دفعة واحدة ومن دون تحفّظ خرج "المؤتمر العربي العام الثالث" الذي عُقد في بيروت ب"بيان الى الأمة" يدعو الى إحلال ثقافة المقاومة بدل ثقافة الهزيمة. لا بأس بذلك، فالأمة تحتاج بياناً، إن لم يخاطب عقلها، فليدغدغ مشاعرها ويرفع معنوياتها. بيد أن البيان العابر للدول والقارات يبعث برسالة شديدة التنوّع، كثيرة التناقض، الى جمهور مشوّش العنوان، في وقت التأم عقد المجتمعين اساساً للتداول في شأن محدد هو ما آل إليه العراق. وكان يمكن باطمئنان وصف الأدبيات الصادرة عن الشخصيات والأحزاب القومية والإسلامية المجتمعة في الفندق البيروتي بأنها تنتمي وصفاً وتحليلاً، لغة ومضموناً، الى السبعينات، ولا تستحق من بعض الحاضرين، وجلّهم بلغ من العمر مأرباً، تجشم السفر، لولا بعض حيوية خلال النقاشات ودعوات من أصفياء الطويّة الى نقد ذاتي، بات يستحق مقدمة خلدونية في نقد هذا النقد. لا ضرورة لتكرار كلام البيان الرافض "الاتجاهات التسووية الاستسلامية" في فلسطين والمندد ب"أطماع الاستعمار" في العراق، ولا حاجة لانتقاد ما تناسل عن هذين التعبيرين من لغة خشبية وتهجمات على دول الخليج بالجملة، فلنكنْ متفائلين ونقلْ انه كان لافتاً وإيجابياً ورود فقرة تعبّر عن الخشية من المسّ بوحدة العراق وتدعو الى المساهمة في بناء وحدة وطنية على قاعدة الإقرار بالتنوّع وحرية التعبير واعتبار "ان الشعب العراقي هو الأقدر على تحديد طبيعة مقاومته وأشكالها". في الواقع، إن أي دعوة الى احترام إرادة العراقيين في اختيار طريقة أخذهم شؤونهم بأيديهم تقع برداً وسلاماً على شعب دفعته حاجته للتخلص من ظلم الديكتاتور الى الإقرار بعرفان الجميل للاحتلال. ومهما كانت الدعوة القومية - الإسلامية الى المقاومة المسلحة في البيان نفسه متناقضة مع هذا "التسامح" إزاء أسلوب مقاومة سلمية يمكن ان يخوضها العراقيون لإخراج المحتل، فإن هذا التناقض يبدو "حميداً" وأفضل بكثير من تحريض شامل على مواقف مبدئية تحول دون فهم الواقع السياسي وتدفع الى انتحار بسبب عجز العقل عن التفاعل وتمييز الامكانات. مع انعقاد مؤتمر المعارضة العراقية في بغداد يدرك من شاركوا في اجتماع بيروت "الطارئ" حجم المسافة الفاصلة بين واقع تعيشه عاصمة الرشيد وأفكار مضطربة صادرة عن المؤتمر القومي - الإسلامي. وهي المسافة نفسها التي جعلت فضائية عربية تلتاع على مدى عشرين دقيقة على صحن مزخرف في متحف بغداد وتلحقها بثوان معدودات عن مقبرة جماعية تحمل توقيع نظام صدام. سيكتشف من التقوا في بيروت، وبعضهم غيور على المصلحة القومية ويتمتع بالاحترام، في حين أن بعضهم الآخر كان حتى الأمس القريب يتمرّغ في بلاط صدام، ان ترتيب البيت العراقي أولوية لدى العراقيين على اختلاف انتماءاتهم. فلدى القوى السياسية العراقية من التجربة ما يجعلها تدرك ان الوجود الأميركي مربوط حجماً وأمداً بمدى قدرتها على الاتفاق. ولهذه القوى من المعاناة ما يجعلها تتجنّب حرباً جديدة، وترى الى تسوية تساهم في صوغ مستقبل عراق ديموقراطي. ويمكن المؤتمر القومي الداعي الى تشكيل لجان مقاومة عربية أخذ العراقيين بحلمه ولو لفترة وجيزة. فقيام هؤلاء بتشكيل هيئة انتقالية أو حكومة ذات صفة تمثيلية سيفرض على واشنطن أخذ الواقع الجديد في عين الاعتبار وسيستثير الأممالمتحدة للعب دور حيوي. أما إذا تنكّرت واشنطن لرغبة العراقيين وأصرّ صقورها على الانفراد بالحلول فحينذاك لن يتردد العراقيون في الانتقال من الاعتراض الى المقاومة وسيرفع الجميع قبعاتهم تحية لبُعد النظر الاستثنائي في "البيان الى الأمة". يستطيع الناطقون باسم "الشارع العربي" الاطمئنان الى أن الوجود الأميركي في العراق هو تقنياً وقانونياً "احتلال غير شرعي"، ولكن لن يخفى عليهم ان طريق التخلّص من الاحتلال راهناً هو السياسة الحكيمة والمعارضة السلمية، ليس بسبب ميزان القوى فقط، بل بسبب الخوف الفعلي من أن يؤدي العنف الى حروب داخلية تهدد وحدة العراق. وهي حروب سيدفع ثمنها العراقيون من دمهم وأملهم في بناء دولة مدنية عصرية، ولن توقفها بيانات تحتاج أكثر من إعادة صياغة، إذ أنها تحتاج فعلياً الى إعادة تفكير عميقة ترسي قناعة بوقف مشاريع الحروب الأهلية وتؤسس ثقافة قبول الآخر وخياراته قبل الانتقال الى الطموح الأكبر، وهو إخراج الاحتلال أو منع نموذجه من التكرار.