تأخّر نقل معرض عبدالرحمن سليمان الى جدة. تأجّل مرات عدة بسبب ضغط سحابة الأحداث على حركة العروض في "المونوبولات" التشكيلية العربيّة عموماً، بما فيه صالات جدّة. هو المعرض الذي أُقيم تحت عنوان "مناخات" منذ أشهر قريبة في "قاعة إنماء" في مدينة الخبر المنطقة الشرقية. معرض عبد الرحمن سليمان تنتمي لوحاته الى مجاميع تجريداته التي تطورت بسرعة في السنوات الأخيرة، منتقلاً من تقنيّة مادة الألوان الزيتيّة الى الاكريليك ثم حالياً باستخدامهما معاً في تقنية توليفية. تتحرك معارض هذا الفنان الناشط ما بين مدينته الدمّام ومدينة جدة قاعة روشان ثم بيت الفنانين ثم أتولييه جدة وقاعة البعد الثالث، ممثلاً المملكة العربية السعودية في أكثر من تظاهرة عربية وأجنبية، طالعتنا هذه المجموعة في أكثر من مناسبة في باريس ومعرض "المنصورية" العام 2001. شهدت تسارع تقدّم تجربته هذه منذ أن تخلّى عن الحياكة الهندسية والرقشية في بناء هيئة "المدينة الفاضلة"، أحسست بهذا التحول الحاسم على جه الخصوص عام 1997 عندما كنت شريكاً في لجنة تحكيم "بينالي الشارقة"، وشريكاً بالتالي في منحه الجائزة الثالثة في التصوير والتي كان التنافس حولها مزدحماً. يستسلم في تكويناته الأخيرة الى وجدانية خرائط الفراغ، مثبّتاً مواقع العناصر بصورة حدسية وحتمية لا تقبل الإزاحة. تكمن هنا قوّة تمفصل أو إحكام الفراغ مع الامتلاء، والشكل العام بالأرضية، أي التهشيرات ذات الرفيف النوراني التي تحيك "الموتيف" على الأرضية السوداء أو العكس. قد يبعثر عناصره في محيط التكوين تاركاً المركز بحال راحة. وهكذا يبتدئ من "مفردة كرافيكية" مستقاة أصلاً من ذاكرة "الرقش" المحلي، غارفاً من معين الإشارات أو الأوشام أو الزخارف، مستحوذاً على ذائقتها بحيث تخرج من قاموس تعميمها "الفولكلوري" الذي تعثّر به الكثير من التراثيين، وذلك من خلال إعادة هيئة بنيتها وأوصالها السديمية، وبحيث تعوم في ليل فلكي يذكّر ب"البؤرة الإنشتاينية السوداء" التي تبتلع الكون والأجرام والنجوم في كل نبضة من الثانية. ولكنه لا يتيه في سهولة "العلوم التخيلية" وشطهها، لأنه يظل في حال تواصل رهيف مع إملاءات حدسه ولحظاته الوجدانية، مستخرجاً مناخات اللوحة من خصائص اضاءتها المشهديّة لئلا نقول المسرحية. يكشف هيئتها الضوئية من شدق العدم الليلي بالتدريج تاركاً الأسود ينهش الأبيض والعكس بالعكس، ضمن ثنائية عرفانية تشارف معنى الآية الكريمة: "يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل". يعتبر عمران القيسي هذه التجربة بمثابة "إشكالية الإضاءة" ويقول: "يعمد الفنان الى تقميش مسطحه التصويري بالعناصر المضيئة لمجرد إبراز القوة الكامنة في المعتم، وتبيان مدى أهميته كعنصر أساسي وليس كخلفيّة". ويشير أحمد نوار الى أن أعماله تذكّر ب"الدراما المسرحيّة من خلال تلك الهالات الفراغية السوداء، وكثافة الملامس اللونية ذات الأشكال المتعدّدة". يتم توزيع الغامق والفاتح إذاً بطريقة تراكمية متدرجة، تقبل التعديل والمراجعة وازالة الشوائب من دون خيانة "المقام اللوني العام". نعثر هنا على توفيق تحالفي بين التعبير الكرافيكي وكثافات العجائن الصباغيّة، حتى لنكاد نحزر بصعوبة التعديلات التي جرت على الشكل البدائي. هي الخبرة التي اكتسبها من ممارسته فن الحفر والطباغة، وأمانة لقائه السنوي في محترف محمد عمر خليل في "مواسم أصيلا" المغربية في الصيف. محترف خاص بالمنطقة الشرقية؟ ارتبط نشاط عبدالرحمن سليمان بالمنطقة الشرقيّة لأنه يقيم ويعمل في الدمام على رغم أنه من مواليد الإحساء، فهو مدرّس للتربية الفنية فيها، كما ارتبطت حركته بمسؤولية إدارته كرئيس "لجمعية الثقافة والفنون" في الدمام، كما أنه مسؤول عن الصفحة التشكيلية في جريدة "اليوم". أما السؤال الذي تطرحه تجربته: هل هناك فعلياً مدرسة أو تيّار متميز داخل المحترف السعودي خاص بالمنطقة الشرقية؟ عبدالرحمن على قناعة نظرية بذلك، مثلها مثل مدرسة مكةالمكرمة وفيضها الروحي على رغم توزّع فنانيها بخاصة هجرتهم الى جدة مثل شادية عالم ويوسف أحمد جاها وزهير صبان أو كما هي سمات مدرسة المدينةالمنورة بأشكالها الموشوريّة التي أسّس لها مغربل وسيام. يوافق رأي عبدالرحمن كثافة الجمعيات التشكيلية في المنطقة الشرقية، بخاصة "جماعة عشتروت" في القطيف التي تأسست منذ أول معرض لها عام 1993. و"جماعة الفنون الشكيلية" التي تلتها بثلاث سنوات، يبرز من هؤلاء علي الصفّار وزمان محمد الجاسم وعلي الدوسري وحميدة السنان وبدرية الناصر، ثم محمد المصلي وعبدالعظيم الضامن وميزرا الصالح وكمال المعلم وعبدالله المرزوق وهادي الخالدي وعلي هويدي والشلي وغيرهم. إن تباعد أمثال هؤلاء يضع هذه الوحدة الأسلوبية في موقع الجدل. استثمار التراث إذا سلمنا في حدود ما بهذه الخصائص على مستوى الحساسيّة الذاكراتية في استثمار التراث، فهذا ينطبق على الفنانين المذكورين المقيمين الذين نهلوا من الخصائص الجغرافية بمعزل عن مواقع ولادتهم. ما يوحّد هؤلاء لا يتجاوز خصوصية "مفهوم البيئة". لعل نموذجهم هو علي الصفّار الذي اختص ببيئة القطيف بعد انتسابه الى "جماعة عشتروت" مدعياً ارتباطه الذاكراتي الذي يصل حتى "حضارة تاروت". يصوّر في مائياته مدناً مندثرة لعرب باقية وعرب بائدة، عاربة أو مستعربة، تنهل موضوعاته من المزاج الأطلالي في الشعر، فتبدو لوحاته متخمة ب"الإكسسوارات" "الفولكلورية" الملفقة من سجاجيد وبسط ونسوة وملاءات، تقع موهبته في ما يقع خلف هذا الموضوع القسري من تكوينات ترجع الى "ذاكرة المربع" والتخطيط. جنيات لار إذا اعتبر عبدالرحمن سليمان من أبرز النقّاد وأنشطهم بخاصة بعد أن صدّر كتاباً بالغ التوثيق والأول من نوعه عن "مسيرة الفن التشكيلي السعودي"، فإنه لا يحتكر هذه الظّاهرة. فأبرز النقاد في الفن السعودي هم الفنّانون الممارسون على غرار عاشور وشيخون وبوجوده. بعضهم يملك كتباً مثل مغربل وموصلي والسليم، وقد يكون المحترف العربي الوحيد الذي لم ينظّر له الأدباء والصحافيون، وقد نجد رمزاً حياً لهذه العلاقة المتوازنة من خلال تحالف الكاتبة رجاء وأختها الرسامة شادية عالم. لا نعرف مثلاً في كتاب "جنّيات لار" هل رسمت شادية أولاً أم كتبت رجاء والعكس بالعكس. قد تكون رسوم شادية حاكت الأساطير قبل أن تكمل شطحاتها كلمات أختها رجاء وصورها! إذا كان النقد الفني في هذه الحال ظلّ بمنجى عن أصابع النقد الأدبي، فإن هذا المعنى تسرّب الى اللوحة السعودية بما فيها لوحة المنطقة الشرقية. أثر البيئة لو راجعنا محور البيئة فيها لعثرنا على الالتباس المزمن الذي تعانيه بقية المحترفات الخليجيّة وأحياناً العربيّة، والمتمثّل في الخلط بين تأثيرات البيئة المعاشة وصورة البيئة في الخيال الشعري، هي التي توقع المصورين غالباً في حيرة من تناقض الموضوع التراثي مع الخصائص النوعية للمادة التشكيلية، مما يكبّل الحساسية والتدفق الحدسي في الأداء. لا تخالف هذه الحال أحياناً التلفيق الاستشراقي حول الصحراء والتصحر الثقافي، الخيمة وحياة البداوة البعيدة عن الاستقرار الحضري، ثم صورة الجواري والمحامل والطربوش والبابوج والولاية والمركب الى آخر الاسطوانة المستهلكة. لعل أبرز نقاط أصالة تجربة عبدالرحمن سليمان أنها تنتهل من الحساسية الكرافيكية لمفهوم البيئة الذاكراتية، من دون أن تعطّل السيولة والتلقائية الحدسية في الأداء. هو بالتالي الإبن الشرعي لعائلة أساليب المحترف السعودي بما فيه خصائص فنّاني الشرقية، من دون أن يقع في إسار الحماسة المتعصّبة للموضوع الأطلالي. نعثر هنا على شمولية تفتحه الثقافي النهضوي، وأهميّة وعي ممارسته اليومية للكتابة النقدية مع اللوحة.