} تستضيف "صالة "آرييا" بين العاشر من تشرين الثاني نوفمبر ومنتصف الشهر الأول من العام المقبل، معرضاً للوحات أدونيس. وهي المرة الأولى التي يكشف فيها الشاعر عن نشاطه التشكيلي. فهو ظلّ طوال هذه الفترة رساماً سرياً في مختبره الصغير الذي تحتضنه غرفته الصغيرة في برج غامبيتا في حي الديفانس. ولم يتعرف على تصاويره إلا المقربون. أي الذين يطرقون باب صومعته الشعرية ويكسرون عزلته. كيف يرسم أدونيس وماذا يرسم؟ وهل يضيف الرسم ملامح جديدة الى تجربته الشعرية؟ ترجع مداعبات أدونيس البصرية للورق والمخطوطات التي يكتبها بحروفه الجميلة الى سنوات خلت. وقد امتحن مع الأيام تناغم الملصقات على هذه السطوح المختزلة. ويبدو معرضه اليوم مجموعة من المنمنمات الحميمة، تختلط في تضاريسها كتاباته وملصقات مستقاة من المواد التي يعايشها كل يوم من أوراق وعناصر طبيعية، كأن يبدو التحول بيّناً من القصيدة الدلالية الى صمت لغة السطح التشكيلي. ولكنه تحول لا ينفك عن وحدة حساسيته الإبداعية. تتجول العين بين مقامات وخامات لونية و"تهشيرات" كتابية رهيفة، وضمن تناغم وجداني مدهش يكشف خبرات السنوات الطويلة في ترويض صناعة الملصقات أو ما ندعوه عادة ب"التقنية المختلطة". تسمح هذه التقنية - وبحرية لا تحدّها حدود - بإعادة تشكيل شظايا البيئة وموجوداتها اليومية. تبتدئ من زراعة المواد المتعددة الخامات والأنسجة، وتنتهي في توليد الإشارات السحرية أو الذاكراتية الطفولية. ولعله البحث عن الأبجدية الصوتية الأولى المستقاة من تضاريس الكون وفضولية ملامسته الحسية والغريزية. كثيراً ما يبدأ من أسطر كتاباته المعروفة بفتنة مدات حروفها، يقفز دورها من أرضية محايدة الى نوطة توقيعية تقترح رعشاتها وتقطيعاتها تشريح الفراغ والانتخاب الحدسي لعناصره الملصقة. وكذلك الاختزال الذي يقارب هيئة الهندسة. ولكن ماذا يعني أن يمارس فن اللوحة البصرية شاعر بحجم أدونيس؟ لعله يذكر بما خلفته فرشاة وقلم فكتور هوغو من ثروة تشكيلية لا تقل ثراء عن شعره، أقول يقطع هذا التراث دابر الشك بقدرة الأديب على التعبير البصري. ولا شك أيضاً بأنه إغناء لتجربة أدونيس الكتابية، تماماً كما كان يفعل صديقه الشاعر الفرنسي جاك بريفير. من المعروف انه كان ينجز مقصوصات ورقية وملصقات بسبب اتصاله بالحركة التكعيبية. يتفق الإثنان حول امتحان التباسات شظايا الصورة والإشارة. فالملصقات تهيئ فرصة لتشظّي الدلالة، ثم إعادة جمع دلالاتها السيميولوجية بطريقة حلمية، لا يحكمها إلا الحدس والوجدان والحساسية التخيلية. يصرح أدونيس بأنه يضع لكل لوحة قانوناً خاصاً، ولكن المتلقي المتدرب يتلمس وحدة هذه الحساسية، على مستوى اختيار الخامة وطريقة تناغمها المعدني أو الفلزاتي الكوني المستقى أصلاً من الخبرة السوريالية و"الفن البكر". ومن البديهي أن ترتبط أصالة ملصقات كل من الشاعرين بخصائص شعرهما. تبدو لوحات أدونيس من ألصق الكائنات التشكيلية بأرحام شعره. وتصلح لأن يتزامن عرضها مع إبداعاته الشعرية إلقاءً أو طباعة. وهل يعتمد في الحالين على نفي الدلالة اللغوية ثم تلخيص العبارة حتى تقارب درجة الصمت. أما القانون الخاص بصيرورة كل لوحة الذي يتحدث عنه فما هو إلا امتياز للخطة الوجدانية - الوجودية - الوجديّة التي تعيشها اللوحة والقصيدة، حتى لا تقبل هذه التجربة أي نكوص أو تماثل لأنها منسلخة عن الذاكرة والوعي، وملتصقة بخزان الحدس الذي يتدفق مثل صيرورة الموج: لكل حال مقام وجدي خاص. تنبع علاقة أدونيس المشبوبة بالفنانين والفن التشكيلي من صبوته التوليفية ما بعد الحداثية، حيث تلتقي أنواع الحواس والفنون في فلك القلب أو الحدس، تماماً كما قارنها في كتابه النقدي الثمين: "الصوفية والسوريالية"... تقاسمت جدران العرض للأسف مع أعمال أدونيس لوحات كريستيان بويي، وذلك لمناسبة مشروعهما الطباعي المشترك الذي سيعرض في شباط فبراير من العام المقبل ضمن احتفائية معهد العالم العربي بأدونيس. كان من الواضح وبرأي الحاضرين على اختلاف مشاربهم ان لوحات المصوّر لا ترقى أبداً الى مستوى أدونيس الشاعر أو اللوحة. وهذه ليست المرة الأولى التي يتورّط فيها شاعرنا بالشراكة مع فناني الدرجة الثانية وأحياناً الهواة. وهو ما يتناقض ما يملكه من علاقة وموقع متميز في قلوب الكثيرين من رموز الفن العربي. وتحضرني علاقته التوأمية مع فاتح المدرس ومروان، مع عبود والدويهي وقاسمي وعزاوي وعمر خليل. وفيما عدا الأخير فإن هذه القرابة لم تثمر في يوم من الأيام عن تعاون إبداعي. وتهيأ لي أن أطلع خلال موسم أصيلا على تحفة عمر خليل الطباعية التي ستشارك في تكريم أدونيس. ان اخشى ما نخشاه أن يشتمل هذا المعرض المنتظر على تفاوت المستوى، وذلك لسبب بسيط أن تواضع شاعرنا المعروف عنه يمنح بعض الحالات صدقية ابداعية لمن لا يستحقها، وخصوصاً للهواة المدللين الذين يتدافعون على باب شهرته ونجوميته، ثم يستخدمون مباركته في الإساءة الى زملائهم. وإذا كان من مصلحة الفنانين التشكيليين الحفاظ على التحالف الذي ابتدأ مع بودلير وبروتوي وانتهى مع منيف وقاسم حداد مروراً بجبرا والحيدري، وبلغ أشده مع أدونيس، أقول حرصاً وغيرة على نخبوية تحالفات أدونيس التشكيلية، أن التوليف الرؤيوي بين المبدعين لا يعني التوليف بين المحترفين والهواة. ولا شك في انه لا يتسامح في مجال ميدان الشعر بمثل هذه "الديموقراطية".