بما أن الأدب فن من فنون القول، فإنه عندما نتحدث عن الحرية في هذا المجال، غالباً ما نعني حرية اللغة الإبداعية في ممارسة وظيفة التعبير والتبليغ، عبر نص نوعي، عن كل مضمون، مهما كان نوعه وطبيعته، من دون قيد أو رقابة أو حظر أو قهر. وهذا يعني أن كل قيد في مجال الأدب، هو قيد لغوي، ما دام أنه يرمي إلى رسم حدود لفضاء القول الممكن وغير الممكن. ولهذه الحدود أسباب متعددة: سياسية، تاريخية، عقائدية، وغيرها. وعندما يكتسب مضمون ما وجوداً لغوياً وفنياً، أي أدبياً، فإنه يتحول من النطاق الخاص إلى النطاق العام، من النطاق الفردي إلى النطاق العمومي، من الوجود الذهني، الداخلي والشخصي، إلى الوجود الخارجي الذي يمنحه القابلية على التداول بين الأفراد داخل المجتمع، ما قد يجعله في حال تعارض أو تصادم مع ما هو مكرس في هذا القدر أو ذاك داخل المجتمع، عقائدياً، أخلاقياً وسياسياً إلخ... وفي هذه الحال، فإن ذلك قد يدفع ولاة الأمر، أي جهات غير أدبية، الرسميين والرمزيين، تحت تأثير ما يعتبرونه مهمتهم ووظيفتهم، بصفتهم حراس الفضاءات العمومية المذكورة وحماتها، إلى ممارسة سلطتهم المعنوية والمادية ضد ما يرونه انتهاكاً أو تهديداً أو خطراً، اتخذ لباس اللغة عبر رواية أو قصيدة أو مسرحية. وقد يذهب الأمر في مثل هذه الحال، أي في مجتمع تخضع وظيفة القول للقيود، إلى حد الحجز والمحاكمة والسجن... بيد أن هذا العامل الخارجي، أي غير الأدبي، ليس دائماً، أو على الأقل ليس وحده، الذي يدفع في كل الحالات إلى حمل الأدب على الخضوع لمقتضيات الواقع الموجود خارج النص، ذلك أن الأديب نفسه قد يمارس هذا الدور، دور الرقيب، نيابة عن السلطة بمعناها الرسمي والرمزي، من خلال ما يعرف بالرقابة الذاتية. وقد تكون هذه الرقابة الذاتية واعية، كما في المدرسة الكلاسيكية، ولكنها قد تكون أيضاً غير واعية. وقد تحدث بيار ماشري في هذا الصدد عما هو غير قابل لأن يقال، معتبراً أن المهم ليس ما يقوله الكاتب، بل ما لم يقله، داعياً النقاد إلى التوقف عند هذه الجوانب الصامتة وجعلها "تتكلم". وهذا ما يتيح أيضاً التأكيد أن النص الأدبي في كثير من الحالات ليس سوى النص المسموح به، أي المنطوق المرخص به، خصوصاً في المجتمعات الشمولية أو شبه الشمولية، كالمجتمعات العربية. ولا تمثل الحرية دائماً هدفاً في حد ذاته بالنسبة الى العمل الإبداعي، أي قيمة مطلقة، فقد تكون وسيلة لتحقيق غاية أخرى، كالصدق، كما عند السورياليين. إذ كان السورياليون يرون أن الخيالات التلقائية غير المنطقية، وغير المنظمة تمثل حقيقة أعلى وأكثر صدقاً من الأدب المدبر بإحكام. لهذا سعوا إلى التحرر، فنياً وعقائدياً وأخلاقياً، من كل القيود والقواعد التي من شأنها أن تعوق التعبير الصادق والعفوي عن الذات. كما ارتبط مطلب الحرية عند الرومانسيين بدورهم بشرط الصدق في التعبير عن الوجدان، الشيء الذي يقتضي التحرر من كل كبت فني أو ضبط اجتماعي أو قهر خلقي. وقد لا يكون مبدأ الحرية مطلباً فنياً وأدبياً، أي هادفاً إلى تحقيق أغراض ذات طبيعة أدبية، بل يسعى إلى إنجاز الحرية خارج النص، أي تحرير المتلقي، وبالتالي المجتمع، كما هو شأن الأدب الملتزم عامة. بيد أن الأدب بصفته ينتمي إلى عالم الظواهر الجمالية، لا ينجز بالضرورة جوهره وماهيته من خلال فتوحات على صعيد توسيع فضاء القول، بل بما يحققه على الصعيد الجمالي. ذلك أن كيفية القول هي التي تحدد وظيفة الأديب بصفته فناناً، بينما القول ذاته هو الأساس بالنسبة الى الفيلسوف، مثلاً. ولا يمكن الحرية التي قد يوفرها النص الأدبي على صعيد توسيع فضاء القول، أن تكتسب الفاعلية والتأثير إلا بقدر توافرها على الشرط الجمالي، بينما الشرط الجمالي في حد ذاته بوسعه الاستغناء عن شرط الحرية. ولذلك، فإن اعظم الأدباء لم يكونوا بالضرورة من محطمي التابوات والمحرمات. ولا يوجد عمل أدبي مدين في عظمته لمجرد خروجه عن الممنوع والمحرم. وعلى أية حال، فإن الحرية مستحيلة التحقيق أدبياً بصورة مطلقة، فلكون الأدب في بعد من أبعاده الأساسية اشتغالاً في اللغة، فإن المبدع لا يمكنه توظيفها، أي تحقيق غرض التوصيل والتبليغ، إلا إذا خضع لها في آن واحد، أي إلا إذا خضع لقواعدها. فاللغة ذات طبيعة استبدادية، إن جاز القول. كما يمكن الحديث أيضاً عن استبدادية الشرط الجمالي، باعتباره ثابتاً لا يمكن التمرد عليه في أي حال من الأحوال. ولهذا لا يمكن الحرية في مجال الأدب أن تتحرر من كل القيود من دون أن تقضي على نفسها كفن. وهذا هو الأمر الذي يتيح التأكيد - وفق ما يراه فيليب هامون - أن الحرية والقيد مفهومان غير متناقضين. ويمكن في الحقيقة القول إن الحرية ليست عنصراً ملازماً للعملية الإبداعية. ومن المعروف أن المذهب الكلاسيكي كان يتأسس على نفي مبدأ الحرية، إذ انه يقوم على مجموعة من القواعد الملزمة كالرقابة الذاتية، والنظام والانتقاء. وحتى الأديب الكلاسيكي ذاته هو أديب منسجم ومتكيف مع المعتقدات الأخلاقية والسياسية والجمالية السائدة في مجتمعه. لذلك سميت الكلاسيكية أيضاً بالاتباعية. ويمكن أن نذكر أيضاً مثال الشعر الكلاسيكي العربي وما تميز به من قواعد ملزمة، كالوزن والقافية، والمعتبرة كثوابت في الشعر، ما يفسر عدم اعتراف أصحابه بشعرية الشعر الحر وشرعيته، الذي سعى - كما يدل على ذلك اسمه - إلى العمل بمبدأ الحرية الفنية والتحرر من القيود والنمطية. إلى ذلك سبق ودعت الرومانسية أيضاً وعلى نطاق أوسع الى الثورة على اتباعية المذهب الكلاسيكي وتبني مبدأ الاختلاف والمخالفة، ودعت كذلك إلى رفع أي كبت فني أو ضغط اجتماعي أو قهر خلقي على المبدع. ويمكن القول إن الأدب، إبداعاً وتنظيراً، شكلاً ومضموناً، ينحو تاريخياً إما في اتجاه التركيز على مبدأ الحرية، أو على العكس، ضده. وعادة ما يستند الرأي الذي يحد من حرية الأدب إلى مذاهب وإيديولوجيات تعطي الأولوية للمجتمع على حساب الفرد، كالأفلاطونية والماركسية، وتنفي الحرية في المجتمع ككل، أو نجده في مجتمعات محافظة، شبه شمولية، لا يزال المقدس يمارس فيها سلطته، كما في المجتمعات العربية. بينما ترتبط النزعات الداعية إلى الحرية في الأدب بالاتجاهات التي تركز على الفرد، أي التي تؤمن باستقلالية الفرد على المجتمع وأولويته عليه، كالرومانسية والسوريالية والايديولوجيات البرجوازية والليبرالية عموماً. وهذا يعني أن الحرية - ليس فقط في الأدب في الحقيقة - أمر مرتبط بجدلية العلاقة بين الفرد والمجتمع وبمدى الحرية السائدة ككل في المجتمع بأسره. تبقى الحرية في آخر المطاف المبرر الذي يضفي الشرعية والحق في الوجود على كل تيار ومدرسة. كما تشكل عامل تطور وتنوع وتجاوز بنزوعها إلى تكسير هيمنة التقليد والتكرار والجمود.