يقول مواطنون إماراتيون "إن فصل الربيع هذا العام تمدّد على غير العادة. درجات الحرارة لا تزال معتدلة، الرطوبة في مستوى مقبول والأمسيات في المقاهي والمطاعم تمتد الى ساعات متأخرة من الليل..."، لا شيء ينبئ في الإمارات السبع بالتغيير بفعل الحرب المشتعلة غير بعيد من هنا. الدوام اليومي، حركة التسوق، مباريات كرة القدم، الصحف اليومية، بورصة الأسهم وتمويلات المصارف، حركة السير ونشاط سيارات التاكسي... لا شيء تغير سوى ايقاع النفس في القلوب ومشهد التلفزيون الذي طغى على دوائر الاهتمام. لكن، في هذه الحال الحرجة والحاسمة، تنشط دوائر عدة: مؤسسة الاتصالات، خدمات الرسائل القصيرة، رسائل البريد، الأطباء النفسيون، باعة الأوهام وقراءة الكف، الصيدليات وأدوية معالجة الأرق، باعة السجائر ومحال البيتزا، مقاهي النرجيلة، الأندية الصحية وحمامات السونا، باعة اللب والفول السوداني... كلها شهدت ارتفاعاً شديداً في وتيرة حركتها منذ الأيام الأولى للحرب. يضاف الى ذلك نشاط التواصل بين القنصليات والسفارات وبين شباب المهجر المقيمين في الإمارات بجنسياتهم المختلفة. الأميركيون والبريطانيون موجودون، يلتزمون الحذر، على ما نصحتهم به دوائرهم الرسمية. في الساعات الأولى من الحرب سألت أحدهم: "بماذا تشعر الآن وقد وقع الفأس في الرأس". كنا في مخرج المصعد، تلعثم وطفق يسرع الخطى نحو زملائه في المقهى، سمعت منه كلمة يتيمة بالإنكليزية: "أنا حزين". وغداة قصف السوق الشعبي وسط بغداد، دخلت المقهى وهالني المشهد. كان زميلي البريطاني في معهد تدريس اللغة الانكليزية يرتجف مسمراً في مكانه والعرق يتصبب منه، وهو يشاهد جثث الضحايا على التلفزيون وخاف من روّاد المقهى ثم قال: "أشعر بأن ساعتي حلت وبأن لحمي سيكون لقمة سائغة للعيون التي تقطر حزناً على المشهد الفظيع". وشاءت المصادفة أن أرى مشهداً استثنائياً: دفع الشاب الأميركي الممتلئ بمغلف الى موظف الاستقبال في الفندق وسأل عن رقم غرفته، فقيل له إنه سيشاطر مواطنه مايكل الغرفة. امتعض قليلاً ولكنه تقبل الأمر بعد تفكير. فالاحتماء بصديق في زمن المشكلات رفيق للنجاج بلا شك. ثم خطف الأميركي جواز سفره الذي كنت أراه للمرة الأولى وخبأه سريعاً ومضى. ولا شك في ان الإمارات بلد جميل، آمن، مطمئن وقطع خطوات مهمة على درب التقدم والحداثة. لكنك الآن تحس بأن هنالك شيئاً ما انقطع وانكسر بين غالبية المقيمين ومواطني الحليفين المحاربين ضد العراق. وقد يرجع الناس الى بعضهم بعضاً بعد حين، لكن تركيبة الأشياء تؤكد أن الانكسار حقيقي وعميق، يعكس موقف تلك الزميلة التي عرفت منها أنها بلغارية المنشأ قبل أيام الحرب. فصارت تقول إنها سلوفاكية وتتباهى بأصولها. في الضفة الأخرى للمشهد يبدو الأمر مختلفاً. سألت مهندسة مغربية قدمت الى هنا منذ أسبوع عن فاتورة هاتفها، فقيل لها إنها تجاوزت 621 درهماً، وهو مبلغ كبير بالمقاييس المحلية. وفي الحقيقة عشت التجربة عينها في الساعات الأولى من الحرب، وكذا زملائي وأصدقائي المصريين والشمال أفريقيين العاملين في الإمارات. كان رنين الهاتف لا يكف وكنا نجد صعوبات حقيقية في اقناع أهالينا وأحبائنا بأن الخطر بعيد ولا شيء ينبئ بالحرب هنا. كنا نحاول عبثاً طمأنة الآباء والأمهات والأصدقاء. هناك اعتقاد سائد بأن الحرب ليست في بغداد فقط بل في كل عواصم المنطقة وبأن شظاياها تطاول الجميع. لا شيء ينبئ بحدوث مشكلات بين شباب الجنسيات المختلفة. ولن يحدث ذلك إطلاقاً. فالجميع هنا مقيد بأهم آلية للردع وهي العمل والوظيفة وفرصة الحياة التي لن تعود مجدداً. الإحساس بالغربة فظيع ولكن الأوحش منه اشتراكه مع وطأة حرب قريبة. ستمر هذه الحرب عاجلاً أم آجلاً ولكن الجميع هنا، مواطنين ومقيمين، ينشدون تمدد الربيع أكثر وتوسعه على الجيران قريباً.