يوم التاسع من نيسان ابريل، كان العراقيون يرقصون في شوارع بغداد، يرحبون بالغزاة، يبصقون على صور صدام حسين وينهالون عليها ب"القنادر" الأحذية، في حين كان سائر العرب، من المحيط إلى الخليج، أي على ذلك الامتداد الذي لا يمل العروبيون أبدا من التذكير به، تتقاذفهم مشاعر الذهول والخيبة والصدمة والإحباط. التناقض كان صارخا بين عراقيي الواقع وبين عرب الإعلام، إن صح مثل هذا التصنيف، أو بين أحلام "العروبة السياسية" وما علقته من آمال على العراقيين، فتصورتهم متراصين حول نظام"هم" الحاكم، وهو يستعد لخوض ملحمة المقاومة والصمود ومواجهة الغزاة، وبين هواجس أولئك العراقيين، وقد اتضح أنها ليست من الملحمية في شيء، وأنهم ينشدون الخروج من "استثنائية" النضال والتصدي إلى عادية العيش، مجرد العيش وإن لم يكن كريما ناجزا، إذ أغلب الظن أن الكثيرين منهم لا يحلمون حتى بتلك الديموقراطية التي يعدهم بها الأميركان، بل بما هو دونها، بما يكفل لهم الحد الأنى من إنسانيتهم. وهم قد يقنعون باستبداد "ذي وجه إنساني"، على تعذر إطلاق تلك الصفة على الاستبداد، أو بضربٍ منه كذلك الساري في سائر بلدان العرب، لم يبلغ، عموما أو في الغالب، شأو صنوه العراقي البائد بطشا وتوحشا وخرابا. لم يحدث ل"العروبة السياسية" أن تناقضت مع تطلعات شعب من الشعوب العربية، أو الموصوفة بتلك الصفة بقدر من التعسف يحجب مكوناتها العرقية أو الثقافية الأخرى، كما في حالة هذه الحرب العراقية. صحيح أنه وجدت حرب الأردن على الفلسطينيين في سنة 1970، تلك التي اعتبرت في إبانها حربا يخوضها "الكيان القطري" ضد "القضية القومية"، وصحيح أنه وجدت "الانعزالية اللبنانية" التي كانت إحدى ذرائع النزاع الأهلي الذي أدمى بلد الأرز طيلة خمس عشرة سنة، وصحيح أن الأوطان ما انفكت تتأكد وتتدعم، خلال الخمسين سنة الماضية على حساب "الأمة"، بما في ذلك، وخصوصا على أيدي الأنظمة القومية. لكن إيديولوجيا "العروبة السياسية"، بمختلف تنويعاتها ونِسبها، استمرت وصمدت، ولم يواجهها تحدٍ كذلك الذي جابهتها به الحرب العراقية الأخيرة. ذلك أن التباين، في النظرة إلى تلك الحرب، يكاد يبلغ درجة الإطلاق، بين العراقيين والعرب. هؤلاء رأوا فيها عدوانا واحتلالا، جاء يصفي نظاما قوميا يعتبرونه ذخرا في مواجهة الصهيونية والإمبريالية، وأولئك رأوا فيها حربا "تحريرية" جاءت تخلصهم من نظام فشلوا في التخلص من نيره الشديد الوطأة بمفردهم. وقد يكون العرب محقين من وجهة نظر القانون الدولي، وإن سوّغوا رفضهم للحرب بغير تلك الاعتبارات، على عكس ما هي حال المعترضين على تلك المغامرة الأميركية في جميع بقاع الأرض، ممن أخذوا عليها تنكرها للشرعية الدولية وأخذها بمفاهيم من شأنها أن تشرع الباب أمام تعريض الحياة الدولية لتعسف القوة العظمى الوحيدة في العالم، من قبيل مفهوم "الحرب العادلة" أو صنوه "الحرب الاستباقية". لكن العراقيين محقون من ناحيتهم أيضا، لفرط ما كابدوه على أيدي النظام الذي حكمهم نحو الثلاثة عقود. ومشكلة "العروبة السياسية" أنها أرادت تحميل العراقيين ما لا قبل لهم بتحمله، أو ما استنفدهم فلم تبق لهم من طاقة على تحمّله، وأنها أرادت، باسم الإيديولوجيا، أن تطرح عليهم من المهام، ما بات يناقض بالنسبة إليهم غريزة الحياة ومبادئها الأولى. أي أن "العروبة السياسية" طالبت العراقيين بتأبيد الاستبداد، و"بالترفع" عن معاناتهم القصوى منه، مقابل دور "قومي" كانت تأنسه في نظام صدام حسين، هو بالأساس وعمليا، من قبيلٍ افتراضي، إذ أن الدور ذاك لم يتبدّ أبدا طيلة عمر النظام البائد، إذا ما استثنينا صواريخ السكود التي أطلقت على إسرائيل خلال حرب الخليج الثانية، وكان لها بعض الوقع الرمزي أولا وأخيرا. وقد لاحظنا آثار ذلك في التظاهرات التي سيّرها الفلسطينيون في الآونة الأخيرة دعما "للشعب العراقي". نتيجة كل ذلك أن وطنية أو كيانية عراقية يبدو أنها في صدد التبلور، أو هي قد تكون تبلورت، بالضد من "العروبة السياسية" تحديدا، لا ضد الغزاة الأجانب الذين باتوا يظهرون بمظهر الحليف، بل بمظهر القابلة لذلك التحول. والكيانية تلك تبدت خلال الآونة الأخيرة بأوجه شتى، من خلال تناقض الأولويات بالنسبة إلى العراقيين من جهة، و"العروبة السياسية"، بل الإيديولوجيّة، من جهة أخرى، حيث كان الهم الملح بالنسبة إلى أولئك التخلص من ديكتاتورية صدام حسين، وإن تحقق ذلك على يدي جيش أجنبي تحرك ضد إرادة العالم بأسره. وهو هاجس أخفق "الأشقاء العرب" إخفاقا كاملا في فهمه وفي تقديره، أو أعمتهم الإيديولوجيا أو ما تبقى منها من رواسب، يسارية وقومية وإسلاموية. كما أن الكيانية تلك تبدت من خلال كتابات لعراقيين كثر، تحمل ضغينة جلية حيال العرب، ورغبة أكيدة في الانفصال عنهم، وإسرافا في استدعاء الماضي غير العربي للتاريخ العراقي. وهي كتابات لا نعلم مدى تمثيليتها، إلا أنها تمثل مع ذلك تيارا ماثلا وظاهرة يجب أن تؤخذ على مأخذ الجد، بحيث أن لا سبيل إلى الاكتفاء في التعاطي معها بعبارات التخوين والتعهير وما إليها من مفردات السباب التي تبدو أحيانا كل زاد "النخب العربية" في تناولها لقضايا حساسة وقد تكون عميقة الجذور. وهكذا، يبدو أن معاداة العروبة السياسية أو التنصل منها، بصدد الاضطلاع بالدور الذي كان لمقارعة الاستعمار في بعض المناطق الأخرى، أي حيث لم يكن الاستعمار مجرد انتداب قصير المدى، وحيث تبلورت حركات وطنية اهتدت إلى فكرة الوطن، بمعناها الحديث، أو بمعنى "الدولة-الأمة"، واجترحتها من خلال صراعها ذاك. وإذا ما صحت هذه الفرضية، فإنها تستحق بلا شك التفكير والدراسة. غير أنه تجدر الإشارة إلى ما قد يكون مفارقة أخرى في هذا الصدد: أن حقبة صدام حسين ربما، أنجزت في العراق، خلال حرب الخليج الثالثة هذه، ما سبق لها أن أنجزته في الكويت في حمأة احتلال ذلك البلد وما أعقبه من حرب. فقد تأكدت، أو ربما اجتُرحت، الوطنية أو الكيانية الكويتية في أثناء تلك التجربة وترسخت على نحو يصطدم ب"العروبة السياسية" أو يناقضها في الكثير من الأحيان، أو حيال بعض الخيارات الحاسمة والحساسيات الأساسية. ويبدو أن الأمر نفسه بصدد الحصول، على نطاق أكبر وأبلغ تأثيرا على صعيد المنطقة برمتها، في العراق حاليا. وإذا صح ذلك، فإنه يمثل أفدح فشل مُنيت به القومية العربية في صيغتها الصدّامية: حيث أفضت، من حيث لا تدري ولا تريد، إلى كيانية تناقض برنامجها أو دعاواها تناقضا مطلقا.