هنا القسم الثاني والاخير من الدراسة التي بدأنا بنشرها الاسبوع الماضي وتتناول جوانب جديدة من حياة جبران خليل جبران واعماله. -7- في هذا السياق أيضاً، يمكن أن نفهم موقف جبران من المسيح. وشخصيّة المسيح هي من المواضيع التي شغلت جبران في مجمل كتاباته، خصوصاً في كتابه "يسوع ابن الانسان". ففي هذا الكتاب يقدّم جبران رؤية متكاملة للمسيح، وهي رؤية تأتي من خارج العقيدة المسيحيّة. في هذا الكتاب أيضاً، نستمع إلى مريم المجدليّة كيف تصف جمال يسوع وتناسق جسده فتقول: "حدّقت إليه طويلاً، فارتعشت نفسي في أعماقي لأنّه كان جميلاً. كان جسمه فريداً وقد تناسبت أعضاؤه، حتّى خيّل إليّ أنّ كلاًّ منها مسحور بحبّ رفيقه". وفي مكان آخر تصف مشيته، تقول: "إنّه لم يكن يمشي. فهو نفسه كان طريقاً فوق الطريق". وفي كتابه "رمل وزبد" يطالعنا الموقف ذاته الذي طالعنا في كتابه "يسوع ابن الانسان"، وذلك عندما نسمعه يقول إنّ ليسوع ثلاث عجائب لم تُكتب بعد في الكتاب: الأولى منها أنّه "كان إنساناً مثلي ومثلك". رؤية جبران للمسيح بما هو المخلوق الأمثل، التجسيد للمثالية القصوى، تأتي في سياق بعض الكتابات التي عرفها القرن التاسع عشر، ومنها ما كتبه الكاتب الفرنسي ارنست رينانErnest Renan حول المسيح. وتجد هذه الرؤية صدى لها في المذهب الأريوسي arianisme الذي حاربته المسيحيّة في القرن الرابع الميلادي. واعتبر هذا المذهب أنّ المسيح هو المثال الأعلى للانسان من دون أن يكون إلهاً. ردّاً على هذا الموقف، أكّدت الكنيسة على ألوهة الابن، الإله الكامل والانسان الكامل، وأعلنت أنّه مساوٍ للأب في الجوهر. ورغم أنّ المذهب الأريوسي مات كمذهب، فإنّ ثمّة قراءات للمسيح لا تزال، حتّى اليوم، تعتمد على النهج ذاته. وهذا ما طالعنا، في هذا العقد من الزمن، مع عدد من الكهنة والكتّاب المنشقّين عن الكنيسة. مسيح جبران يأتي ضمن هذا التوجُّه. وهو مسيح خرج من مسيحيّة الكنيسة ليعانق مسيحيّة إنسانيّة لا عقائديّة. وفق هذا المنطق أيضاً، يمكن أن نفهم نزوع جبران نحو وحدة الأديان، إذ ليس بالإمكان بلوغ هذه الوحدة إذا لم يكن الدين، كما وعاه جبران وكما عبّر عنه، سامياً ومنفتحاً وفوق حدود العقائد. وهذا الفهم للدين هو من الخصائص التي تميّز بها. -8- جبران كواحد من روّاد النهضة الاصلاحيين. وهو فهم للانسان ولعلاقته بالكون. وهذا ما يتّضح بصورة جليّة أيضاً في مقطوعة بعنوان "الله" وردت في كتاب "المجنون" …. الجنون، هنا، ريح عاتية تخرّب ولا تبالي. تنظر إلى الهدم بوصفه لحظة بناء جديد. شخصيّة المجنون حاضرة بقوّة في نتاج جبران ولها أهميّة كبيرة في تفكيره. المجنون، عند جبران، مرادف لمن يهدم القيم والتقاليد المتوارثة البالية، ولا يبالي بنتائج مواقفه الحاسمة. وهو نفسه يقول في قصّة "يوحنّا المجنون" إنّ "المجنون هو الذي يتجرّأ على قول الحقّ". وأثناء كتابته "المجنون"، كتب رسالة إلى ماري هاسكل يحدّثها فيها عن مجنونه: "إنّي أفيء إليه كلّما كنت مريضاً أو متعباً. إنّه سلاحي الوحيد في هذا العالم المسلّح تسليحاً غريباً". هكذا يتبدّى الجنون، هنا، شكلاً من أشكال القدرة على المواجهة والانعتاق والدهشة والصحّة الروحيّة. -9- لم يتوقّف رفض جبران عند هذا الحدّ، بل هو تناول أيضاً وضع المرأة. وهذا ما يطالعنا في عدد من نتاجاته حيث تظهر المرأة بموضع الضعف والإهانة، مستلبة ومقهورة ومُدانة. الشخصيّات النسائيّة في أدبه تَعِسة، خاطئة، متزوّجة ممّن لا تُحبّ، مطعونة في ذاتها، ضحيّة التقاليد ومتمرّدة عليها في آن واحد. في "الأجنحة المتكسّرة"، ترفع سلمى رأسها نحو السماء، مثل أيّوب، في التوراة، وتصرخ قائلة: "ماذا فعلت المرأة يا ربّ فاستحقّت غضبك؟ ماذا أتت من الذنوب ليتبعها سخطك إلى آخر الدهور؟ هل اقترفت جرماً لا نهاية لفظاعته ليكون عقابك لها بغير نهاية؟ أنتَ قويّ يا ربّ وهي ضعيفة فلماذا تبيدها بالأوجاع؟". وفي علاقتها بالرجُل يقول جبران: "إنّ المدنيّة الحاضرة قد أنمت مدارك المرأة قليلاً، ولكنّها أكثرت أوجاعها بتعميم مطامع الرجل". ثمّ في موضع آخر: "إنّ الرجل يشتري المجد والعظمة والشهرة، ولكن هي المرأة التي تدفع الثمن". في قصّة "مرتا البانيّة" الواردة في كتاب "عرائس المروج"، يروي جبران حكاية تلك الفتاة التي خدعها أحد الأثرياء ثمّ أهملها فريسة الخطيئة والذلّ والأوجاع. ويقف جبران إلى جانب المرأة حتّى عندما تتعثّر وتخطىء. وتأتي نظرته إليها، هنا، قريبة من نظرة المسيح إلى الخاطئة كما وردت في الأناجيل. يقول جبران: "أنتِ مظلومة يا مرتا وظالمك هو ابن القصور، ذو المال الكثير والنفس الصغيرة ... أنتِ زهرة مسحوقة تحت أقدام الحيوان المختبئ في الهياكل البشريّة. قد داستكِ تلك النعال بقساوة، لكنّها لم تخفِ عطرك المتصاعد مع نواح الأرامل وصراخ اليتامى وتنهيدات الفقراء نحو السماء مصدر العدل والرحمة. تعزّي يا مرتا بكونك زهرة مسحوقة ولستِ قدماً ساحقة!". في القصّة الأولى من كتاب "الأرواح المتمرّدة"، وعنوانها "وردة الهاني"، تترك البطلة القصر والحلي والخدم عندما تسمع نداء الحبّ. تترك الغني الذي يكبرها سنّاً وتذهب لتعيش مع رجل فقير تحبّه. أمّا في قصّة "مضجع العروس" فيروي جبران حكاية حبّ خائب ينتهي بقتل الحبيب والانتحار. إنّها قصّة امرأة تركت عريسها ليلة العرس وذهبت لملاقاة من تحبّ، فطعنته وطعنت نفسها يأساً. وجاء على لسان حبيبها وهو يلفظ أنفاسه الأخيرة: "الحياة أضعف من الموت والموت أضعف من الحبّ". -10- وبعد أن يمعن جبران في وصفه لمعاناة المرأة ولما ألمّ بها، يتحدّث عن قلبها فيقول: "إنّ قلب المرأة لا يتغيّر مع الزمن ولا يتحوّل مع الفصول. قلب المرأة ينازع طويلاً ولكنّه لا يموت. قلب المرأة يشابه البريّة التي يتّخذها الانسان ساحة لحروبه ومذابحه، فهو يقتلع أشجارها ويحرق أعشابها ويلطّخ صخورها بالدماء ويغرس تربتها بالعظام والجماجم، ولكنّها تبقى هادئة ساكنة مطمئنّة ويظلّ فيها الربيع ربيعاً والخريف خريفاً إلى نهاية الدهور...". لم ينظر جبران إلى المرأة بمعزل عن نظرته إلى المجتمع ككلّ. وحين يصف الاضطهاد الذي تعاني منه ويتوقّف عند النظرة الدونيّة إليها والاستبداد والقهر، فإنّما كان ينظر إلى وضعها ضمن الواقع الاجتماعيّ بعامّة. وإذا كان يدعو إلى تحرّرها من العبوديّة، فإنّما كان يدعو إلى تحرّر الانسان. ويربط جبران بين وضع المرأة ووضع الأمّة فيقول متسائلاً: "أليست المرأة الضعيفة هي رمز الأمّة المظلومة؟ أليست المرأة المتوجّعة بين ميول نفسها وقيود جسدها هي كالأمّة المتعذّبة بين حكّامها وكهّانها؟ أوليست العواطف الخفيّة التي تذهب بالصبية الجميلة إلى ظلمة القبر هي كالعواصف الشديدة التي تغمر حياة الشعوب بالتراب؟". وتأتي أفكار جبران عن المرأة في سياق تلك الأفكار التي أطلقها قاسم أمين نهاية القرن الماضي وتجلّت في كتابيه "تحرير المرأة" و"المرأة الجديدة". وربط جبران بين وضعيّة المرأة وانحطاط الأمّة. ورأى أنّ ارتقاء المرأة وتحرّرها شرط لازم لتحرّر الأمّة وارتقائها، وأنّ مشروع النهوض لا يكون إلاّ شاملاً متكاملاً. صحيح أنّ جبران لا يحلّل بصورة علميّة الصراع بين التيّارات الدينيّة والعلمانيّة، ولا يدرس النتائج التي ترتّبت على التحوّل الاجتماعي في تاريخنا الحديث والذي لا تزال بعض معالمه قائمة حتّى اليوم، إلاّ أنّ موقفه من بعض المسائل والتي برزت بالأخصّ، في نتاجه المكتوب بالعربيّة، كان واضحاً وحاسماً، وهو موقف ينتصر، كما رأينا، للعدالة والحريّة والعلم، ضدّ العبوديّة والرقّ والخرافة. -11- وكم تبدو مساهمة جبران مهمّة عندما نلاحظ مدى التراجع العامّ في المجتمعات العربيّة والذي أصاب، في ما أصاب، النظرة إلى المرأة. وهو تراجع عن منجزات محدودة كانت حقّقتها المسيرة النسائيّة حتّى الستينات من هذا القرن، وعن طروحات كنّا شهدناها مع قاسم أمين وهدى شعراوي وغيرهما. ويأتي هذا التراجع كامتداد لصعود الأصوليّات وازدياد التعصّب والتشدّد الديني، وكانعكاس لحالة انهيار على المستوى القومي العامّ. يأتي أخيراً موضوع اللغة، وهو أحد المحاور الأساسيّة التي تطرّق إليها جبران أيضاً، ولا تزال مناقشتها قائمة. لقد وعى جبران أهميّة دور اللغة في المجتمعات العربيّة، ورأى أنّ فهم هذا الدور لا ينفصل عن فهم الواقع الثقافي والاجتماعي ككلّ، وهو ما عبّر عنه في مقالته "مستقبل اللغة العربيّة". ويعتبر، بدايةً، أنّ مستقبل اللغة العربيّة يتوقّف على مستقبل الفكر المبدع. فإن كان ذلك الفكر موجوداً، كان مستقبل اللغة عظيماً كماضيها، وإن كان غير موجود فمستقبلها سيكون كحاضر شقيقتيها السريانيّة والعبرانيّة. وستكون بلا مستقبل أيضاً إذا لم تعرف كيف تستوعب تأثير التمدين الأوروبي والروح الغربيّة، وإذا لم تعرف كيف تستخرج الصالح منهما إلى كيانها الخاصّ. وفي ذلك إشارة بيّنة لأشكال العلاقة بين الشرق والغرب، ولكيفيّة التعامل مع الآخر والتحاور معه على أساس من التفاعل لا من ردّ الفعل فحسب. وأشار جبران إلى مسألة لا تزال شديدة الأهميّة في مجتمعاتنا العربيّة اليوم، بخاصّة في لبنان، عندما قال: "لا يعمّ انتشار اللغة في المدارس العالية وغير العالية حتّى تصبح تلك المدارس ذات صبغة وطنيّة مجرّدة - ولن تعلّم بها جميع العلوم حتّى تنتقل المدارس من أيدي الجمعيّات الخيريّة واللجان الطائفيّة والبعثات الدينيّة إلى أيدي الحكومات المحليّة... حتّى يصير الواحد منّا ابناً لوطن واحد بدلاً من وطنين متناقضين". أمّا عن علاقة اللغة العربيّة الفصحى باللهجات العاميّة المختلفة، وهل تتغلّب عليها وتوحّدها، فيرى جبران أنّ اللهجات العاميّة "مصدر ما ندعوه فصيحاً من الكلام"، -12- و"أنّ اللغات تتبع مثل كلّ شيء آخر سنّة بقاء الأنسب". ويعتبر أيضاً أنّ الشاعر العظيم هو القادر على إحياء اللغة، لأنّه الوسيط بين قوّة الابتكار والبشر، وهذا ما حدث، على سبيل المثال، مع اللغة الايطاليّة. فاللغة الإيطاليّة الحديثة كانت لهجة عاميّة في القرون الوسطى، ولكن لمّا نظم بها دانته وغيره من الشعراء الكبار قصائدهم وموشّحاتهم، أصبحت تلك اللهجة لغة إيطاليا الفصحى. كان جبران، إلى ذلك، يدرك أبعاد العلاقة بين الكاتب واللغة. بينه هو نفسه واللغة. كان يريد أن يقول الأشياء بطريقة جديدة ومختلفة. وهذا ما عبّر عنه لماري هاسكل بقوله: "الطرُق القديمة لم تكن تعبّر عن أشيائي الجديدة. وهكذا كنت أعمل دائماً على ما ينبغي أن يعبّر عنها ولم أقتصر على صياغة ألفاظ جديدة. بل أنّ إيقاعاتي وموسيقاي كانت جديدة - وأشكال التأليف كلّها كانت جديدة. كان عليّ أن أجد أشكالاً جديدة لأفكار جديدة". وهذا ما يعني كذلك وعيه لمشروعه التغييري داخل اللغة والأدب العربيّين يبقى السؤال مطروحاً حول طريقة تجسيده لهذا المشروع، ومدى توقه إلى إنجاز الأفضل دائماً. يقول لماري هاسكل: "إنّي أريد أن أُحَبّ للأشياء التي لم أقم بعملها بعد". -13- يعرف جبران أنّ هاجسه جماليٌّ في المقام الأوّل. وهذا ما يلاحظه هو نفسه بقوله: "أنا لست مفكّراً. أنا خالق أشكال". وهو، على هذا الأساس، يلتفت إلى التغيير والمستقبل. فهو، كما تبيّن، عدوّ التقاليد والثبوت في الماضي. يكتب لماري: "أعرف أنّه لن يكون بوسعي أن أستثير اهتمام أولئك الذين يعبدون آلهة قديمة ويتبعون أفكاراً قديمة ويعيشون برغائب قديمة". وهو يدرك أنّه يتوجّه إلى القادرين على التحرّر من "سائر قيود الأمس"، وهؤلاء هم، بحسب رأيه، أشدّ الجميع قوّة. عندما وصل جبران إلى بوسطن عام 1895، وبعدها بسنوات إلى نيويورك، كانت أميركا تعيش تحوّلات اقتصاديّة واجتماعيّة وثقافيّة كبيرة. كانت رمزاً للتطوّر الصناعي ولقدرة العالم التكنولوجي. كذلك الأمر عندما وصل عام 1908 إلى باريس لتعميق معرفته بالفنون التشكيليّة، وكانت العاصمة الفرنسيّة يومذاك تشهد انتفاضات ثقافيّة وفنيّة وأدبيّة كبيرة. وهي انتفاضات تشكّل امتداداً للحداثة التي شهدها الغرب في القرن التاسع عشر. ولا بدّ من الإشارة إلى أنّ تلك الحداثة الابداعيّة في الآداب والفنون كانت تواكب ثورة فعليّة على مستويات عدّة، فكريّة وفلسفيّة وتقنيّة وتكنولوجيّة مختلفة. لكن مَن يقرأ نتاج جبران الأدبي ويرى إلى أعماله الفنيّة، يتساءل عن مدى انفتاح جبران على تلك التحوّلات والانتفاضات وتأثّره الفعليّ بها. ولا يبدو أنّ جبران التفت بتمعّن إلى التجارب الفنيّة الجديدة التي كان الغرب مسرحاً لها آنذاك. بل أنّه عبّر، أحياناً، عن موقف سلبي حيالها، معتبراً أنّها مجرّد تجارب عرضيّة لا تمسّ جوهر الفنّ. وهذا ما تكشف عنه يوميّات ماري هاسكل وبعض رسائل جبران إليها، وكذلك ذكريات صديقه النحّات يوسف الحويك في باريس. فضّل جبران البقاء في إطار الفنّ الكلاسيكي الذي عرفه القرن الماضي، سليل فنّ النهضة الإيطاليّة. وهو اعتبر، كما أشرنا، أنّ هذا الفنّ سوف يبقى وما دونه سيسقط مع الزمن. وهذا ما يجعلنا نفهم علاقته وتأثّره بفنّانين من أمثال وليام بلايك وكاريير وأوديلون رودون وأوغست رودان وبوفيس دو شافان... إلاّ أنّ عدم التفات جبران إلى مسار التطوّر الفنّي والأسئلة الفنيّة الجديدة التي كان يطرحها الفنّانون في تلك الحقبة، لم يمنعه من الالتفات إلى واقع تلك المجتمعات التي تغلّب المادّة و"تسير على عجلات". أمّا موقفه من المجتمع المصنَّع ومن هيمنة الآلة فيطالعنا في مخطوط غير منشور موجود في "متحف جبران" في بشرّي. وفي هذا المخطوط ينتقد جبران المبالغة في تفسير كلّ أمور الحياة، بما فيها المسائل الروحيّة، بصورة آليّة، وبأسلوب آلي. -14- لكن هذا الانتقاد لهيمنة اللغة الآليّة والتفسير الآلي لشؤون الحياة المعاصرة لا يعني، بالنسبة إليه، رفض كلّ شيء في عصره ومحيطه والعيش بالذكرى في ما مضى من العصور، ولا يعني أنّ من يشتغل بالفنون الجميلة يكره الأمور العمليّة وينكر الآليات والرياضيات، بل هو يوضّح رأيه بقوله إنّه "يؤمن بوحدانيّة الحياة"، ويقول بهذا الصدد: "أؤمن بضجّة الآلات الحديديّة إيماني بتغريدة الشحرور في غابة منفردة بين التلول. أؤمن بالعلوم العمليّة المؤسّسة على الاستقراء الحسّي إيماني بتلك الأشعّة الخفيّة التي تلامس أرواحنا فننظم قصيدة أو ننشد أغنية أو نرسم صورة. أؤمن بالرياضيات وأعانق جسدها المثلج إيماني بمواكب الأحلام التي نراها ونحن مستيقظون...""الحياة". وينبع هذا الإيمان، لدى جبران وبحسب تفسيره، من أنّه ينبغي ألاّ نتوهّم أنّ "شجرة الحياة لا تعطي سوى ثمرة واحدة". وفي حفل أُقيم في أميركا، عام 1920، لتكريم طاغور، قامت مشادة بين جبران وطاغور حول أميركا. فطاغور صوّر أميركا بلداً جشعاً متهالكاً على المادّة، وانبرى له جبران يقول إنّ الروح قد تتجلّى في الآلة، وإنّ المادّي والروحي ليسا بالمتضاربَين، لكن الروح توجد في الحياة كلّها وفي كافة الأشياء. ويشكّل موقف جبران هذا، بالإضافة إلى موقفه من العلاقة بالغرب، الوارد في مقالته "مستقبل اللغة العربيّة"، أساساً أوّلياً لحوار ثقافي بين الشرق والغرب، بعيداً عن الأفكار المسبقة. إنّ ما يميّز جبران، في أدبه ومواقفه وأفكاره، هو، كما سبق أن رأينا، تركيزه على الانسان في علاقته مع نفسه، مع الآخر ومع الكون، إنطلاقاً من نزعة إنسانيّة خالصة. فهو فوق التعصّب الديني والقومي وفوق الانتماءات الضيّقة. وهو مع ما يفتح الآفاق ويوسّع الأماكن. إنّه مع هذه النزعة التي توحّد بين الانسان والطبيعة، ونجد أصداء لها عند بوذا وفي الثقافة الهنديّة السابقة لوصول كولومبس إلى أميركا…. -15- ومهما اختلفت الآراء في نتاج جبران الأدبي والفنّي، فإنّ صاحب كتاب "النبي" يبقى رائداً ومجدّداً. وكذلك فإنّ آراءه في بعض المسائل، كتلك التي تطرّقنا إليها هنا الآن، لا تزال حيّة، تحمل ردّاً على عصور التطرّف والظلامية التي تجتاح منطقتنا اليوم. هكذا تبقى تجربة جبران، بالإضافة إلى كونها شرفة مفتوحة على العالم، محطّة فاصلة في تاريخ الثقافة العربيّة الحديثة، وهي محطّة جاء من يرفدها من بعده بروافد أخرى، ويمدّها بِطاقات جديدة. فثمّة مبدعون لم ينكفئوا عن العطاء أمام الصراعات السياسيّة الخطيرة وأمام الحروب المتواصلة، بل استمرّوا يعبّرون عن الروح العميقة لشعبهم، مؤكّدين، عبر الكتابة والفنّ دائماً، انتماءهم إلى ما يجعل الحياة تستحقّ الحياة. * في سياق التظاهرة الثقافيّة اللبنانيّة التي تقام في "معهد العالم في باريس"، يُقام من السادس والعشرين من تشرين الأوّل/أكتوبر وحتّى السابع عشر من كانون الثاني/ يناير، وفي موازاة معرض "لبنان، الضفّة الأخرى"، معرض بعنوان "جبران خليل جبران فنّان ورؤيويّ"، يواكبه كاتالوغ فخم من إشراف عيسى مخلوف.