ها أنذا على متن طائرة الخطوط الجوية الجزائرية أتجه من مطار محمد بوضياف الدولي إلى مطار شارل ديغول، مستبشرة بهذا الاحترام «التاريخي» للوقت من شركة يكاد يكون التأخير علامتها التجارية. ومع أنها ليست المرة الأولى التي أزور فيها مدينة الجن والملائكة، إلا أن الطيران نحوها يسعدني ليس لأني أحقق حلماً طفولياً بالطيران ولكن لأني أخيراً سأعيش أياما مختلفة بعيداً من روتين العمل ومناكفة الزملاء وبائع الساندوتش وشرطة المرور والمقاهي الرجالية. أنا آتية إلى باريس بعد سنتين من القطيعة بوزن مختلف وحقيبتين عوضاً عن الواحدة وطفلة انضمت الى أختها وزوج. على غير العادة لم أحضر معي كتاباً يرافقني خلال ساعتي التحليق لتوقع لم يخب بأن الطفلتين ستشغلانني عن كل شيء لدرجة أن صوت المضيفة فاجأني وهي تعلن عن وصولنا مطار شارل ديغول. بهذه السرعة؟ سألت وسارعت إلى تعديل ساعتي إلى الرابعة بعد الظهر لأنهم هنا يطبقون التوقيت الصيفي. لا أدري لماذا تعود إلي تلك الفكرة كلما سافرت شمالاً، بأن كليمان أدير عندما اخترع الطائرة اخترع أيضاً آلة الزمن التي تنقلك من زمن خدمة الشعب الحاكمَ إلى زمن خدمة الحاكم الشعبَ. ومن عهد التطابق في أوطان لا يطيق أهلها العيش إلا على استنساخ الذات إلى عهد الاختلاف بين بشر لا يجمعهم إلا اختلافهم وثقافة الفردانية. من مطار شارل ديغول إلى شارع لاجونكيير في الدائرة السابعة عشرة. بيت صغير وجميل تركه أخي لي ولعائلتي خلال أسابيع عطلتنا الثلاثة، وهو امتياز نحظى به نحن المغاربيين في فرنسا حيث لا يكاد أحدنا يصل حتى تكون إقامته مؤمنة عند صديق أو قريب يأويه ويجنبه مصاريف الفنادق والأكل والتسوق. خارج المطار استقبلنا جو ماطر منعش، وكان الطريق إلى مدينة باريس طويلاً وناعماً، ألوانه وأصواته مختلفة، شيء من الراحة يسكنني ولم تفلح زحمة السير ولا بكاء الصغيرة في تعكير مزاجي الذي يزيده النسيم انتعاشاً. لقد سلخت جلد القلق عني، تركته في وطني ولبست جلد السكينة هنا في مدينة الألوان. تركت ابنتي لقريبتي وذهبت مع زوجي للقاء بعض الأصدقاء. مشينا من لاجونكيير إلى ساحة كليشي القريبة وحيدين كعاشقين لم نتعثر بحفرة ولم ينظر إلينا أحد. ومن هناك إلى الحي اللاتيني حيث كانت انطلاقة الزيارات للمواقع الباريسية التي قررت أن أنظر إليها بعيني زوجي الذي يزورها لأول مرة. أكثر ما يشدك في الحي اللاتيني زحمة بشرية منظمة وانتشار كبير لرواد المقاهي وباعة الكتب، قهوة من دون انتظار على الطاولة ليبدأ حديث طويل عن الجالية المغاربية هنا. قال لنا الأصدقاء إن الآسيويين وخصوصاً الصينيين منهم قد تظاهروا في باريس واشتكوا من اعتداء المغاربيين عليهم لأنهم رفضوا استقرارهم بعدما أقاموا مدينتهم الصينية في منطقة إيفري. وربما يعتقد المغاربيون أنهم أحق بخيرات هذا البلد من سواهم لذلك يمارسون هذا التمييز ضد الآسيويين وهي الأسباب نفسها التي تجعل موجة العنصرية الفرنسية ضد العرب تتنامى. وعلى ذكر العرب توجهنا إلى منطقة «بيل فيل» في باريس فوجدنا أنفسنا فجأة خارج الحدود الفرنسية. كل شيء يذكرك «بالبلاد» لا فرنسي في المكان ولا لغة غير اللهجة المغاربية، كل شيء يباع وأي شيء، أخبرت زوجي بأن منطقة «باريس» صورة طبق الأصل لهذا المكان فأقسم بعدم زيارتها خلال إقامتنا. أسبوعان من الزيارات للمتاحف الباريسية والمواقع السياحية. لم يكن الطموح زيارة ما يزيد عن مئة متحف تعدهم المدينة وإنما زيارة ما تيسر منها، بدءاً من متحف اللوفر الشهير الذي يبهرك بكثرة لوحاته وأجنحته. وما يشد الانتباه هو ذلك الجمع الكبير من السياح ونحن من بينهم، الواقفين أمام لوحة «الجوكاندا» ولوحة «لا فينوس دو ميلو» بينما يشرح مرشد المتحف أن لوحة «لي نوس دو سانا» الضخمة التي يصل طولها الى عشرة أمتار ويحاكي عرضها سبعة أمتار بأن سيدة فرنسا الأولى «كارلا بروني» تناضل من أجل إعادتها إلى إيطاليا موطنها الأصلي. وهناك أيضاً وقفنا أمام لوحة دولاكروا الشهيرة «سيدات جرائريات في شقتهن» ولوحات المستشرقين الذين كثيراً ما رسموا الجزائر وأخيراً لوحة مدينة دمشق الرائعة للقرن الخامس عشر. وفي متحف الفنون والحرف الذي تتعرف فيه إلى تطور الحرف والابتكارات وما جاءت به الثورة الصناعية تمتعك مشاهدة مختبرات لعلماء فرنسيين لا تزال محفوظة كما هي، بينما يعرض متحف «الإنسان» بالتروكاديرو أهم ما جمعته فرنسا عن تاريخ الإنسان إذ يعرض أقدم إنسان اكتشف في أفريقيا الشمالية (أكسترا بيلوتيك). قهوة مع غيوم في التروكاديرو وحديث طويل عن قضية دومينيك ستراوس - كان بين اعتقاده بأنها قضية ملفقة واعتقادي بأنها نزوة مكلفة لزير نساء يستعد للسباق الرئاسي في بلد نابليون. أما زوجي فقد اشترى كتاب تلك الصحافية التي تدعي بدورها أن ستراوس - كان اغتصبها مقراً صراحة بأن الكتاب لا يتضمن إلا هدفاً واحداً وهو شراؤه وشهرة صاحبته. الإحباط يأتي مع زيارة متحف معهد العالم العربي، حيث يشعر المرء كم هو فقير، ويتساءل إن كان ذلك يعني أن الحضارة العربية والإسلامية ليس فيها ما يستحق العرض أو أن التعويض جاء في مجمع مسجد باريس الذي حفظ بعضاً من ماء الوجه بهندسته ومقهاه الجميل. وبالنسبة لعائدة إلى باريس بعد سنتين، أكثر ما يلفت النظر هو انتشار سلسلة مقاهي «ستارباكس» الأميركية، والصينيون الذين باتوا أكثر ظهوراً والعرب والسود الذين بات وجودهم مربوطاً بالاحتجاجات وقوانين الهجرة. ولأول مرة أكتشف، في آخر أيام إقامتي في باريس، أن الاختلاف فيها لا يعني بالضرورة الاختلاط. فها هي حانات حي لاجونكيير تجمع الفرنسيين البيض ومقاهيه المغاربيين ومحلاته الآسيويين في ما يبدو أنه اتفاق ضمني وجماعي على ألا يتدخل أحد في إقليم الآخر.