إتاحة تخصيص عقارات الدولة لأكثر من جهة حكومية    السجن مدى الحياة ل«مغتصب التلميذات» في جنوب أفريقيا    خوفاً من الورثة.. مغربية تحتفظ بجثة والدتها !    6 توصيات لتعزيز الهوية الثقافية ودعم الاستثمار في تعليم اللغة العربية محلياً و دولياً    إسرائيل تقصف الضاحية.. مصير خليفة نصر الله غامض    ترامب: على إسرائيل ضرب المنشآت النووية الإيرانية    هل أوقف الاتحاد الدولي المُلاكمة الجزائرية إيمان خليف وجردها من ألقابها ؟    في مباراة الفريق أمام الرياض .. القادسية يحتفي بوزير الإعلام "الدوسري"    عبدالعزيز بن سلمان يشارك في اجتماعات مجموعة العمل الخاصة بالتحولات في مجال الطاقة    الفتح يختتم تحضيراته لمواجهة التعاون    جمعية الأدب تعتمد 80 سفيراً في 30 مدينة    الهيئة السعودية للسياحة تطلق تقويم فعاليات «شتاء السعودية»    الخليج يعبر الخلود بهدف في دوري روشن السعودي للمحترفين    ميندي يوجه رسالة لجماهير الأهلي    مدرب القادسية يُفسر الخسارة أمام الرياض    الشباب يتعرض للخسارة أمام ضمك    الجيش الأميركي يعلن قصف 15 هدفا للحوثيين في اليمن    مسؤولون وأعيان يواسون أسرتي القاضي وآغا في فقيدتهم    محافظ الطائف يعزي أسرة الحميدي في فقيدهم    تعليم مكة : 1485 مدرسة تحتفي بأكثر من 30 ألف معلم ومعلمة في يوم المعلم    لوحة «ص ق ر 2024» لمركبة «المرور» تلفت أنظار زوار «الداخلية» في معرض الصقور والصيد    رصد طائر «سمنة الصخور الزرقاء» في الحدود الشمالية    القبض على (4) يمنيين في جازان لتهريبهم (120) كجم "قات"    الوطنية للإسكان NHC تكشف مزايا ومكونات حديقة خزام الكبرى شمال الرياض    الجيش الإسرائيلي يستعد لتوسيع عملياته البرية في جنوب لبنان    انطلاق حملة الحي يحييك للاحياء السكنية بالمنطقة الشرقية    تعرف على غيابات الأهلي عن الكلاسيكو أمام الهلال    ب 3 مناطق.. مركز «911» يتلقى 98 ألف مكالمة خلال 24 ساعة    تجمع الرياض الصحي الأول يكرم 14 استشارياً    إمام المسجد النبوي: آية ((إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ )) تحمل في طياتها معاني عميقة    وفاة 866 شخصًا بمرض جدري القردة في أفريقيا    "الصحة العالمية"تستعدّ للقيام بالجولة الثانية لتلقيح أطفال غزة ضدّ شلل الأطفال    أثر الشخصية واللغة والأمكنة في رواية «الصريم» لأحمد السماري    أحلام على قارعة الطريق!    «زلزال الضاحية».. ومصير حزب الله    غريبٌ.. كأنّي أنا..!    ذكورية النقد وأنثوية الحكاية.. جدل قديم يتجدّد    إنجاز في ملف «البطالة»    الشاهي للنساء!    اختتام مشاركة الهلال الأحمر في المعرض التفاعلي الأول للتصلب    كتب الأندية الأدبية تفتقر إلى الرواج لضعف التسويق    محافظ الطائف يلتقي مدير جمعية الثقافة والفنون    مدير تعليم الطائف يطلق مبادرة غراس لتعزيز السلوك الصحي    الأمير سعود بن نهار يعزي أسرة الحميدي    90 مبادرة لأمانة الطائف تعزز الوعي البيئي وتدعم الاستدامة الخضراء    أمانة الطائف توقع عقد إنشاء مشروع (قبة الفراشات) بمساحة ٣٣ ألف م٢    درجات أم دركات معرفية؟    معالي وزير العدل    2238 مصابا بالناعور في 2023    تعيين عدد من الأئمة في الحرمين الشريفين    أول فريق نسائي من مفتشي البيئة في المملكة يتمم الدورية رقم 5 آلاف في محمية الأمير محمد بن سلمان الملكية    بدء الاجتماع الطارئ لمجلس الجامعة على مستوى المندوبين لبحث التحرك العربي للتضامن مع لبنان    نيابة عن ولي العهد.. وزير الخارجية يشارك في القمة الثالثة لحوار التعاون الآسيوي    خادم الحرمين يهنئ رئيس غينيا بذكرى الاستقلال ويعزي رئيس نيبال في ضحايا الفيضانات    تثمين المواقع    مملكة العز والإباء في عامها الرابع والتسعين    وزير الداخلية يعزي ذوي شهيد الواجب أكرم الجهني    مفتي عام المملكة يستقبل مفوّض الإفتاء بمنطقة جازان    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



محاكمة القرن . خصوصية أميركا وروسيا ونهاية النظام الشيوعي تبقيان مطلب المساواة في التداول 1 من 3
نشر في الحياة يوم 11 - 10 - 2000

تعددت الكتابات عند نهاية القرن العشرين وبداية الألفية الجديدة، تقويماً للماضي وتطلعاً الى المستقبل. وكان ألكسي دي توكفيل Alexis de Tocqueville أبدى في الثلث الأول من القرن التاسع عشر ملاحظة غريبة في كتابه "عن الديموقراطية في أميركا" De la Democratie en Amerique, 1835, Garnier, Flammarion, Paris,1981 لم تلبث أن تحققت كنبوءة للقرن العشرين عندما أشار في خاتمة الجزء الأول من هذا الكتاب الى "انه يوجد الآن 1835 شعبان كبيران، وعلى رغم بداياتهما المختلفة، فإنهما يتجهان الى هدف واحد، هذان الشعبان هما الشعب الروسي والشعب الأميركي. فكل منهما - وقد ظهر من المجهول حين كانت الأنظار متجهة الى أمور اخرى - يتجه الى مقدم الصفوف بين شعوب العالم. الأميركيون في صراعهم مع الطبيعة، والروس مع البشر. أحدهما يقوم على الحرية والآخر على الاستعباد. وعلى رغم بداياتهما المختلفة وطرقهما المتعارضة، فإنهما مدعوان - وفقاً لمصير محتوم - لاقتسام مستقبل العالم بين يديهما". جاءت هذه الملاحظة وروسيا القيصرية ما تزال تعيش واقعها الاقطاعي والولايات المتحدة منكفئة على نفسها بعيداً من صراعات أوروبا والمشكلات الدولية، وحين كان كارل ماركس انتقل بالكاد الى باريس حيث تعرف على عدد من الاشتراكيين الفرنسيين، وقبل ما يقرب من خمسة عشر عاماً على اصداره "البيان الشيوعي" 1848. وبذلك كانت ملاحظة توكفيل غير متوقعة بقدر ما هي نافذة وعميقة. وجاء القرن العشرون محققاً الى حد كبير نبوءة توكفيل، فالجزء الأهم من هذا القرن كان مواجهة على اقتسام العالم بين روسيا والغرب، وخصوصاً الولايات المتحدة.
القرن القصير
وعندما نتحدث عن القرن العشرين فإننا نشير الى التاريخ المعاصر، كما عرفه هوبزبوم المؤرخ البريطاني الماركسي في كتابه عن "عصر التطرف" Eric Hobsbawm, The Age of Extremes, A History of The World 1914-1991, Pantheon Book, حيث عرف القرن العشرين بأنه القرن القصير الذي يبدأ من الحرب العالمية الأولى 1914. وينتهي مع نهاية الحرب الباردة 1991. وهو بذلك القرن الذي شاهد بزوغ الثورة الاشتراكية مع نهاية الحرب العالمية الأولى 1917.
وينتهي هذا القرن تاريخياً - وان لم يكن زمنياً - بتحلل النظام الشيوعي وسقوط الاتحاد السوفياتي 1991. وهكذا فإن القرن العشرين، وفقاً لهوبزبوم، هو قرن قيام وانحلال النظام الشيوعي، والذي انقسم العالم فيه خلال النصف الأخير منه في صراع بين الرأسمالية وعلى رأسها الولايات المتحدة، والشيوعية وعلى رأسها الاتحاد السوفياتي تماماً كما جاء في بنوءة توكفيل. في حين كان الجزء الأول من القرن علاقات ملتبسة بين النظامين تراوحت بين العداء الصريح أو تحالف الأعداء ضد عدو آخر مشترك. فكيف يرى المؤرخون مكان النظام الشيوعي منه؟
نهاية التاريخ
تعددت المقولات حول طبيعة هذا القرن وما سيفضي اليه، فهنالك من رأى في سقوط الاتحاد السوفياتي "نهاية التاريخ" Francis Fukuyama, The End of History and the last Man, New York, Free Press, 1992. وانتصاراً كاملاً للرأسمالية والليبرالية، وهناك على العكس من ذهب الى ان الصراع المذهبي، وقد انتهى بسقوط الشيوعية، فإن الطريق قد فتح "لصدام الحضارات" Samuel Hantington, The Clash of Civilizations and the Remaking of the World Order London, Simon & Schuster Itd., 1997 وبين هذا وذاك تعددت المقولات عن "العولمة" Globalisation وغير ذلك من الاجتهادات لمستقبل العالم في القرن الحادي والعشرين. ومع ذلك يظل الحديث عن المستقبل منوطاً بإدراك حقيقة ما تم خلال القرن العشرين، "فالمستقبل" وليد "الحاضر" وشكل ادراكنا به، ومن هنا أهمية البحث عن حقيقة القرن ومكان النظام الشيوعي من هذا القرن.
ثلاث حروب عالمية
شهد هذا القرن القصير - وفقاً لتعبير هوبزبوم - ثلاث حروب عالمية، اثنتين ساخنتين والثالثة باردة - وإن لم تكن اقل قسوة من سابقاتها - وفي هذه الحروب الثلاث كان دور النظام الشيوعي محورياً. فالحرب العالمية الأولى تمخضت عن ولادة أول نظام شيوعي مع ثورة اكتوبر البلشفية في 1917. ومعها مباشرة بدأت أول مواجهة مع الدول الغربية - الرأسمالية - فيما عرف بحروب التدخل الأجنبية، والتي لم تستطع ان تقضي على هذا النظام الوليد. وجاءت الأزمة الاقتصادية العالمية في 1929، وانشغلت الدول الغربية بأمورها الداخلية وواجهت هذه الدول أخطر تحد لبقاء النظام الرأسمالي نفسه وقدرته على الاستمرار. وقد ارتبط بهذه الأزمة الاقتصادية أمران ساعدا بشكل ما على تخفيف الضغوط على النظام الشيوعي الجديد. فأما الأمر الأول، فإنه يرجع الى ما ترتب على الأزمة الاقتصادية في الدول الغربية خصوصاً في الولايات المتحدة الأميركية من انكماش هائل في الطلب الداخلي واستمرار الركود مما دعا الصناعة الأميركية الى منح تسهيلات ائتمانية هائلة للأسواق الخارجية خصوصاً روسيا. وصادف ذلك الوقت بداية برامج التصنيع الروسية التي عرفت ببرامج السنوات الخمس.
وهكذا تعاصرت الخطة الخمسية الأولى في روسيا مع الانكماش الاقتصادي في اميركا واستفادت من التسهيلات الكبيرة التي وفرتها البنوك والصناعة الأميركية لصادراتها. وأما الأمر الثاني، فقد كان بداية ظهور الخطر النازي في المانيا. فقد أدت حدة البطالة في المانيا الى دعم الحركة الشيوعية بها مما أدى بالمقابل الى ظهور ردة يمينية تمثلت في الحزب النازي، والذي استطاع ان يصل الى الحكم في 1933، وبدا هذا الحزب منذ البداية كعدو جديد وخطير للغرب حيث استند الى الرغبة في الثأر من هزيمة الحرب العالمية الأولى ولإزالة الإهانة التي لحقته من معاهدة فرساي 1919.
وهكذا ظهر للغرب عدو جديد وخطر ملح، أنساه - موقتاً - الخطر الشيوعي. ولم تلبث أن قامت الحرب العالمية الثانية بين ألمانيا والحلفاء، ثم مع غزو ألمانيا النازية لحليفها - الاتحاد السوفياتي.
على رغم معاهدة عدم الاعتداء بينهما 1938 توافرت الظروف المناسبة لقيام تحالف بين الأعداء - الغرب والاتحاد السوفياتي - فيما عبر عنه تشرشل "بالتحالف مع الشيطان" للقضاء على النظام النازي. وفقد الاتحاد السوفياتي خلال الحرب مع المانيا النازية أكثر من خمسة عشر مليون ضحية وكان العقبة الرئيسية التي انكسرت عليها آلة الحرب الألمانية، في حين اقتصر الدعم الغربي - خصوصاً الأميركي - للاتحاد السوفياتي على تزويده بالسلاح والعتاد وفقاً للقانون الأميركي للإعارة والتأجير. وبهذا تحمل الاتحاد السوفياتي في الحرب العالمية الثانية أعباء هزيمة النازي من الضحايا البشرية في حين كانت تكاليف الولايات المتحدة الأميركية قاصرة في الغالب على السلاح والمعدات. ولم تقتصر مساهمة الاتحاد السوفياتي في هزيمة النازي على هذه الضحايا البشرية الرهيبة، بل كان للأحزاب الشيوعية دور رئيسي في هزيمة النازي في الدول الأوروبية المحتلة مما أبرز على الساحة التناقض والعداء بين الشيوعية والنازية، الأولى يسارية والثانية يمينية متطرفة.
ومع نهاية الحرب العالمية الثانية، انفرط تحالف الأعداء، وبدأت "حرب باردة" بين الغرب وعلى رأسه الولايات المتحدة، وبين الشرق بقيادة الاتحاد السوفياتي. وكان الاتحاد السوفياتي قد حسن مواقعه بعد الحرب مباشرة، فسقطت معظم دول وسط وشرق أوروبا في قبضة النظام الشيوعي في تحالف وثيق تحت سيطرة موسكو. ولم تلبث ان نجحت الثورة في الصين فانضمت أكبر قوة بشرية الى المعسكر الاشتراكي ولحقتها كوريا الشمالية وفيتنام ثم كوبا في أميركا اللاتينية وبعض الدول الافريقية.
وهكذا انقسم العالم الى معسكرين، أحدهما أطلق على نفسه اسم "العالم الحر" بقيادة الولايات المتحدة الأميركية، والثاني عرف باسم "المعسكر الاشتراكي" بقيادة الاتحاد السوفياتي وفي القلب منه روسيا. وهكذا تحققت نبوءة دي توكفيل حيث اقتسم مقدرات العالم شعبان، أميركا من ناحية وروسيا من ناحية أخرى، واشتعلت بين المعسكرين حرب باردة أو صامتة، أدواتها الاقتصاد والحرب النفسية والثورات والثورات المضادة وعدد من الحروب الاقليمية حين امتنعت المواجهة العسكرية المباشرة بين العملاقين عندما توافرت الامكانات النووية لكل من الطرفين منذ 1951 عندما امتلك الاتحاد السوفياتي السلاح النووي.
ولم تكن هذه الحرب الباردة اقل ضراوة أو أوفر تكاليف من الحرب المكشوفة. وبعد حوالى نصف قرن وفي بداية التسعينات انفرط الاتحاد السوفياتي ومعه معظم منظومة المعسكر الاشتراكي في أوروبا الشرقية. وكان سقوط جدار برلين في 1989 رمزاً لانتهاء هذه الحرب، كما كان هدم الباستيل 1789، من قبل، رمزاً للثورة الفرنسية ومعها انتهاء "النظام القديم" قبل مئتي عام. وبذلك، انتهى القرن العشرون وفقاً لمقولة هوبزبوم سابق الاشارة اليها، وبدأ عصر جديد لم تتضح بعد معالمه، وان أعلن معه انتصار الليبرالية وسقوط الشيوعية - حتى اشعار آخر. وبدأت محاكمة النظام الشيوعي.
النظام والفكرة
والحديث عن "النظام الشيوعي" أمر ملتبس، يثير في الغالب أموراً أخرى متعددة، حيث تختلط الأمور ولا يعرف ما إذا كان الأمر متعلقاً بتقويم "النظام الشيوعي" كما عرفه التطبيق خلال القرن العشرين، أم أنه يتعلق بأشياء أخرى. وليس الأمر كذلك بالنسبة لتقويم نظم أخرى كما الحال مثلاً بالنسبة "للنظام النازي"، فمناقشة هذا النظام تنطوي على شيء محدد هو النظام الذي تولى الحكم في ألمانيا منذ 1933 حتى هزيمة الحرب العالمية الثانية 1945. أما مناقشة وتقويم "النظام الشيوعي"، فإنه يثير عادة مسائل فكرية وفلسفية وتاريخية مترابطة ومتداخلة. "فالنظام الشيوعي" هو أول تطبيق عملي للفكر الاشتراكي على أرض الواقع، ومن هنا فإن مناقشة "النظام الشيوعي" تتضمن شيئاً من مناقشة "الفكر الاشتراكي" كمذهب. والفكر الاشتراكي نفسه قديم ومتنوع، واذا كانت الماركسية هي أهم وأخطر المذاهب الاشتراكية، فإنها مع ذلك ليست الصورة الوحيدة لما يمكن أن يطلق الفكر الاشتراكي. فهناك دائماً نزوع الى قضية العدالة والمساواة، وهما مع فكرة الحرية من أهم المبادئ التي تعطشت الانسانية اليها في سعيها نحو التقدم والرقي. وإذا كانت الثورة الفرنسية نادت "بالحرية والمساواة والإخاء" فقد كان الإنجاز الأكبر لهذه الثورة - وما سبقها من ثورات سياسية في انكلترا والولايات المتحدة - هو في ميدان الحرية السياسية بأكثر مما هو في مجال المساواة. فالمساواة التي جاءت بها الثورة الفرنسية والتي أكدها الفكر الليبرالي هي المساواة امام القانون، هي المساواة في الفرص. أما "المساواة في النتائج" أو المساواة الاقتصادية فإنها لم تتحقق حيث استمرت الفروق في الدخول والثروات، وأحياناً زادت هذه الفروق.
حقاً لقد نجحت الدول الصناعية في الغرب، وخصوصاً في القرن العشرين، في ضمان حدود دنيا لمستويات المعيشة وتقديم نوع من الضمانات الاجتماعية مثل التأمين ضد البطالة أو العجز فضلاً عن التوسع في توفير الخدمات العامة التعليم، الخدمات الصحية، المرافق العامة، وتأكد ذلك بوجه خاص مع غلبة اتجاهات دولة الرفاهية Welfare State وتولي حكومات العمال الحكم بعد الأزمة العالمية في الثلاثينات أفكار كينز وسياسات روزفلت.
ومع ذلك فهناك محل للقول ان هذه الجهود في الدول الغربية لم تنجح تماماً كما لم تقض على عدم المساواة وان خففت من حدتها من ناحية، فضلاً عن انها ربما تكون نتيجة للأفكار الاشتراكية ولم تكن تطوراً طبيعياً للنظام الرأسمالي من ناحية أخرى.
النظرية والتطبيق
ولا يقتصر الالتباس عند مناقشة "النظام الشيوعي" على ما يثيره في شكل مباشر أو غير مباشر من التعرض لقضايا العدالة والمساواة وعلاقاتهما بالحرية، بل انه يثير أيضاً علاقة "النظام الشيوعي" بالماركسية. ولا يتعلق الأمر بالتساؤل فقط عما اذا كانت الماركسية هي الصورة الوحيدة للاشتراكية، بل ان هناك تساؤلاً عما اذا كان "النظام الشيوعي" كما طبق هو حقاً نظام ماركسي، والى اي حد اختلف التطبيق عن النظرية. لقد عرف "النظام الشيوعي" نفسه بأنه تطبيق "للماركسية اللينينية"، وهناك مجال للتساؤل عما اذا كان النظام لينينياً بأكثر مما هو ماركسي. فقد كان ماركس نفسه - وهو لم يخل من تحيزات عرقية وعنصرية - قليل الاعجاب - إن لم يكن كثير الاحتقار - بالشعب الروسي والجنس السلافي. من أمثلة تحيزات ماركس العنصرية نظرته الى اليهود والى المجتمعات الشرقية. ومن هنا فهناك من يرى ان انحرافات "النظم الشيوعية" انما هي جزء من التراث الروسي، وهو تراث للتسلط والاستعباد، ولا شأن لذلك بالماركسية لاحظ ملاحظة توكفيل عن الشعب الروسي. ولذلك فإن الحكم على "تجربة النظام الشيوعي" قد لا ينطوي على حكم على الاشتراكية أو الماركسية في "ذاتها"- اذا كان هناك معنى للشيء في ذاته - بقدر ما يشير الى التجربة الروسية في محاولتها لفرض تصورها عن الاشتراكية على العالم. فهو حكم على التراث الروسي وليس الاشتراكي.
تيار عالمي
كذلك لا ننسى ان الحديث عن "النظام الشيوعي" ليس فقط حديثاً عن النظام المطبق في دول المعسكر الاشتراكي، بل انه يتناول حركة عالمية، لها أحزاب وتيارات فكرية على اتساع العالم. فلها من المريدين والمناصرين ليس فقط بين الأوساط العمالية بل وخصوصاً بين جموع المثقفين والمفكرين. وكان لهؤلاء أدوار هامة وغالباً مشرفة في كثير من الظروف.
فمناهضة الفاشية والنازية استندت في الكثير من جهودها على عناصر المقاومة الشيوعية، وكان لأعضائها خلال الحرب العالمية الثانية وجود متميز ودور مؤثر. كذلك فقد كانت عناصر هذه الأحزاب والتجمعات هي أكثر العناصر تجاوباً مع حقوق الفقراء والمحرومين ليس فقط في الدول المتقدمة بل وخصوصاً في الدعوة الى التضامن مع شعوب العالم الثالث.
وأياً كان الحكم على "النظام الشيوعي" كما طبق في الدول التي أخذت به، فقد كانت الحركة الشيوعية العالمية والفكر الماركسي دعماً أساسياً لحركات التحرير الوطني في معظم المستعمرات وخصوصاً بعد الحرب العالمية الثانية. وقد كان لكتاب لينين "الاستعمار أعلى مراحل الرأسمالية"، ثم مساندة الاتحاد السوفياتي لحركات التحرير الوطنية، أكبر الأثر على تحرر الكثير من المستعمرات وحصولها على الاستقلال من الدول المستعمرة - وكلها من الدول الرأسمالية الغربية - ومن هنا التعاطف الكبير الذي يلقاه الفكر الاشتراكي بين مثقفي دول العالم الثالث. فهذه الدول عانت تحت وطأة الاستعمار وحرمت من حقها في الحرية من الدول الغربية الرأسمالية، وهكذا وجدت في الفكر الاشتراكي وأنصاره ملاذاً ودعماً في جهادهم للحرية والاستقلال.
لكل ذلك فإنه يصعب محاكمة أو تقويم "النظام الشيوعي"، كما طبق في القرن العشرين من دون ان يثير ذلك في شكل أو آخر هذه الالتباسات الأخرى. فمن يؤمن العدالة أو المساواة يخشى ان يكون التعرض "للنظام الشيوعي" محاربة - من باب خفي - لقضية العدالة والمساواة. وهو قد يدرك انحرافات "النظام الشيوعي"، ولكنه يخشى ان يكون الهجوم عليه دعوة حق يراد بها باطل، وهي الانقضاض على فكرة العدالة والمساواة الاجتماعية.
ومن يؤمن بالفكر الاشتراكي في شكل عام دون أن يتقيد بالماركسية أو بالتطبيق الروسي لها يتوجس خشية من ان يكون الهجوم على "النظام الشيوعي" هو حرب على الاشتراكية، وهناك من انصارها من يرون ان الاشتراكية مكملة وليست معارضة للديموقراطية وكثير منهم ينتقدون الجانب التسلطي للحزب الشيوعي. وهم يرون ان هناك تراثاً للفكر الديموقراطي الاشتراكي ينبغي الحفاظ عليه، ومن ثم فلا بأس من التغاضي عن "جرائم ستالين"، لأنها ليست جرائم الاشتراكية، وانما هي جرائم حاكم مهووس بالسلطة.
كذلك فإن الكثير من المثقفين خصوصاً في دول العالم النامي، والذين كانت الاشتراكية هي المنبع الأساسي لمقاومة الاستعمار والتسلط الأجنبي، وكانت سلاحهم في حروب التحرير، فانهم بدورهم يخشون أن تكون محاكمة "النظام الشيوعي" تجريداً لشرعية جهادهم في سبيل التحرير والاستقلال.
وأخيراً فإن هناك الكثير من الأطهار أصحاب النفوس النبيلة الذين أفنوا حياتهم وتعرضوا لصنوف العذاب والتشريد من أجل مثل عليا في تحرير الإنسان والإنسانية لكي يكتشفوا ان هذه المثل كانت ستاراً وغطاء "لنظام" لا يحفل إطلاقاً بأي "إنسان"، ولا يرى في الفرد سوى مسمار - يمكن ويجوز - التغاضي عنه لمصلحة هي عادة مصلحة الرئيس أو القائد أو الزعيم. وهؤلاء الضحايا يفضلون استمرار الوهم على الاعتراف بالغفلة.
فليس أقسى لمن ضحى حياته من أجل هدف أو مبدأ أن يكتشف في نهاية الطريق أنه كان ضحية الغفلة وسوء التقدير.
ومع كل هذا وذاك، فإن "النظام الشيوعي" في شكل أو بآخر كان من أهم معالم القرن العشرين، ولا يمكن تقويم هذا القرن من دون معرفة كاملة بحقيقة هذا النظام. وليس يجدي ان نتجاهل هذا التقويم خشية الملابسات التي أشرنا الى بعضها. فهذا نظام هو حقيقة تاريخية، وقد استمر في روسيا والاتحاد السوفياتي زهاء سبعين عاماً، وفي وسط أوروبا والصين لما يقرب من نصف قرن. وإذا كان النظام النازي لم يستمر خمسة عشر عاماً ولم يتمكن من الانتشار الجغرافي - كما حدث بالنسبة للشيوعي - فإنه قد حظى بقدر كبير من الدراسات حول طبيعته وآثاره. وكان ذلك درساً للانسانية حين تتعلم من أخطائها، حتى تتجنب هذه الأخطاء في المستقبل.
ولا يختلف الأمر بالنسبة "للنظام الشيوعي" الذي يستحق بدوره الدراسة والتقويم حتى تفيد الانسانية من تجاربها ولا تكرر اخطائها. وما دمنا في صدد المقارنة مع النازية، فإنه من المفيد ان نتذكر ان احد أسباب الأحجام عن تقويم "النظام الشيوعي" انما يرجع الى علاقته "بالنازية". فالمشهور هو ان الشيوعية هي عدوة النازية والفاشية. وهذا حق. وقد كانت روسيا هي الصخرة التي تكسرت عليها الاندفاعة العسكرية الألمانية. وقد دفع الشعب الروسي وشعوب الاتحاد السوفياتي ثمناً باهظاً من التضحيات البشرية في سبيل هزيمة النازية.
ومن هنا العداوة التاريخية بين النظامين، ومن هنا أىضاً قيل أن النازية هي أقصى اليمين عندما قيل أن الشيوعية هي أقصى اليسار. وقد ولد هذا العداء التباساً آخراً الى جانب ما أشرنا اليه سابقاً، وهو الخوف من ان يكون انتقاد الشيوعية. فإذا كانت الشيوعية هي نقيض الفاشية والنازية، فإن عيوب احداها قد تعتبر مزايا الأخرى. وهو امر ليس بالضرورة صحيحاً. فقد يشترك نقيضان في خاصية أو أخرى في حين يتناقضان في أمور أخرى.
وهذا ما حدث بالفعل، حيث يشترك النظامان في أسلوب الحكم الشمولي، وعبادة الفرد، والاستهانة بحقوق الأفراد، في حين ان اهدافهما كانت مختلفة، في احدهما الاحتفاء بالعرق أو الجنس، وفي الآخر الدفاع عن مصالح الطبقة العاملة، وأياً ما كان الأمر فقد كانت خشية الاتهام بمحاباة الفاشية والنازية هي احد أسباب احجام الكثير من المفكرين عن ادانة "النظام الشيوعي"، بما فيهم عدد من الاشتراكيين بل الشيوعيين - تروتسكي مثلاً. ولم تتوان أجهزة الدعاية الشيوعية عن اتهام كل صوت ينتقد الشيوعية أنه داعية للفاشية والنازية. وكان هذا كافياً في كثير من الأحوال لإسكات الكثير من الأصوات.
* الأمين العام للجنة الأمم المتحدة الاقتصادية لغرب آسيا اسكوا.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.