"في بعض قضايا السياسة والوطنية في العالم العربي بعد إسقاط النظام العراقي" - "الحياة" 2 آيار/ مايو كتب صالح بشير وحازم صاغية مقالاً أعتبره شديد الخطورة والعمق، ينطلق من رؤية انهزامية - ساعد الشأن العراقي في تعميقها - لمختلف الوقائع التي مرّ بها العالم العربي في العقود الاخيرة، يحاول الكاتبان أن يجعلا منها دليلاً عملياً الى فشل الهوية العربية وعمقها الإسلامي في الاساس، ومن ثم فقدان صدقيتها. وقبل أن استطرد في نقد المقال أود أن أعبر عن اتفاقي مع الكاتبين بُعد العقل العربي عن الوعي الواقعي عموماً وخطورة الاكتفاء بالإدانة للمشاريع السياسية والحضارية القائمة أو التي يتم فرضها وكذلك خطأ التحجر عند الموقف الرافض لكل ما هو أميركي ودفع الأمور الى الصدام لا الحوار. فإذا تجاوزنا ذلك، نجد أن الكاتبين - اللذين يحترفان لغة حداثية تجد إبداعها في هدم أو تفتيت ما هو قائم من دون تقديم بديل - يقيمان موقفهما على أساس أن الغالبية الساحقة من العرب كانوا دائماً في مواجهة الغالبية العظمى من أصحاب الكيانات القطرية التي حدث في شأنها نزاع في هذه المرحلة، مثلما حدث بين الاردن والمنظمة، ثم تحول الامر لاحقاً الى نزاع بين العروبيين اولئك وبين الكيانات نفسها. فالأكثرية العربية كانت في مواجهة اكثرية اليمنيين الجنوبيين في النزاع إبان الحرب اليمنية - اليمنية وهو ما تكرر في مواجهة الكويتيين كلهم لدى تعرضهم للغزو، ثم حدث ذلك مجدداً في مقابل اكثرية العراقيين في الحرب الاخيرة. واذ اصطدم الكاتبان في انحيازهما الى الكيانات القطرية في مقابل الاكثرية العربية بمشكلة الديموقراطية التي يدعيان مرجعيتها، بررا ذلك بأنه في حين أن الكيانيين أصحاب مصالح واقعية، فإن الأكثرية العربية "لا تمتحن على أي قياس واقعي لبلد بعينه. فالدعوة تلك ليست موقفاً من توزيع الثروة والسياسة والتعليم والتطبيب والتنظيم. فهناك دائماً الكثير من الضجيج الذي توجزه شعارات وهتافات وأصوات أحمد سعيد - محمد سعيد الصحاف... وهناك بالقدر نفسه افتقار الى المعنى والاستجابة المحددين يكاد يكون كاملاً". وما نرى أن الكاتبين قد بنيا حجتهما الأساسية على خلط شديد بين الانظمة او التيارات السياسية وبين اصحاب الكيانات الحقيقيين من الشعوب في الكثير من الامثلة التي ذكروها، وقد يكون اليمنيون الجنوبيون المثل الابرز في ذلك والذين يصعب القول انهم كانوا على خلاف مع الاكثرية العربية استناداً الى موقف نظامهم السياسي. وفي حين يقول الكاتبان عن حال البعث العراقي انها "حال قصوى تمنع الأخلاق استخدامها في السجال" نجد أنهما جعلاها الركيزة في تبرير مشروعية انحيازهما الى الكيانية في مواجهة الهوية العربية الإسلامية، لأن مصالح أكثرية العراقيين هي مصالح ذات جدارة مثلى في النماذج التي ذكراها. ولكن، على رغم إقراري بالضعف النسبي في وعي الأكثرية العربية بمدى مشروعية هذه المصالح في التخلص من نظام صدام حسين، فإن ذلك لا يعني أن يؤول موقف هذه الأكثرية المضاد لأميركا الى موقف معارض لتخلص الشعب العراقي من نظام صدام حسين، وكذلك فإن حال البعث العراقي هو الحال المثلى أو الوحيدة التي شجعتهما على الزعم أن "الطريق التي تبدأ بفلسطين لن تنتهي ببناء الدول بقدر ما تفضي الى تهديمها الواحدة بعد الاخرى"، والحال العراقية ايضاً هي التي منحتهما الفرصة للحديث عن الهزائم العربية الإسلامية المتواصلة التي تفقد مبررات الهوية الجامعة للأمة، وإلا فكيف نغفل عن الانتصار القريب للمقاومة العربية الإسلامية في جنوبلبنان ونحن نمر الآن بذكراه، وكيف لا نثمن الصمود الاسطوري للانتفاضة الفلسطينية والذي سيظل يمثل الدعم الاستراتيجي لدعاة التفاوض انفسهم. أما بيت القصيد في ما يهدف اليه الكاتبان من هدم فهو الهوية الإسلامية التي ترددت الإشارة اليها بين التصريح والتلميح، فهما يتحدثان عن التيارات العريضة لأفكارنا فيقولان: "هي تستمر بذاتها مقدسة مثل الخرافات التي تستحيل البرهنة على صحتها تماماً مثلما تستحيل البرهنة على خطئها، فلا الحقائق التي تستجد ولا الهزائم التي تنزل تحملنا على إعادة نظر بالأساسيات التي تبقى صحيحة على رغم كل شيء". ويذهب الكاتبان الى أن الاحداث المتلاحقة كشفت عن كون شعار القومية العربية شعاراً وحدوياً بلا مضمون، وبدلاً من تأصيل الشعار بتأكيد اعماقه الإسلامية يريدان انهاءه لمحو الهوية. وغاية هذا المقال هو محاصرة التداعي الحالي للبناء القومي المصطنع لئلا يذوب في القاعدة الإسلامية العريضة واختزاله الى كيانات عصبية صغيرة، وكأنهما يبادران بملاحقة الموقف لئلا يؤول في تشكيله الجديد الى واقع الهوية الإسلامية الصريحة الذي نراه محتوماً. ومن ثم فهما يسحبان فشل الادعاءات القومية ونموذجها الامثل البعث العراقي على ايديولوجية الوحدة الإسلامية، وينسبان اليها المثالب نفسها التي استطاعا ابرازها لتلك الادعاءات القومية من الصوت المرتفع وغياب المضمون، اذ يتم الحديث في المقال باستمرار عن "الايديولوجيا العروبية او ربيبتها او بديلتها الإسلاموية" عند التعرض لما يريانه فشلاً واقعياً يبرر اسقاط الايديولوجيا الموحدة للأمة. حقاً إن الإسلام دين وليس ايديولوجية، لكنه، وهو دين التوحيد، يجعل من الوحدة بين ابنائه اساساً ثابتاً في كل اطروحاته الايديولوجية المتجددة. وإسقاط هذا الاساس الوحدوي يعني التشكيك في قدرة الإسلام على أن يكون وعاء جامعاً. ومن ثم فعلينا - بدلاً من سحب إخفاقات الإدعاءات القومية على الايديولوجيا الإسلامية - أن نتساءل: هل تحققت في العصر الحديث تلك الايديولوجيا في الواقع المعاصر حتى يمكننا الحديث عن اختبار مدى فشلها او نجاحها؟ وهل حاولنا إقامتها جادين ومن دون أن ترهن القوى المعادية علاقتها معنا على إفشالها حتى يمكن التحدث عن عدم إمكان تحقيقها وفقدان جدوى التمسك بها. وعلى ذلك فالقول عن الايديولوجيا الإسلامية ضمن الحديث عن الايديولوجيات الوحدوية بأنها "لم تكن يوماً ناجعة في إنجاز تغيير أو تحرير" هو قول باطل لاستحالة اختباره في الواقع المعاصر في شكل مباشر. والتلبس الصارخ هو نسب نجاحات تلك الايديولوجيات الإسلامية الشعبوية الى القوى الوطنية الكيانية التي يتحدث عنها الكاتبان، فثورة الجزائر التي يضربان بها المثل في ذلك كان البعد الإسلامي هو الدافع الأكبر في تفجيرها وصمودها ونجاحها. اما اخذ المثال بما فعله الحبيب بورقيبة في تونس في مجال الأحوال الشخصية على أنه يمثل أحد نجاحات القوى الكيانية، فإنه يطرح التساؤل حول معايير النجاح الواقعي لدى الكاتبين. ففي حين ينظران الى تحرير "حزب الله" الجنوباللبناني وصمود المقاومة الإسلامية في فلسطين على انهما يمثلان قمة الفشل ومصدر الخطر الأكبر على الأمة، ينظران الى تغيير الحبيب بورقيبة لقوانين الأحوال الشخصية على أنه نصر كبير، وذلك يعني أن الكاتبين ينطلقان من ايديولوجيا علمانية صلبة قد يكونان حرين في توثين معاييرها كيفما شاءا. أما تقويم الفاعلية الإسلامية احتكاماً الى هذه المعايير، فإنه يمثل ضرباً من الدجل. ومن هنا نستطيع ان نفهم سبب انحيازهما الى ما يسمونه الايديولوجيات الحديثة، حتى الشيوعية منها، في مقابل رفضهما التام لأيديولوجياتنا الوحدوية. ذلك يعيدنا الى انتقاد نقمة الكاتبين على كل أيديولوجيا والذي نرجعه في الأساس الى ميولهما التفكيكية. * كاتب مصري