قال الرئيس الفرنسي الراحل بومبيدو انه يعرف ثلاث طرق مضمونة لإهدار المال: الخيل، والنساء، ومشورة الخبراء. الاولى هي الاسرع، والثانية هي الاكثر متعة، والثالثة هي الموثوقة اكثر من سواها. حسناً، كانت حرباً سيئة بالنسبة الى الخبراء، تماماً كما كانت الحال في 1991. تنبأنا بأن صدام سيستخدم اسلحة كيماوية او بيولوجية، ويفجّر حقول النفط، ويغرق الاهوار في الجنوب، ويستدرج الاميركيين الى حصار طويل ودموي لبغداد. لم يحدث أي من هذه الاشياء. زُرعت متفجرات في بعض حقول النفط، لكنها لم تُفجّر. وقُتل او اصيب بجروح عدد غير معروف من العراقيين، لكن لم يسقط مئات الآلاف كما تنبأ بعض المعلقين. صحيح ان مسؤولين اميركيين توقعوا هم ايضاً بعض هذه المخاطر. وصحيح ايضاً ان بعض الكلاب التي لم تنبح قد تفعل ذلك انظر ادناه. لكن النقد الذاتي مفيد. كانت حرباً سيئة بالنسبة الى وسائل الاعلام، بغض النظر عما قد يدعيه اقطاب الاعلام. وادى نظام "زرع" صحافيين غربيين مع القوات الاميركية والبريطانية الى التوهم بأنهم يغطون مجريات الحرب. لكنهم في الواقع انتجوا صخباً وانفعالاً وغباراً اكثر من التنوير. شاهدنا ما سُمح لنا بمشاهدته. وبقيت الصورة الكبيرة محيّرة. بالاضافة الى ذلك، في زمن تنتقل فيه عدوى رذائل الصحف الشعبية الى وسائل الاعلام الراقية كما يُفترض، كان هناك قدر كبير من الشوفينية والاثارة والخطأ الواضح. ويتبادر الى الذهن بهذا الشأن تلك الانتفاضة التي لم تقع ابداً في البصرة، او الفتوى الوهمية لأرفع رجال الدين الشيعة مقاماً في النجف. في كلا الحالتين، ساعد خبراء الدعاية البريطانيون والاميركيون على انتاج الخطأ، لكن ذلك لا يبرىء الصحافيين من مسؤوليتهم. كانت هناك بالفعل حالات استثنائية لافراد اثبتوا ان العمل الصحافي الشجاع والعميق الاطلاع لا يزال ممكناً، حتى في ظروف صعبة. ومن بين المراسلين الغربيين في بغداد، يمكن أن اشير خصوصاً الى جون برنز من "نيويورك تايمز" وانتوني شديد من "واشنطن بوست". اما بالنسبة الى وسائل الاعلام العربية، فيفرحني ان تتمتع بحرياتها المكتشفة حديثاً، لكن من الصعب ان اصدق ان تغطيتها الاخبارية للحرب كانت نافعة للجمهور العربي. وكانت اطاحة تمثال صدام في بغداد في 9 نيسان ابريل - اليوم ال21 للحرب - صدمة عنيفة للعرب الذين قُدّمت اليهم مادة اعلامية تخلو من النقد النزيه تصوّر تصدي الشعب العراقي ببسالة للقوة العظمى الامبريالية. لكن من اساء منا تفسير بعض جوانب الحرب ربما كان على صواب في التحذير من ان كسب السلام سيكون صعباً ومكلفاً على السواء. ويكتشف الاميركيون ان كره العراقيين لصدام لا يُترجم بالضرورة الى حب من العراقيين لاميركا. وعلى رغم ان العراقيين عانوا ثلاثة حروب واكثر من 12 عاماً من العقوبات الدولية القاسية، فإنهم لم يفقدوا كرامتهم الوطنية. انهم لا يظهرون اي رغبة في الخضوع للاحتلال ولا يزالون مشككين بنيات الاميركيين. وتتحرك الحياة السياسية في مرحلة ما بعد الحرب بسرعة وتعقيد محيرين. وبعد اكثر من ثلاثة عقود من الطغيان، تبرز قوى بالغة التنوع مع ادعاءات بأحقيتها في السلطة محلياً او وطنياً. ويدعي زعماء، سواءً كانوا صادقين او زائفين، انهم يمثلون جماعات اثنية عرب، كرد، تركمان او دينية او عشائرية. ولدى هؤلاء جميعاً اجندتهم وولاءاتهم الخاصة، وليس من السهل دائماً معرفتها. وعلى رغم ان المقارنة بين العراقوافغانستان غالباً ما تكون خاطئة، يمكن بالفعل ان نتصور تطور لعبة من التنافس الاقليمي على العراق، تماماً مثل "اللعبة الكبرى" التي استمرت لقرون في افغانستان وحولها. فتركيا وايران وسورية ودول الخليج كلها تملك مصلحة في عراق ما بعد صدام، وكلها ترعى حلفاء عراقيين محليين. وكان نهوض الشيعة من بين الظواهر الابرز خلال الايام القليلة الماضية. فقد اصبح في امكان الشيعة الآن، بعد قمع طويل على يد صدام، ان يظهروا رموزهم الدينية ويمارسوا شعائرهم بحرية اكتشفوها حديثاً. وادى انبعاثهم بالفعل الى اطلاق شرارة صراع بين عائلات دينية متنافسة. وفي 10 نيسان ابريل الجاري، سقطت اول ضحية لهذا الصراع عندما قتل في النجف عبد المجيد الخوئي، رجل الدين الشيعي البارز والمعتدل الذي كان عاد لتوه من المنفى في لندن. واذا عززت المزيد من الجماعات المتطرفة حضورها، فإن ذلك قد يولّد عقدة ارتياب لدى السنة. ويبدو ان بعض رجال الدين الشيعة يعي مخاطر التوتر الطائفي ويحاول ان يطمئن الأقلية السنية - والمسيحية - الى انه ليس هناك ما تخشاه. هل سيصبح العراق كويت ثانية او لبنان ثانية؟ ان الشعور الوطني العراقي - وهو شيء يبدو ان الاميركيين استخفوا به - قوة ذات طاقة موحّدة. ومعظم العراقيين، من ضمنهم كثرة من الشيعة، يرفضون النموذج الايراني لحكم رجال الدين. لكن فرض سلام اميركي جديد بشكل أخرق، الى جانب الانقسامات الفئوية في صفوف العراقيين والتدخل من قبل الدول المجاورة، قد يطلق ردة فعل مضادة يمكن ان تهدد العراق والمنطقة. * كاتب بريطاني.