أبناء أممهم. لذا فقد جهدوا لإنشاء منطقة أيديولوجية وتنظيمية تميّزهم عن هذه المجتمعات والأمم، وتقيهم مخاطر علومها وقيمها الحديثة والعلمانية. على ان هذه المنطقة ليست بجغرافيا مستقلة، حتى وإن أفلحت بعض الحركات الأصولية في اكتساب مراكز وأحياء خاصة بها وبمريديها، وإنما هي اقرب الى فضاء رمزي قوامه العلاقة التي تربط أعضاء الحركة ببعضهم البعض، فضلاً عن الملبس والسلوك واللغة التي يستخدمونها في عقلنة العالم وتقويمه. وما حدودها الاّ نتيجة اصرار هؤلاء الأعضاء، خاصة زعماءهم ومرشديهم، على التمييز ما بينهم وبين بقية العالم. وحيث ان منطقة كهذه تفتقر ايضاً الى الإستقلال والسيادة، فإن لا سلطان قانونياً لها على افرادها، خصوصاً الملتحقين حديثاً بها، ما خلا السلطة الأخلاقية. فحيث، في غالب الأحوال، يفتقر القائمون على منطقة كهذه الى وسائل القسر او الإغراء، فإنهم يعمدون الى رفع ما يشبه "جدار الفضيلة" الذي يفصل منطقتهم "الصالحة" عما يحيط بها من مجتمع حديث "ضال" ودولة علمانية "فاسدة"، ويضمن ولاء أتباعهم والتحكم بهم. وما تبرهن عليه مقالة سيفان هذه ان الإستعانة بمقولات تحليلية لا يعني التقليل من شأن الفوارق ما بين الحركات الأصولية المختلفة أو إهمال دينامية تاريخها. ولعل من اوضح طموحات هذا الكتاب هو الإحاطة بكل من العوامل البنيوية والسياقات التاريخية، المحلية والعامة، بحيث تظهر أوجه الإختلاف ظهور أوجه الشبه، وفي سياق يكفل الكشف عما يلمّ بالحركات المعنية من تحوّل وتغيّر. فينبهنا المؤلفون الى ان ثقافة "المنطقة الأجنبية" لهي من خصائص الحركات الإبراهيمية، بما هي حركات تجابه الحداثة والعلمانية من منطلق الإستناد الى نص وسنة، وليست الحركات "التوفيقية"، اي الحركات التي تستند الى أطروحات ومزاعم قومية وأثنية تلعب دوراً مهماً في تعيين وتيرة توجهها وسياساتها تجاه العالم الحديث. غير ان مثل هذا التنبيه لا يتوقف عند حدود التمييز ما بين حركات أصولية يهودية ومسيحية وإسلامية، من جهة، والحركات البوذية والهندوسية والسيخية من جهة أخرى، وإنما يتضمن التمييز ما بين الحركات الإيراهيمية نفسها. فحركة "أولستر" البروتستانتية في شمال إيرلندا، وحركتي "كاخ" و"غوش إيمونيم" في إسرائيل، و"حركة حماس" في فلسطين، وحركة مسيحيي جنوبالهند، هي حركات إبراهيمية وتوفيقية في آن معاً، نظراً الى انخراطها في نزاعات قومية وأثنية الطبيعة. وهذه الحركات لم تكن دائماً توفيقية، وإنما كانت حركات "المنطقة الأجنبية" ووجدت في العامل الأثني او القومي وسيلة لإزدهارها، بل تبرير وجودها، في سياق نزاع بلادها و طوائفها مع طوائف وبلدان أخرى. وإنها لمن الممكن ان تعود الى سيرتها الأولى إذا ما انفض مثل هذا النزاع. فلكل حركة أصولية تاريخها الخاص في مواجهة خصومها، سواء كان المجتمع الحديث ام الدولة العلمانية ام الطوائف الأخرى ام العدو القومي، وهو تاريخ أبعد ما يكون عن الإمتداد الخطي. بيد ان هذا الامر يصدر، أول ما يصدر، عن خصائصها العامة والمشتركة. فعلى رغم ان الحركات الأصولية تصرّ على التمييز ما بين مدارها، المفترض او الفعلي، وما بين بقية العالم، الاّ انها بطبيعتها إنتقائية مما قد يودي بهذا التمييز. فهي إنتقائية على المستوى الأيديولوجي، تختار ما يروقها من التراث او التقليد الديني الذي تنبثق منه او تنشق عنه. كذلك تنتقي ما تحتاج اليه من الُسبل والمناهج الحديثة. وهذا ما يدل على انها مستعدة للإنضواء في مؤسسات العالم الذي تزعم ازدراءه والتنديد به، حيث تسنح لها الفرصة، وهو ما برهنت عليه مسيرة العديد من الحركات الأصولية التي انقلبت من سبيل المواجهة التحريضية والعنفية الى الحوار والتفاوض، بل المشاركة في السلطة في بعض الأحيان. الى ذلك فإن الدور المهم لعامل القيادة في مثل هذه الحركات يجعل تاريخها أشدّ إعتباطاً. فمن خلال الدور الذي يلعبه القائد يتعين نشوء الحركة المعنية ومصيرها، إزدهارها او إنحدارها. وإذا ما كانت خصاله الشخصية، علومه ومهاراته البلاغية، فضلاً على قدرته على التواصل مع مريدين من مختلف الهويات الإجتماعية، تساهم في إنشاء "المنطقة الأجنبية" الأصولية، فإنه من خلال الموقف او السياسة التي يختار يتحدد مصير المنطقة المعنية. وليس من الغرابة ان بعض الحركات الأصولية شهدت كسوفاً بعد موت قائدها. لكن هذا لا يعني أن العوامل الذاتية، أكانت خصائص أيديولوجية ام تنظيمية، هي وحدها ما يحدد وتيرة توجهات الحركة الأصولية وإستراتيجياتها. فهناك، على ما يبيّن المؤلفون، عوامل وحوادث بنيوية شأن التقليد الديني السائد والتعليم والإعلام وسبل الإتصال الحديثة وحجم المجتمع المدني وطبيعة الحركة الإقتصادية والإجتماعية التي يشهدها المجتمع، فضلاً عما يشهده الوضع الدولي من تحولات. كما لا يمكن إغفال إهمية الحوادث الطارئة. فهزيمة عسكرية وسياسية شأن هزيمة 1967، أو أزمة إقتصادية كتلك التي ألمت بالجزائر في منتصف الثمانينات، او حتى تدهور صحة زعيم سياسي، كما حدث لشاه إيران عشية وقوع الثورة، او غيرها من حوادث تأتي وليدة الحظ والمصادفة، قد تحدد وتيرة توجهات الحركة الأصولية ومسار تقاطعها مع العالم المحيط. ويميّز مؤلفو الكتاب أربع وتائر لتوجهات الحركات المذكورة: وتيرة الحركة الغازية للعالم، وتيرة الحركة الخالقة للعالم، وتيرة الحركة المغيّرة للعالم ووتيرة الحركة الناكرة له. هذا، على اية حال، لا يعني أن لكل حركة وتيرة تحكم مسارها منذ البداية حتى النهاية. فالحركة التي قد تنطلق في سبيل غزو العالم قد تجنح في مرحلة لاحقة الى وتيرة تغيير العالم، او تحويله، بوسائل سياسية شرعية، كما يتضح من خلال مسيرة حركة مثل "غوش ايمونيم"، او العكس كما حدث في تاريخ حركة "الإخوان المسلمين" او "حركة حماس". وغالباً ما تنهج الحركات الأصولية سبيل خلق عالمها البديل، لكنها تبعاً لما قد تظفر به من نجاح، قد تسلك سبيل التحويل الى منهجها وملتها، كما حدث للجماعات الأصولية البروتستانتية في الولاياتالمتحدة. وهناك من الحركات الأصولية من تجمع في توجهاتها وتقاطعها مع العالم وتيرتين مختلفتين، كما هو الأمر بالنسبة الى "جماعة التكفير والهجرة" التي اتبعت وتيرة إنكار المجتمع بإعتباره "جاهلياً" غير انها، في الوقت نفسه، لم تكف عن الإغارة عليه. والوتيرة التي قد تحكم مسيرة حركة أصولية ما، في وقت من الأوقات، تحدد إستراتيجيتها السياسية وعلى وجه قد يؤدي الى ازدهارها في سياق سياسي ما وانحدارها في سياق آخر. فبعض الحركات التي اتبعت وتيرة غزو العالم، في إطار سياسة غير ديموقراطية، ظفرت بالنصر مرة، كما حدث في إيران، وبالهزيمة مرات، على ما يتضح من تاريخ "الاخوان المسلمين" في سورية و"حزب الدعوة" في العراق و"التكفير والهجرة" في مصر. ولئن ظفرت بعض الحركات ذات الوتيرة التعليمية والتبشيرية المسار، بالنجاح في البلدان الديموقراطية، فإن هذا النجاح بالذات أضعف حدودها وشتتها وأفضى ببعضها الى الإنكفاء نحو مسار تحكمه وتيرة إنكار العالم وشجبه، كما حدث لبعض الحركات الأصولية في الولاياتالمتحدة. ولقد ازدهرت حركة حماس في إتباعها وتيرة "غزو العالم" في إطار الصراع القومي ما بين الشعب الفلسطيني وإسرائيل، في حين أدى إتباع حركة معادية شأن "غوش إيمونيم" للوتيرة نفسها، وفي السياق السياسي ذاته، الى إنحدارها. ونظراً الى الدينامية التي تسم مسار بعض الحركات الأصولية، فإن الوصف الدقيق للوتائر التي حكمت وجهاتها وأملت إستراتيجياتها السياسية، يتطلب جهداً أبعد في تتبع مسار كل حركة على حدة. وهذا لا يعني أن مؤلفي الكتاب أخفقوا في تقديم دراسة دقيقة لبعض أهم جوانب الحركات الأصولية. فثمة هنا جهد تحليليّ دؤوب ومنهجية صارمة بما يجعل الدراسة أعمق من محاولة إلمام فضفاضة بطبيعة وتاريخ الحركات الأصولية، تجيز جمعها في إطار ظاهرة كونية واحدة. وهي لئن أفلحت في التشديد على أوجه الشبه العائلية ما بين مختلف الحركات الأصولية، بيّنت ايضاً أوجه الإختلاف العديدة، ما يجيز لنا الخلوص الى أن الظاهرة المعنية معقدة، متغيرة، عصّية على الوصف او التصنيف، رغم الإستعانة بعدد كبير من المفاهيم والمقولات التحليلية. والأبعد من ذلك انه يجيز الخلوص بأن من المحال إبتكار سياسة واحدة تصلح لمواجهة هذه الحركات مجتمعة، وفي اي وقت. لكن إذا ما صحت مثل هذه الخلاصة، فما جدوى الإصرار على وجود ظاهرة أصولية متصلة على وجه كوني؟ بل ما معنى محاولة العقلنة، الكونية الإفتراض، لظاهرة تعصى عقلنتها الاّ على وجه طارىء ومحليّ؟