تبدّدت أوهامنا، فهل تحولت سذاجتنا الى نضج عقلي؟ بتنا نعرف ما لم يعرفه معظم مؤرخي القرن التاسع عشر وعلماء الاجتماع فيه: بتنا نعرف نهاية القصة، كل قصة، ونعرف العواقب الوخيمة لانتصار الايديولوجيات، وتحقق الاحلام، ونيل التطرف اهدافه. شهدنا نهاية الرايخ الثالث الذي ظن هتلر انه سيبقى قائماً لألف عام تالية وبعد مرور اثنتي عشرة سنة من تأسيسه، وشهدنا صورة مؤسس الفاشية الايطالية معلقاً من المشنقة، وشهدنا انهيار المشروع الحضاري الذي ضحى من اجله ملايين الشيوعيين بأرواحهم، وشهدنا الخاتمة المروعة لبطل "أم المعارك" ولنظامه في العراق. وبقي تساؤلنا: كم تستغرقه من الوقت عملية التهام النار لنفسها؟ أما التساؤل عن كيف تموت الفكرة فقد عرفنا الاجابة عليه: تطرف الحروب الدينية قضى على الدين في اوروبا، وتطرف المشاعر القومية قضى على القومية والتجارب الأليمة غرست في افئدة الناس وعقولهم إيماناً بأن صفوف الهوس والتعصب والتطرف إن هي إلا بدائل عن احترام الفرد لذاته. وغالباً ما ينفجر هذا الهوس والتعصب والتطرف عشية احتضار الايديولوجيات والعقائد، ظهر هوس الصليبيين عشية بزوغ عصر النهضة، والهوس الديني إبان حرب الثلاثين عاماً في اوروبا عشية ازدهار العقلانية والعلمانية والتنوير في القرنين السابع عشر والثامن عشر، والتمسك الاهوج لدى سكان الجنوب في الولاياتالمتحدة بنظام الرق عشية تحرير الرقيق، والوطنية المسحورة المتمثلة في الفاشية والنازية إبان الربع الثاني من القرن العشرين عشية افول النزعة الوطنية في أوروبا. أدركنا الآن مبدأ أن الجهل يميل بطبيعته الى التطرف فما من احد يتطرف بصدد ما يفهمه حق الفهم، وإنما نتطرف في أفكارنا وآرائنا بصدد الامور التي نجهلها، أو نلم بطرف يسير منها، أدركنا أنه لن تمر فترة طويلة على بناء المدينة الفاضلة، بفضل الإرهاب، قبل ان تبهت كل سماتها إلا سمة الإرهاب، إرهاب الدولة، إرهاب "أبطال الحرية" من امثال موسوليني وستالين وهتلر وعبد الناصر وصدام حسين الذين ثبت لنا الآن انهم كانوا لا يعرفون ما يصنعون بتلك الحرية، وأنهم كانوا طوال الوقت، ومنذ البداية، مجرد أناس متعطشين الى السلطة. أدركنا أنه من الأسهل علينا ان نحب الإنسانية من أن نحب جيراننا، وأنه حتى إن رفع بعض افظع الانظمة الغاشمة شعار خدمة البشرية، وتغنى به، وضمنه دساتيره فإنه سيظل يعتمد بصفة اساسية - من اجل البقاء في الحكم - على وشاية الفرد بجاره، وقد ظلت انظمة كنظامي عبد الناصر وصدام ترى في حب الجار شعوراً معادياً للثورة أو لنظام الحكم، كما عاب ماوتسي تونغ على المثقفين الليبراليين في الصين ترددهم في الابلاغ عن معارفهم واصدقائهم، وذويهم من غير المتعاطفين مع النظام القائم. نحن لا ننكر أن البواعث قد تكون نبيلة في الأصل، والرغبة في تغيير الأوضاع الفاسدة قائمة. غير أنه كثيراً ما تكون النتيجة عكس ما كان مرجواً في البداية، فيكون العلاج أسوأ من المرض. فالإصلاح عملية تجري على جسم المجتمع، بيد أن المصلحين يختلفون عن الجرّاحين في انهم لا يعملون حساباً للآثار الجانبية غير المتوقعة وهي الآثار التي تحول مسار الإصلاح الى عواقب غير مرغوب فيها، ورهيبة في احوال كثيرة وحينئذ يغدو "المصلحون" من اطباء المجتمع جزءاً من المرض ذاته. نبدأ في السير في نهج الاشتراكية بهدف تحقيق العدالة الاجتماعية، فينتهي بنا النهج الى فاشية وهيمنة للبيروقراطية، وقد نتحول الى انفتاح لتحرير الاقتصاد القومي، فإذا بمعظم من افاد منه هم ممن لا خَلاقَ لهم ولا مبدأ، وإذا بنا حيال تضخم ضاعت معه طبقة الموظفين والبورجوازية الصغيرة، وقد نرى للناس كافة حقاً في التعليم هو كحقهم في الهواء والماء، فإذا التوسع فيه يُغرق المجتمع بمتعلمين يريدون لأنفسهم مكاناً تحت الشمس، وينتهي بهم الحال الى ان يصبحوا من اخطر عناصر التوتر الاجتماعي، وقد نذهب الى أنه ما من امل للدولة المتخلفة في النهوض إلا بأخذها بأسباب الحداثة وتقليد الغرب، فإذا التقليد يولّد احساساً بالنقص والضعة، وشعوراً ذليلاً بعدم الصلاحية وإذعاناً لقيم تخالف قيمنا وتراثنا، وإذا بكل هذا يولد المرارة واعمال العنف، ومشاعر العداء للغرب، وقد ننتهي إلى أن الامل معقود بتطبيق احكام الشريعة الإسلامية، فإذا النظام لا يطبق منها غير قطع ايدي شرذمة من اللصوص وجلد زانية او زانيتين في ميدان عام، وتفريغ زجاجات الخمر من محتوياتها في الانهار والبحيرات. منذ بضعة أيام قابلت في شارع بالقاهرة احد معارفي القدامى، قضى في العمل في العراق نحو عشرين عاماً، وأسهم في انتاج فيلم عن حياة "البطل الخالد" صدام حسين. كنتُ في نحو السادسة عشرة حين جاء يزورنا ذلك الاشتراكي العتيد وهو صديق لأخي الاكبر، وكان قد عاد لتوّه من بوخارست حيث حضر مهرجاناً لحركة انصار السلام، وحين سألته يومها وكنا في عام 1948 عن مشاهداته وانطباعاته قذف بذراعيه في الهواء صائحاً: يا سلام يا سلام يا حسين يا خويا! عقبالنا كده! القوم هناك يرقصون في الشوارع يكادون ان يطيروا في الهواء فرحاً وسعادة في ظل النظام الشيوعي، اسير في الطريق فإذا الفتاة حسناء ترتدي الزي الشعبي المزركش، تتبين من ملامحي اني اجنبي فتترك موكب المهرجان وتتقدم الي مبتسمة مرحبة، وتقبل خدي ثم تُهديني وردة من باقة الازهار في يدها، الابتسامة على وجوه الجميع، احسست إذ اسير بينهم وكأني في الجنة، لكنها في الارض لا في السماء، واثناء حياتنا لا بعد الموت. رأيته في الاسبوع الماضي شيخاً مهدّماً ذا ابتسامة مُرة وبضحكة اشد مرارة، فما انتهينا من تبادل التحية وسؤالي اياه عن احوال العراق حتى هتفتُ به: الا تذكر يوم ان زرتنا في منزلنا في "مصر الجديدة" بعد عودتك من رومانيا، فقلت لي كذا وكذا؟ ما قولك الآن بعد إعدام تشاوشيسكو وانهيار الشيوعية في اوروبا الشرقية وغيرها؟ لقد ترك وصفك حينذاك في نفسي انطباعاً قوياً لا يزال قائماً الى اليوم خصوصاً للفتاة التي قبّلتك وأهدتك وردة من باقة أزهارها. ضحك طويلاً ثم قال: - يا سيدي ما تدقّقش. كنا شباباً سعيداً بأحلامه، يرى أوهامه حقيقة واقعة، أما كنت أنت ايضاً وأقرانك في روضة الاطفال تغنون بمناسبة مولد الاميرة فريال ابنة فاروق "فريال يا فريال... يا مطلع الآمال". ما هي بالضبط تلك الآمال التي رأيتموها مقترنة بفريال؟، وأين هي فريال نفسها الآن؟ هه؟!. ثم انبرى يغني ساخراً مقطعاً من قصيدة إيليا ابو ماضي التي يغنيها محمد عبد الوهاب: "كلها ضاعت، ولكن اين ضاعت؟ لستُ ادري". واضاف بعد دقيقة من الصمت: لو أن الانسان يعيش اكثر من مرة لغدا الامر مقبولاً محتملاً، كنا عندئذ سنرى في الحياة الاولى مسودة نخط فيها ما يعن لنا دون عناية، ثم ننقل منها الى الحياة الثانية ما نراه جديراً بالنقل بعد تصحيح الأخطاء، وحذف الحماقات، والامتناع عن الاشتراك في إنتاج فيلم عن امجاد صدام حسين. غير أنها للاسف حياة واحدة، اعتنقت الشيوعية منذ كنت في الرابعة عشرة، وما أكثر النزاعات التي دبت بيني وبين اسرتي بسببها، كنت على استعداد لأن اهب حياتي ومالي وصحتي قرباناً لما أؤمن به. حين مات ستالين في 5 آذار مارس 1953 ظللت اجهش بالبكاء في حرقة، لدرجة اني اثرت شفقة والدي الذي يخالفني في الرأي فجاء يقبل رأسي ويضمني اليه مواسياً. ومع كل ما حدث منذ ذلك الحين من امور كانت كفيلة بزلزلة عقيدتي، لم تتزلزل ولم تتأثر، ووجدت لنفسي تفسيراً يُريحني أُبرر وأبرر وأبرر: هجوم خروتشوف على ستالين في العام 1956 انتفاضتا بولندا وهنغاريا، احتدام الصراع الصيني - السوفياتي، شيوع الفساد في زمن بريجنيف.. اما انهيار الاتحاد السوفياتي والنظم الاشتراكية الاخرى فهو ما لم استطع معه صبراً. حاولت ان اعزي نفسي بقولي إني كنت على الاقل اجاهد واعذب في سبيل ما اؤمن بأنه الحق، وبأن من شأنه تحقيق العدالة الاجتماعية للبشر، غير انه تبرير لم يجد له سبيلاً الى القلب وأنا أواجه حقيقة أن حياتي بأسرها ضاعت سُدى في سبيل اكذوبة، وأن دفاعي عن ستالين كان دفاعاً عن مجرد اثيم، وأن حماستي المفرطة ونشاطي الملتهب كانا خطأ جسمياً ومجرد عبث صبيان. ثم عاد يكرر المقطع من اغنية عبد الوهاب. لم يكن من المناسب ان نواصل حديثنا هذا على قارعة الطريق، فدلفنا الى احدى صالات الشاي نكمله فيها: انقضت إذاً سنوات توقده الثوري وتضاءل ثم تلاشى إيمانه بالاشتراكية والماركسية، وكذا سخطه على مظاهر الحياة حوله، أضحى الآن في شيخوخته قابلاً لكل شيء، ولكل الاوضاع: لديكتاتورية صدام، وللاحتلال الاميركي للعراق، بعد أن ثبت له ان محاولات الإصلاح كثيراً ما تزيد الشرور استفحالاً، وتدفع الوضع البشري الى مزيد من التعقيد. صحيح ان ثائرته لا تزال تثور على اكاذيب السياسيين، ودجل بعض رجال الدين، والقسوة التي قد تبدو في معاملة الرجال للنساء، والكبار للصغار، والعبث بالبيئة والضجيج المستمر، وقلة الاحترام لمشاعر الآخرين. غير أنه لم يعد يؤمن كما كان يؤمن في شبابه بالتغيرات الكبرى، او بقلب الاوضاع الاجتماعية والسياسية والاقتصادية رأساً على عقب، إذ كيف يمكن ان تكون ثمة فرصة للتغيير، لتغيير علاقة الحاكم بالمحكوم والمنتصر بالمهزوم، وصاحب رأس المال بالعامل والمدير بمرؤوسيه وعلاقات الناس بعضهم ببعض حين يكون اقصى ما يمكن ادراكه هو تركيبات جديدة من نفس العناصر، من عناصر ثابتة لا تتغير لا تزيد ولا تنقص مهما كانت ضخامة الثورة، وراديكالية الإنقلاب؟ فلو ان تلك العناصر كانت قابلة للتطوير بالانماء او بالاستئصال لكان الامر جديراً بأن ينظر فيه. غير أن الواقع والمقدّر انه من المستحيل اضافة عنصر جديد، أو استكشاف سبيل جديد للتخلص من القديم الثابت، والقديم الثابت هو الشهوات والاهواء، والحقد والحرص على خدمة الذات والمصالح الشخصية، والغيرة والحسد، والخزعبلات والغباء، قد يهتم بتطور سير اللعبة فوق لوحة الشطرنج الشباب الغر، وجهلة الناس، او حتى تلك الاقدار العابسة الخفية التي تلعبها وظهورها محنية فوق الرقعة تفكر في الخطوة التالية، غير انه عاصر في بلده وفي غير بلده من التجارب ما كان كفيلاً بإخماد جذوة الامل في اية محاولة لاحداث اصلاح جذري. كان ثمة راكب يلهب الركيبة بالسوط فإذا الركيبة وقد اطاحت بالراكب وركبت من كان يركبها، وراحت بدورها تلعبه بالسوط. أليس هذا بالضبط هو ملخص كل ثورة ما فعله الالمان باليهود فعله اليهود بالفلسطينيين، ما فعلت النازية بفرنسا فعلته فرنسا بالجزائريين ما فعلته فرنسا بالجزائريين، المسلمين يفعله الجزائريون المسلمون الى اليوم في من يخالفونهم في الرأي؟ ألم ير رجالاً زعموا ان الانقلاب الذي احدثوه انهى عهداً اسود من الفساد والاستبداد وفتح من فوره صفحة جديدة من الحرية والعدالة والمساواة، ثم إذا بأيدي هؤلاء الرجال بعد فترة قصيرة تمتد الى ممتلكات الآخرين تنهبها كما كان ينهبها من سبقوهم في الحكم، وإذا هم يفرضون على الامة استبداداً باسم المساواة، ويملأون السجون باسم الحرية بأعداد من الناس اكبر مما شهدته سجون العهد البائد، وإذا المظالم تتضخم على نحو لم يكن له مثيل؟ بات الآن يؤمن بأن قدر البشرية ثابت محتوم، مهما انقضت الايام واختلفت المسميات، ما دام الناس على ما فطروا عليه، أما امكان تغيير ما فطروا عليه فوهم وسراب، ما لم يُفلح العلم مستقبلاً في احداث تغيير في الجينات بحيث يستأصل الشر من النفوس، ويصبح الانسان غير قادر على الإتيان به. بات الآن يقول: "إن كان فوكوياما قد ذهب الى أن التاريخ قد انتهى، فإني صرتُ اذهب الى أنه لم يكن ثمة تاريخ في أي وقت من الأوقات، إن هي الا تموجات عارضة على سطح الماء في محيط من الشر". * كاتب مصري.