يقول جبرا ابراهيم جبرا في ختام كتابه "شارع الأميرات": "سنتان فقط تحدثت عنهما هنا، وما أقل ما ذكرت. وبسبب أنواع من الضرورات، ما أكثر ما أغفلت وحذفت! والى ذلك بقيت أربعون سنة أخرى تطالبني بالحديث عنها، وما كانت هاتان السنتان إلا البداية الرائعة لها". إنها سنة 1951 التي وصفها ب"السنة العجائبية". فما الذي كان جبرا سيكتبه عن السنوات الاربعين التالية؟ لقد أدرك انه سيتركها "في انتظار من له القدرة والصبر والحب لاستقرائه من أوراق ورسائل ومصادر لا حصر لها، هذا إذا لم تبددها الزوابع أو تغرقها السيول". مئتان وثلاث وخمسون صفحة من القطع المتوسط. فكرت وأنا أبدأ بقراءتها، كيف ستتسع لحياة شخص مثل جبرا بكل اتساعها وعمقها وتشعباتها وتعدد عناصر ابداعها. ودهشت وأنا أبدأ القراءة من ولعه بالتفاصيل الحميمة التي تشبه تفاصيل المشاهد السينمائية، وتساءلت، كيف له مع هذا الاغراق في التفاصيل ان يلمّ بالمرتكزات والأسس والاحداث المهمة؟ إلا انه كان أوضح في مقدمته القصيرة ان سيرته الثقافة تضمنتها كتبه ودراساته ورواياته، وانه في هذا الكتاب سيركز على أهم سنتين اعتبرهما منعطفاً اساسياً في حياته في جميع جوانبها الثقافية والاجتماعية والعاطفية والابداعية. ولعل رحيل زوجته مطلع التسعينات استقطب هذا الجزء من سيرة جبرا لينتهي بأن يصبح استذكاراً حميماً لعلاقتهما ونحتاً بارعاً بالكلمات لنصب امرأة حياته. ما أثار اهتمامي في "شارع الأميرات" هو صورة بغداد في عيني جبرا، خصوصاً مقارنتها بمئات الصور التي رسمها لها قصاصون وروائيون عراقيون منذ كتب جبرا روايته الأولى فيها وعنها "صيادون في شارع ضيق" وحتى الآن. كيف رأى جبرا بغداد عام 1949 بعدما أصبح استاذاً في أول كلية أسست فيها؟ طلاب متفوقون اختيروا من الأوائل في مدارسهم لإعدادهم للذهاب في بعثات الى جامعات أوروبا واميركا، حركة تنقيب آثارية واسعة اتاحت له التعرف الى آثاريين دعموا في ذهنه صورة العراق الحضارية الموغلة في القيم، اساتذة أجانب وعرب وعراقيون، تخرجوا في جامعات غربية مرموقة، فنانون وأدباء شباب مصممون على انجاز حداثتهم وحداثة العراق الأدبية والفنية، مسرحيات تعرض باللغة الانكليزية، معارض فنية، محاضرات، حفلات موسىقى كلاسيكية لفرقة سيمفونية عراقية ناشئة، حياة اجتماعية متفتحة تقودها نخبة اجتماعية مثقفة ومتطلعة. يصف جبرا عام 1949 - 1950 بأنه شهد: "انفتاحي العريض على بغداد أو انفتاح بغداد علي بشكل لم أكن أتوقعه أو أحلم به، وجعلني ذلك في نشاط دائم موزع بين مهام التدريس ومتعات اللقاءات بالإضافة الى الكتابة والمحاضرات العامة والترجمة". ومن المهم ملاحظة ان صورة بغداد في "شارع الأميرات" ليست صورة الحنين الذي يزين عادة عناصر الماضي ويحيطها بهالة من الإشعاع، بخاصة اذا كانت تلك العناصر تراجعت لمصلحة اخرى مضادة. ذلك ان صورة بغداد هنا تكاد تتطابق مع تلك التي تجلت في رواية "صيادون في شارع ضيق" التي بدأ جبرا كتابتها عام 1952 في اميركا بالانكليزية ثم ترجمت الى العربية بعد نشرها بأكثر من عقد من السنين. فكيف ولماذا رأى جبرا في بغداد ما لم يره الكتاب العراقيون؟ 1- كانت بغداد بيئة جديدة كل الجدة بالنسبة الى الكاتب وغير ملزمة في الوقت نفسه، أي أنها لم تكن عبئاً وجودياً، أو إرثاً، أو ذاكرة. وأتاح له ذلك ان يتفحصها بعين المكتشف وبتأثير من فطرته العاشقة لجماليات المكان، كما تجلى ذلك في البئر الأولى "المكان فلسطين" والفصول الخمسة الأولى من شارع الأميرات "المكان بريطانيا". 2- لعل بغداد وقد كانت بالنسبة اليه غامضة ومجهولة حين قرر الذهاب اليها طلباً للعمل أوحت اليه بصور سلبية، وحين صار فيها جعل يكشف ميزاتها ومكامن الجمال فيها قياساً الى توقعاته. 3- لعلها، وقد كانت بالنسبة اليه ملجأ ومصدراً للرزق جعلته يتفحص امكانات الحياة فيها بعين الراغب في التأقلم الى حين العثور على بديل لها، ومن ثم رجحت علاقاته ومنجزاته أمر اختياره لها وطناً. 4- لعله وقد ظنها مدينة متخلفة ثقافياً واجتماعياً فاجأته بصور معاكسة، بخاصة في ما يتعلق بأناسها، وفي مقدمهم المثقفون الذين وجدوا فيه مصدراً للمزيد من المعرفة وعوناً في البحث عن صيغ ابداعية متطورة مما جعله يدرك ان له دوراً بينهم، وقد أحب هذا الدور ورغب فيه وقرر ان يلعبه. 5- لا شك ان غربته ومأساة وطنه وثقافته الغربية وسعة اطلاعه لعبت جميعاً دوراً اساسياً في التحاقه بالنخبة الثقافية والطبقية مما يسر له ان يرى في بغداد جانبها المتطور عن طريق الأفراد وليس عن طريق الكتل البشرية. وسنرى ان بغداد المتنوعة، أمكنة وبشراً سرعان ما اختفت من رواياته اللاحقة لهذه المرحلة التي شكلت بالنسبة اليه الصدمة الأولى وأنتجت روايته "صيادون في شارع ضيق"، اذ انه، بعد هذه المرحلة التي سجلها في "شارع الأميرات" سوف يستقطب كلياً الى مجتمع النخبة الطبقية بشراً وأمكنة وشخوصاً وعلاقات، ولن نجد في رواياته التالية: "السفينة" و"البحث عن وليد مسعود" و"الغرف الأخرى" و"يوميات سراب عفان"، سوى الشخوص التي أحاطت بعلاقته ب"لميعة" زوجته في ما بعد، والذين وصفهم بأنهم أصبحوا أصدقاء العمر حتى النهاية. كما لن نجد من بغداد الا البيوت، والقليل من الأماكن المغلقة، ولن نرى الشوارع مثلاً إلا باعتبارها معابر وممرات، وليس أبداً باعتبارها أماكن انتماء الشخوص وتجليها وحركتها المنتجة. 6- لم تشكل النساء تحدياً اجتماعياً محبطاً لديه، فهو غريب، مثقف ومتحرر اجتماعياً - بحكم ذلك أو بدفع إضافي منه - لذا كان بإمكانه ان يعقد الصداقات مع النساء والفتيات مثلاً، الأمر الذي لا أظن كاتباً عراقياً استطاع انجازه أو التعبير عنه في أدبه. ولعل جبرا بحكم طباعه المتفتحة اساساً كان قادراً على تثمين علاقته بالمرأة من دون ان تتحول العلاقات لديه أو انصاف العلاقات أو المشاعر من طرف واحد أو الصداقات الى مآسٍ وجودية، أو موضوعات للخيبات المريرة والارتدادات والانسحاب الى أعماق الذات، كما انعكس في معظم النتاجات العراقية الروائية والقصصية في تلك المرحلة وما تلاها. 7- كان جبرا، وظل دائماً متحرراً من القيود والالزامات الايديولوجية، ولم تكن مصادر الثقافة لديه تشبثاً واقتفاء وجموداً. واظن ان عشقه للجمال وقدرته على رؤية الجمال في كل شيء جعلاه واسع الافق، رضيّ النفس، واقعياً وعملياً الى أبعد الحدود. ان هذا التحرر من الأطراف والولاءات الثقافية والسياسية والاجتماعية جعل رؤاه الفكرية والفنية تتسم بالجدة والمرونة. لعل جبرا، بسبب من هذه العوامل، رأى في بغداد ما لم يره الكتاب العراقيون. ففي واقع الحال ان روايات جبرا قدمت دائماً جانباً، أو رؤية الى الحياة العراقية لم يألفها الأدب العراقي، رؤية وصفها بعضهم - ضيقاً - بأنها سياحية، لكن واقع الأمر ان جبرا بشخصيته الانبساطية المرنة وثقافته المبكرة، وتحرره الاجتماعي - سواء بسبب غربته أو معتقداته أو طبيعته - استطاع ان يكتشف عناصر الحياة الايجابية في بغداد وان يستثمرها لصالح المشاركة فيها، بينما عملت حاجته الى التأقلم مع بيئته الجديدة، ثم قراره اختيارها وطناً "بعد زواجه من عراقية" على انتقاء جزء من هذه البيئة "أمكنة وبشراً وعلاقات" ليصبح "كلاًً" خاصاً به. رؤية جبرا الى بغداد ليست سياحية، بل وافدة، جديدة، انتقائية. وفي الواقع فإن هذه الانتقائية سبق وان تجلت في أول أعماله "صراخ في ليل طويل" التي كتبها قبل مجيئه الى بغداد. بل ان أوجه شبه عدة تجمع بينها وبين رواياته التالية، من حيث انتقاء الشخوص وادارة العلاقات عبر مستويين: مكشوف ومستور. ولعل جبرا كان سيظل انتقائياً بعد "صيادون..." حتى وان لم يستقطب اجتماعياً للنخبة الثقافية والاجتماعية العراقية التي انتمى اليها.
يقول جبرا ان أوائل الخمسينات في بغداد كانت عصر الوجودية الذهبي عند الادباء الشباب، وقد راق لمعظمهم ان يفهموا الوجودية على أنها "بوهيمية جديدة" ولكنها كانت تعني للبعض "الالتزام" بينما رآها البعض الآخر نوعاً من "العدمية" التي تتيح للفرد تجاوز القيم والفلسفات والسياسة... وفي مكان آخر من الكتاب نرى أحد أصدقاء الكاتب وهو انكليزي منذهلاً للروح الوثابة المتمردة التي شاهدها في فناني وأدباء بغداد، إلا أنه استغرب أمراً واحداً: "هذا الكلام المتواصل عن الوجودية" ولم يجد تفسيراً لهذا الاهتمام لدى ناسٍ لا يقرأون الأعمال الفرنسية إلا عن طريق الترجمة، ومع ذلك يجدون فيها ما يبهرهم ويغذي تطلعاتهم الى الجديد والمغاير. في الواقع، ان هذا التأثر بالوجودية ظل يؤثر في النتاج القصصي والروائي في العراق لفترة طويلة، ولعلها استغرقت عقد الستينات كله.
لفت انتباهي تشخيص جبرا الوسط التعليمي الجامعي في تلك المرحلة. فهو يرى ان التعليم الجامعي استقطب الشباب والشابات من جميع الطبقات، وكانت السياسة التعليمية تتسم بالديموقراطية واتاحة الفرص بغض النظر عن الانتماء الطبقي. ولكن ما حدث بالفعل انه على صعيد الشباب فإن الفقراء والمهاجرين من الأرياف جاؤوا الى التعليم العالي بقصد تحسين أوضاعهم المعيشية، بينما كانت الطبقات المرفهة ترسل ابناءها الى جامعات أوروبية واميركية. أما بالنسبة الى الفتيات، فإن العائلات الفقيرة كانت تكتفي بتعليم بناتها تعليماً ثانوياً بحيث يمكنهن العمل في التدريس، بينما تحرص العائلات الغنية على تعليم بناتها تعليماً جامعياً بقصد مواكبة التطور الاجتماعي. وهذا ما جعل الطالبات في الجامعة ينتمين في الغالب الى عائلات مرفهة، فيما زملائهن الذكور أفقر حالاً. وهذا الفارق الطبقي جعل الاختلاط بين الجنسين قليلاً وصعباً، حيث بدت الفتيات للشباب كأنهن من عالمٍ قصيّ حلمي يصعب بلوغه، وهذا ما أوجد أرضاً خصبة للشعر الغزلي الجميل. وأفترض ان ذلك انعكس في القصة والرواية انعكاساً من نوع آخر ميّز صورة الحياة في الأدب العراقي عن تلك التي عكسته روايات جبرا. في الواقع ان مايميز هذا الاختلاف هو ما يميز الاختلاف بين الحياة والأفكار المتعلقة بالحياة. فالأدب العراقي مولع بمعالجة الأفكار. والشخوص الروائية والقصصية فيه هي في معظمها رموز، أو حملة أفكار أو ممثلو فئات وطبقات. كما ان الالتزام الايديولوجي والسياسي يلقي بثقله جموداً على لغة وبناءات ورؤى الكتاب الملتزمين، كما هو الأمر مع الالتزامات الفكرية الطوعية، إذا جاز الوصف، مثل تبني الوجودية، أو الالتزامات الفنية والبنائية التي تعتقل الرؤى واللغة من حيث تحولها الى هدف للكاتب أكثر منها وسىلة لتطوير أساليب السرد وبناء العلاقات واطلاق قدرات اللغة. وبسبب من رمزية الشخوص فإن علاقاتها تتحول - بالضرورة - الى صراعات مرسومة باتجاه تحقيق هدف الكاتب الفكري أو السياسي أو الاجتماعي. ومن الطبيعي ان يغيب المكان البانورامي، وجماليات علاقة الناس بالمكان، ومن الطبيعي ان تنطفئ حركة الناس "غير المرمّزين" وبالتالي قيمة وجودهم الحقيقي، الطبيعي. وبالنسبة الى الكتاب الذين يفدون الى بغداد من الريف فإن المشكلة تصبح أكثر تعقيداً حيث تتحول المدينة في أدبهم - مكاناً وشخوصاً وعلاقات - الى عناصر تحدٍ وصراع مرير بين الواقع والموروث الفكري والاجتماعي الصلب والضاغط على الكاتب غير القادر على حسم قضاياه كفرد وكجزء من مجموع. على ان هذا التشخيص ليس بأي حال نتيجة دراسة مقارنة واسعة وعميقة للادب العراقي. بل مجرد ملاحظات استدعتها صورة الحياة العراقية في بغداد كما رآها جبرا، وهي صورة مشرقة، جذابة، غنية، دافئة، لم يستطع رؤيتها كتاب رواية وقصة آخرون عاصروه وواصلوا الكتابة طوال العقود التالية جنباً الى جنب معه، في البيئة نفسها، ووفق المعطيات ذاتها. * "شارع الاميرات" فصول من سيرة ذاتية. جبرا ابراهيم جبرا المؤسسة العربية للدراسات والنشر بيروت، ط1، 1994.