غداً أو بعد أيام نتحدث عن الاحتلال الأميركي لعاصمة الرشيد، وعن "مؤامرة" السيطرة على النفط واستغلال العصابة الليكودية في البيت الأبيض لأحداث 11 أيلول. لكن دعونا اليوم نفرح بقرب نهاية أسطورة الديكتاتور. ودعونا نأسف في الوقت نفسه لضياع "فرصة تاريخية" حبذا لو بادر اليها صدام قبل دخول المارينز قصوره البغدادية، وهي فرصة تكريم بعض الذين ساندوه في محنته الأخيرة. فالرجل معروف بالوفاء والسخاء حين يتعلق الأمر بمن يسبّحون بحمده ويمتدحون بأسه. وهو لم يبخل يوماً، نقداً وساعات وسلاحاً، على من وجدوا فيه ملهماً أو ابتغوا من لدنه مكسباً، أو دبّجوا في حضرته قصائد تافهة أو عصماء. أول من كان يستحق التكريم محمد الصحاف، إذ أثبت انه وزير اعلام بامتياز، جدير ب"وسام مسيلمة" من أرفع الدرجات. وبرهن بالملموس امتلاكه مواهب كلامية متنوعة، تتفاوت بين التعبير الساخر المحبب، وبين الشتيمة العارية المثيرة للاشمئزاز، فينتقل المشاهد بلا ملل من إعجاب بنبرة الصحاف المتغيرة الى استياء من مضمون يودي بمزيد من العراقيين والمتطوعين العرب الى الحماسة والهلاك. موهبة الصحاف تستحق مجموعة أنواط أو أوسمة يزين بها بزته العسكرية، فهي لا تظهر في تشويهه الحقائق فحسب وتذكيرنا بأحمد سعيد، بل خصوصاً في تطويعه لغة الضاد في خدمة القائد وللتنديد بأعداء النظام. ولا شك في أن ما تفوَّه به من خطاب سياسي "رفيع" جدير بدراسة لغوية في أرقى الجامعات، كونه رفع لغة الشارع الى مصاف السياسة، وأنزل السياسة الى مستوى الشوارع في تفاعل وتداخل لا مثيل لهما، وكأنه حقق حلم النظام في الوحدة بين الحكام والجماهير. وفي هذا الإطار لا تُنسى "العلوج" و"جحوش الاستعمار" و"الأوغاد" و"العكاريت" بصفتها من الإبداعات تضاف الى المتداول من كلام طه ياسين رمضان عن "العمالة" و"الخيانة" وسائر المعجم الذي أوصل العراق والعرب الى هذا الدرك من الفشل قبل أن يوصلهم اليه التسلط والفساد وغياب الديموقراطية وفرط الشعارات. أما التكريم الثاني المتوجب على صدام، ولو على قاب قوسين من وداعه قصوره وسيجاره والتماثيل، فهو الاحتفاء بالأمين العام للجامعة العربية السيد عمرو موسى الذي لم يدَّخر وسعاً ولم يوفر حيلة لتبرير بقاء صدام، تارة باستثارة المشاعر القومية بلفظية جوفاء، وطوراً بتجاهل الاقتراحات الواقعية والبناءة المطالبة بتنحي حاكم العراق تجنيباً لبلاده حرباً غير مبررة تأخذ عملياً شكل احتلال. وموسى يستحق من صدام "وسام الجماهير" كونه يتعاطى السياسة على أساس "الجمهور عاوز كده"، بل يستحق أكثر من وسام ولو أنه لن يُذكر لاحقاً إلا بفشله في لعب دور قيادي ينقذ بلداً عربياً ويجنب الجامعة والعرب الانقسام. أما التكريم الثالث والأهم فهو رمز مأساة العرب، إذ أن أوفر المرشحين اليه حظاً هم المثقفون ونخبة الكتّاب وخصوصاً الشعراء الذين نسوا "جيكور" و"أنشودة المطر" واندفعوا يتفجعون على دجلة والفرات، ولا يتورعون عن تدبيج مقالات الإشادة ب"مقاومة" يقودها "فدائيو صدام" و"استشهاديو صدام" و"علي الكيماوي" ابن عم صدام. وهم في ذلك يرددون صدى الديكتاتور متناسين ما فعله على مدى 35 عاماً وضاربين صفحاً عن الارتكابات بحجة "مقاومة الغزاة". ولكان موقفهم "الأخلاقي" صحيحاً لو أن نظام العراق مثال للديموقواطية وضحية تستحق رقيق الشعر. أما أن تصل بهم الانتهازية والشعبوية حدّ رفع النظام الى مقام الأمة وفقدان التمييز بين مصيره ومصير مواطنيه فأسوأ ما يمكن أن ينحدر اليه مثقف يفترض به أن يقود الرأي العام لا أن يكون ذيلاً لجمهور تأخذه الحماسة البريئة أو تستثير غضبه التطورات. حبذا لو يتأخر سقوط صدام قليلاً لنرى صور المكرَّمين. فهؤلاء المثقفون راكبو "أوتوبيسات الحكومة" وفق تعبير نزار قباني، والشعراء الفحول، خصوصاً الحداثيين منهم، يستحقون "وسام ديكتاتور ما قبل الحداثة" يعلَّق على صدورهم في مربد أخير يفتتحه وزير الثقافة الصدامي بلباس الميدان بعدما ضبطوا أزمنتهم الشعرية على الساعات المذهَّبة التي خلعت عليهم في البلاطات... ولربما كانت المناسبة فرصتهم الأخيرة للتكسب وترويض الأقلام بحثاً عن ديكتاتور جديد. ثلاثية التكريم الضائعة ثغرة في أرشيف صدام، لكنها تبقى شهادة حية في الذاكرة على بؤس نظام وجامعة، ونخب تتحدث عن ثقافة وإبداع.